استئناف العلاقات الأوكرانية–السورية:
قراءة استراتيجية في الأبعاد والتحولات
Доктор Саїд Саллам - директор Vision Center for Strategic Studies
6\10\2025
يشهد الشرق الأوسط منذ سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024 تحولات جذرية أعادت رسم خريطة التحالفات الإقليمية والدولية. وفي هذا السياق، جاء إعلان استئناف العلاقات الدبلوماسية بين أوكرانيا وسوريا في 24 سبتمبر 2025، بعد قطيعة استمرت منذ يونيو 2022، ليشكل محطة استراتيجية بارزة. الإعلان، الذي تم خلال لقاء الرئيسين فولوديمير زيلينسكي وأحمد الشرع على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، يعكس إرادة سياسية مزدوجة: من جانب كييف لتوسيع نفوذها في الشرق الأوسط، ومن جانب دمشق لإعادة الانفتاح على المجتمع الدولي وتنويع شراكاتها الخارجية.
تعود جذور الأزمة بين البلدين إلى يونيو 2022، حين اتخذت أوكرانيا قراراً استراتيجياً بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع دمشق، وذلك رداً على اعتراف النظام السوري السابق باستقلال المناطق الأوكرانية المحتلة من قبل روسيا في دونيتسك ولوغانسك. هذا الموقف السوري لم يكن مجرد خطوة رمزية، بل عكس اصطفافاً كاملاً مع موسكو في لحظة كانت فيها كييف تخوض صراعاً وجودياً ضد الغزو الروسي. لقد جاء القرار السوري امتداداً لعلاقة استراتيجية عميقة نسجها نظام بشار الأسد مع روسيا منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، حيث وفّرت موسكو مظلة سياسية وعسكرية حاسمة لبقاء النظام، مقابل منحها نفوذاً واسعاً في البنية الأمنية والاقتصادية السورية.
هذا الانحياز جعل من استمرار العلاقات بين الدولتين أمراً مستحيلاً، إذ اعتبرته أوكرانيا خرقاً مباشراً لسيادتها وتهديداً لأمنها القومي. ومنذ تلك اللحظة، دخلت العلاقات الأوكرانية–السورية في مرحلة قطيعة كاملة، ترافقت مع عزلة متزايدة للنظام السوري على الساحة الدولية، وتراجع قدرته على المناورة خارج الفلك الروسي–الإيراني.
غير أن سقوط النظام السابق في ديسمبر 2024 مثّل نقطة تحول كبرى في المعادلات الإقليمية والدولية. فقدت روسيا حليفها الأبرز في الشرق الأوسط، وهو ما شكّل ضربة استراتيجية لمكانتها في المنطقة، خاصة مع انشغالها بالحرب في أوكرانيا وتراجع قدرتها على الاستثمار العسكري والاقتصادي في الخارج. كما تراجع النفوذ الإيراني الذي كان يعتمد على تحالفه الوثيق مع دمشق، ليجد نفسه أمام واقع جديد يحد من قدرته على التأثير في مسار الأحداث السورية.
هذا الفراغ الاستراتيجي أوجد بيئة خصبة لتدخل قوى إقليمية ودولية جديدة، ساعية لإعادة تشكيل التوازنات في سوريا والمنطقة. وفي مقدمة هذه القوى برزت أوكرانيا، التي رأت في التحول السوري فرصة نادرة لتوسيع حضورها الدبلوماسي في الشرق الأوسط، وبناء شراكات جديدة تخدم أهدافها في مواجهة روسيا، وتعزز مكانتها كفاعل دولي قادر على التأثير في ملفات تتجاوز حدودها الجغرافية المباشرة.
كما أن أوروبا تابعت هذا التحول باهتمام بالغ، إذ رأت فيه فرصة لتقليص النفوذ الروسي في الشرق الأوسط وتعزيز مسار إعادة دمج سوريا في النظام الدولي وفق قواعد جديدة. الاتحاد الأوروبي، الذي ظل لسنوات متردداً في الانخراط المباشر في الملف السوري، يجد في انفتاح دمشق على كييف مؤشراً على إمكانية إعادة صياغة العلاقات مع سوريا بطريقة أكثر استقلالية عن موسكو وطهران، مع ربط أي دعم اقتصادي أو سياسي بعملية إصلاح داخلي حقيقية.
أما الدول العربية، فقد تعاملت مع هذا التحول باعتباره مدخلاً لإعادة سوريا إلى محيطها العربي، لكن ضمن معادلة جديدة تراعي التوازنات الإقليمية وتحد من النفوذ الإيراني والروسي. بعض العواصم العربية رأت في التقارب الأوكراني–السوري فرصة لتعزيز التعاون الثلاثي (العربي–الأوكراني–السوري) في مجالات الأمن الغذائي والطاقة وإعادة الإعمار، بما يفتح الباب أمام شراكات أوسع بين الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية.
وبذلك، فإن استئناف العلاقات بين كييف ودمشق لم يكن مجرد خطوة ثنائية، بل تحوّل استراتيجي أعاد إدماج سوريا في شبكة أوسع من التفاعلات الدولية، وفتح أمام أوكرانيا نافذة لتعزيز حضورها في منطقة لطالما كانت ساحة تنافس بين القوى الكبرى.
التحركات الدبلوماسية المبكرة
أدركت كييف سريعاً حجم الفرص التي أتاحها التغيير السياسي في دمشق، فبادرت إلى التحرك الدبلوماسي دون إبطاء. ففي يناير 2025، قام وزير الخارجية الأوكراني بزيارة تاريخية إلى سوريا، رافقه فيها وزير الزراعة، في إشارة واضحة إلى أن الأولوية الأولى للعلاقات الجديدة ستكون التعاون الاقتصادي والإنساني. هذه الزيارة لم تكن مجرد بروتوكول دبلوماسي، بل أقرب إلى بعثة استكشافية شاملة، إذ انخرط الوفد الأوكراني في محادثات معمقة مع المسؤولين السوريين تناولت ملفات حيوية مثل الزراعة، الأمن الغذائي، الطاقة، وإعادة الإعمار، مع التركيز على استكشاف فرص عملية يمكن البناء عليها سريعاً.
وقد عكست طبيعة الوفد المرافق – بوجود وزير الزراعة – إدراك كييف أن سوريا الخارجة من حرب طويلة تحتاج إلى حلول عاجلة في مجال الأمن الغذائي، وأن أوكرانيا، بصفتها أحد أكبر منتجي الحبوب في العالم، قادرة على لعب دور محوري في هذا المجال. ومن هنا جاء إعلان الرئيس زيلينسكي عن إرسال شحنة مساعدات غذائية إلى سوريا، في خطوة ذات دلالات رمزية ومضمونة في آن واحد: رمزية من حيث تأكيد التضامن مع الشعب السوري في مرحلة انتقالية حساسة، ومضمونة من حيث إظهار الاستعداد لتقديم دعم عملي وملموس يتجاوز الخطاب السياسي.
كما حملت هذه الزيارة رسالة سياسية أوسع، مفادها أن أوكرانيا لا تنظر إلى سوريا فقط كساحة للتعاون الثنائي، بل كبوابة للانخراط في الشرق الأوسط بأسره. فالتعاون في مجالات الطاقة وإعادة الإعمار يفتح الباب أمام شراكات ثلاثية أو متعددة الأطراف مع دول عربية وإقليمية أخرى، بما يعزز مكانة كييف كفاعل دولي قادر على تقديم حلول عملية في قضايا الأمن الغذائي والطاقة وإعادة البناء. وبذلك، فإن الزيارة لم تكن مجرد بداية لعلاقات ثنائية، بل خطوة استراتيجية تهدف إلى إعادة تموضع أوكرانيا في منطقة تشهد إعادة تشكيل واسعة لموازين القوى.
الأبعاد الاستراتيجية للعلاقات
استئناف العلاقات بين أوكرانيا وسوريا لا يمكن النظر إليه بمعزل عن السياق الأوسع للصراع الدولي الدائر بين كييف وموسكو. فهو يمثل جزءاً من استراتيجية أوكرانية أوسع تهدف إلى تقويض النفوذ الروسي في الشرق الأوسط عبر بناء علاقات مع حكومة سورية جديدة غير مرتبطة عضوياً بموسكو كما كان الحال في عهد النظام السابق. هذا التحرك يمنح أوكرانيا فرصة لإعادة التموضع في منطقة طالما كانت ساحة نفوذ روسي–إيراني، ويتيح لها توسيع شبكة تحالفاتها الدبلوماسية بما يدعم موقفها في مواجهة روسيا على الساحة الدولية. كما يسهم في ترسيخ مكانة كييف كفاعل إقليمي قادر على التأثير خارج حدودها المباشرة، ويعزز صورتها كدولة قادرة على تقديم بدائل عملية للشركاء في الشرق الأوسط في مجالات الأمن، الغذاء، والطاقة. ومن منظور أوسع، فإن هذا الانخراط يفتح الباب أمام أوكرانيا لتكون جزءاً من إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية في مرحلة ما بعد الأسد، حيث تتنافس قوى متعددة على ملء الفراغ الاستراتيجي الذي خلّفه تراجع النفوذ الروسي والإيراني.
ويحمل التعاون الاقتصادي بين البلدين إمكانات تكاملية واعدة تتجاوز مجرد التبادل التجاري. فأوكرانيا، بصفتها أحد أكبر منتجي الحبوب في العالم، تستطيع تلبية احتياجات سوريا من القمح والمنتجات الزراعية الأساسية، بما يسهم في تعزيز الأمن الغذائي السوري في مرحلة إعادة البناء. كما يمكنها نقل خبراتها في التقنيات الزراعية الحديثة، بما يساعد على تطوير القطاع الزراعي السوري وزيادة إنتاجيته. في المقابل، تمتلك سوريا موارد طبيعية مهمة مثل الفوسفات والغاز الطبيعي، يمكن أن تشكل رافعة للصناعات الأوكرانية وتفتح أسواقاً جديدة أمام دمشق. إلى جانب ذلك، تمثل مشاريع إعادة الإعمار في سوريا فرصة استثمارية ضخمة للشركات الأوكرانية، خاصة في مجالات البنية التحتية، الإسكان، والطاقة، حيث تحتاج سوريا إلى استثمارات هائلة لإعادة بناء ما دمرته الحرب. هذا التعاون الاقتصادي لا يقتصر على البعد الثنائي، بل يمكن أن يتطور إلى شراكات ثلاثية أو متعددة الأطراف مع دول عربية وأوروبية، بما يعزز اندماج سوريا في الاقتصاد الإقليمي والدولي ويمنح أوكرانيا دوراً محورياً في هذه العملية.
كذلك يحتل التعاون الأمني موقعاً محورياً في العلاقات الجديدة، إذ يواجه البلدان تحديات أمنية متشابهة تتطلب تبادل الخبرات وبناء قدرات مشتركة. بالنسبة لسوريا، فإن الاستفادة من خبرات أوكرانيا في مواجهة التهديدات الهجينة والحرب المعلوماتية يشكل إضافة نوعية لجهودها في بناء مؤسسات أمنية حديثة قادرة على التعامل مع التحديات المعقدة. أما بالنسبة لأوكرانيا، فإن التعاون مع سوريا في مجال مكافحة الإرهاب يتيح لها توسيع نطاق خبراتها العملياتية وربطها بسياقات إقليمية أوسع. كما يشمل التعاون الأمني مجال الأمن السيبراني، حيث طورت أوكرانيا قدرات متقدمة في مواجهة الهجمات الروسية، ويمكنها نقل هذه الخبرات إلى سوريا عبر إنشاء مركز مشترك للأمن السيبراني وتبادل الخبرات التقنية. هذا التعاون لا يقتصر على البعد الثنائي، بل يمكن أن يشكل أساساً لشراكات أمنية إقليمية أوسع، تسهم في تعزيز الاستقرار في الشرق الأوسط وتمنح أوكرانيا موقعاً متقدماً في معادلات الأمن الإقليمي.
إلى جانب الأبعاد الجيوسياسية والاقتصادية والأمنية، يبرز البعد الثقافي–الدبلوماسي كأداة ناعمة لتعزيز العلاقات بين البلدين. فالتبادل الثقافي والتعليمي يمكن أن يشكل ركيزة لبناء جسور طويلة الأمد بين الشعبين، ويعزز من الفهم المتبادل ويخفف من إرث القطيعة السابقة. يمكن لأوكرانيا أن تستثمر في برامج المنح الدراسية وتبادل الطلاب، فيما يمكن لسوريا أن تفتح المجال أمام التعاون في مجالات الفنون والآداب والتراث. كما أن تنظيم فعاليات ثقافية واقتصادية مشتركة، والانخراط في المنظمات الإقليمية مثل جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، يمنح أوكرانيا منصة لتعزيز حضورها الدبلوماسي، ويتيح لسوريا فرصة لإعادة الاندماج في محيطها الإقليمي والدولي. هذا البعد الثقافي لا يقل أهمية عن الأبعاد الأخرى، إذ يرسخ العلاقات على مستوى الشعوب، ويمنحها عمقاً اجتماعياً وإنسانياً يضمن استدامتها على المدى الطويل.
خطوات عملية لتعزيز العلاقات الثنائية
لتحقيق تقدم ملموس في العلاقات بين أوكرانيا وسوريا بعد استئناف العلاقات الدبلوماسية، يتعين على الجانبين تبني خطوات استراتيجية متكاملة تعزز التعاون الثنائي وتفتح آفاقاً جديدة على المستويين الإقليمي والدولي.
- بناء شراكات استراتيجية: على أوكرانيا صياغة رؤية شاملة للانخراط في الشرق الأوسط، تتجاوز العلاقة الثنائية مع سوريا لتشمل قوى إقليمية محورية مثل تركيا، مصر، والأردن، بما يعزز حضورها السياسي والاقتصادي في المنطقة. في المقابل، ينبغي على سوريا توسيع مجالات تعاونها مع أوكرانيا في قطاعات الزراعة والطاقة والبنية التحتية، بما يسهم في تعزيز أمنها الغذائي والطاقوي، مع العمل على توطيد علاقاتها الإقليمية في إطار أكثر توازناً وانفتاحاً.
- توسيع نطاق التعاون الاقتصادي والأمني: أوكرانيا مدعوة إلى استكشاف فرص أوسع للتعاون في مجالات الزراعة والطاقة والبنية التحتية، بما يمكّنها من لعب دور داعم في توفير الغذاء والطاقة للدول المتأثرة بالنزاعات. وسوريا قادرة على الاستفادة من استيراد الحبوب والمنتجات الزراعية الأوكرانية، إلى جانب وضع خطة واضحة لإعادة الإعمار وجذب الاستثمارات الأجنبية. وعلى الصعيد الأمني، يتعين على الطرفين تعزيز التعاون في مكافحة الإرهاب وتبادل المعلومات الاستخباراتية، بما يساهم في مواجهة التهديدات المشتركة وترسيخ الاستقرار الإقليمي.
تعزيز الدبلوماسية الثقافية: يشكل التبادل الثقافي والتعليمي بين البلدين ركيزة أساسية لبناء علاقات طويلة الأمد، وتعزيز الفهم المتبادل بين الشعبين. تنظيم فعاليات ثقافية واقتصادية مشتركة من شأنه أن يرسخ الروابط الشعبية ويزيد الوعي بالفرص المتاحة للتعاون. انخراط أوكرانيا في منظمات إقليمية مثل جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، وسعي سوريا إلى تفعيل حضورها في المنظمات الدولية، يعزز مكانة الطرفين الدبلوماسية ويزيد من تأثيرهما في القضايا الإقليمية.
التعامل مع التحديات الجيوسياسية والإنسانية: على أوكرانيا أن تتبنى سياسة خارجية متوازنة تراعي المصالح الروسية، دون أن تتخلى عن حقها في بناء تحالفات جديدة ومتنوعة. وسوريا مطالبة بالتركيز على تعزيز مؤسساتها الحكومية وترسيخ الاستقرار الداخلي، بما يضمن نجاح أي تعاون خارجي. يتعين على الطرفين الاستعداد لتقديم أو استقبال الدعم الإنساني، بما يعكس التزامهما بالسلام والاستقرار في المنطقة.
التداعيات الإقليمية والدولية
يمثل توقيع استئناف العلاقات الدبلوماسية بين سوريا وأوكرانيا خطوة ذات دلالات استراتيجية عميقة، تتجاوز بعدها الثنائي لتنعكس على موازين القوى الإقليمية والدولية. أهميته تكمن في كونه إعلاناً عن بداية مرحلة جديدة في السياسة الخارجية السورية، تقوم على الانفتاح على شركاء جدد وتحرير القرار الوطني من الارتهان الكامل لمحور بعينه. أما بالنسبة لأوكرانيا، فإن هذا التوقيع يعزز حضورها في الشرق الأوسط في لحظة فارقة من حربها مع روسيا، ويمنحها منصة إضافية لتقويض نفوذ موسكو في منطقة طالما اعتُبرت امتداداً استراتيجياً لها.
من جهتها، تحاول روسيا استعادة نفوذها في سوريا عبر قنوات اقتصادية وأمنية، من خلال إرسال وفود رفيعة المستوى وطرح صفقات في مجالات الطاقة والتسليح، غير أن قدرتها على استعادة موقعها السابق تبدو محدودة بفعل الضغوط العسكرية والاقتصادية التي تواجهها في أوكرانيا، فضلاً عن التحولات الجذرية التي شهدها الداخل السوري بعد سقوط النظام السابق. فموسكو لم تعد قادرة على ضخ الاستثمارات العسكرية والمالية بالزخم ذاته، فيما تسعى الحكومة السورية الجديدة إلى تنويع شراكاتها وتفادي الارتهان لقوة واحدة، وهو ما يقلص من قدرة روسيا على فرض شروطها كما كان في الماضي.
وعلى صعيد العلاقات السورية–الروسية، لا شك أن موسكو تنظر إلى هذا التطور بعين القلق، إذ تراه مؤشراً على تراجع قدرتها على احتكار النفوذ في دمشق بعد سقوط النظام السابق. ومع ذلك، فإن العلاقة بين الطرفين لن تنقطع، بل ستدخل مرحلة إعادة تعريف. فدمشق ما زالت بحاجة إلى روسيا في بعض الملفات الأمنية والعسكرية، فيما تحتاج موسكو إلى الحفاظ على موطئ قدم في شرق المتوسط في ظل انشغالها بالحرب في أوكرانيا. ومن المرجح أن تسعى القيادة السورية إلى انتهاج سياسة “الموازنة الدقيقة”، بحيث تبقي قنوات التعاون مفتوحة مع موسكو، ولكن ضمن أطر سيادية جديدة تحد من قدرتها على فرض إملاءات أو استخدام وجودها العسكري كورقة ضغط.
أما الولايات المتحدة، فهي تنظر إلى استئناف العلاقات الأوكرانية–السورية كخطوة إيجابية ضمن استراتيجيتها لاحتواء النفوذ الروسي في الشرق الأوسط. غير أن واشنطن تتعامل مع التطور بحذر، إذ تربط أي دعم مباشر أو غير مباشر بالتزام دمشق بمسار إصلاح سياسي جاد، واحترام حقوق الإنسان، والانخراط في عملية انتقالية أكثر شفافية. هذا الموقف يعكس رغبة أمريكية في تشجيع الانفتاح السوري على شركاء جدد، دون منح شيك على بياض للحكومة الجديدة.
تركيا من جانبها تتابع التطور بعين حذرة، فهي لاعب رئيسي في شمال سوريا وتحتفظ بنفوذ عسكري وسياسي واسع. أنقرة تسعى إلى الحفاظ على توازن دقيق بين مصالحها الأمنية المرتبطة بالملف الكردي، وبين دورها في دعم الحكومة السورية الجديدة. دخول أوكرانيا على خط العلاقات مع دمشق قد يفتح أمام تركيا فرصاً للتنسيق الثلاثي في مجالات الأمن وإعادة الإعمار، لكنه في الوقت نفسه يفرض عليها إعادة حساباتها لتفادي أي تضارب محتمل مع موسكو أو طهران.
إيران تجد نفسها في موقع دفاعي بعد خسارة حليفها الاستراتيجي بسقوط نظام الأسد. فقد تراجع نفوذها العسكري والسياسي في سوريا بشكل ملحوظ، ومع دخول أوكرانيا كلاعب جديد، أصبحت خياراتها أكثر تعقيداً. فهي مضطرة إما إلى إعادة صياغة استراتيجيتها للحفاظ على موطئ قدم في سوريا، أو مواجهة تراجع تدريجي لدورها لصالح قوى أخرى أكثر قدرة على تقديم الدعم الاقتصادي والسياسي للحكومة الجديدة.
أما إسرائيل والدول العربية، قد ترى في هذا التطور فرصة لإعادة تشكيل المعادلات الإقليمية بما يحد من النفوذين الروسي والإيراني. بالنسبة لإسرائيل، فإن انفتاح دمشق على كييف يسهم في تقليص النفوذ الإيراني على حدودها الشمالية، ويفتح الباب أمام ترتيبات أمنية جديدة. أما الدول العربية، وخاصة الخليجية منها، فهي تنظر إلى التقارب السوري–الأوكراني كمدخل لإعادة دمج سوريا في محيطها العربي، مع تقليص اعتمادها على موسكو وطهران، وفتح المجال أمام شراكات اقتصادية وأمنية أوسع تعزز الاستقرار الإقليمي.
التحديات والعقبات
داخلياً، تواجه الحكومة السورية الجديدة تحديات معقدة تتجاوز مجرد هشاشة أمنية وسياسية، إذ يتعين عليها أولاً ترسيخ شرعيتها في نظر مختلف المكونات الاجتماعية، من خلال إدارة التنوع الطائفي والعرقي بطريقة عادلة وشاملة تضمن مشاركة جميع الفئات في العملية السياسية. هذا التحدي يرتبط مباشرة بقدرة النظام الجديد على صياغة عقد اجتماعي جديد يقطع مع إرث الاستبداد السابق، ويؤسس لمرحلة من الحكم الرشيد القائم على الشفافية والمساءلة. كما أن إعادة بناء المؤسسات الحكومية والعسكرية والأمنية تمثل أولوية قصوى، ليس فقط لإعادة فرض سلطة الدولة، بل أيضاً لضمان عدم عودة الفوضى أو بروز قوى موازية للدولة. هذه العملية تتطلب وقتاً وموارد ضخمة، فضلاً عن دعم تقني وخبرات دولية لإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والعسكرية بما يتناسب مع متطلبات المرحلة الانتقالية.
إلى جانب ذلك، تعاني البلاد من أزمة اقتصادية عميقة تشمل انهيار البنية التحتية، ارتفاع معدلات البطالة والفقر، وتدهور الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم والكهرباء. هذه التحديات الاقتصادية لا يمكن معالجتها إلا عبر خطط عاجلة لإعادة الإعمار، وإطلاق مشاريع تنموية توفر فرص عمل وتعيد الثقة بين الدولة والمجتمع. الاستقرار الاجتماعي مرهون بقدرة الحكومة على تقديم حلول ملموسة وسريعة، وإلا فإن حالة الإحباط الشعبي قد تتحول إلى مصدر تهديد للاستقرار السياسي والأمني.
خارجياً، تمارس روسيا وإيران ضغوطاً متزايدة لاستعادة نفوذهما التقليدي في سوريا، عبر تقديم عروض اقتصادية وأمنية مغرية، ومحاولة إعادة ربط دمشق بمحوريهما الإقليميين. غير أن قدرة دمشق على الاستجابة لهذه الضغوط ستتوقف على مدى نجاحها في تنويع شراكاتها الدولية، وبناء سياسة خارجية متوازنة لا تعيد إنتاج الارتهان السابق. في الوقت نفسه، تؤثر التوترات الإقليمية في غزة والخليج على البيئة الاستراتيجية المحيطة بسوريا، حيث تجعلها عرضة للتجاذبات بين القوى الكبرى والإقليمية، وتفرض عليها تبني سياسة حذرة لتفادي الانجرار إلى محاور متصارعة.
اقتصادياً، تواجه أوكرانيا قيوداً كبيرة نتيجة الحرب المستمرة مع روسيا، وهو ما يحد من قدرتها على تقديم استثمارات ضخمة أو مساعدات طويلة الأمد لسوريا. وفي المقابل، تحتاج سوريا إلى استثمارات بمئات المليارات من الدولارات لإعادة الإعمار وبناء اقتصادها من جديد، وهو ما يتجاوز قدرات أي شريك منفرد. لذلك، فإن نجاح عملية إعادة البناء يتطلب تنسيقاً دولياً واسعاً، يضم أطرافاً عربية وأوروبية وآسيوية، إلى جانب المؤسسات المالية الدولية، لتأمين التمويل والخبرات اللازمة.
انعكاس تصريحات الرئيس الشرع
تصريحات الرئيس أحمد الشرع بأن “سوريا لن تصطف مع معسكر ضد آخر” تأتي لتؤكد التوجه البراغماتي. فهي تحمل رسالة مزدوجة: من جهة تطمئن روسيا بأن دمشق لا تسعى إلى استبدال تحالف بآخر، ومن جهة أخرى تبعث بإشارة إلى الغرب وأوكرانيا بأن سوريا منفتحة على شراكات جديدة دون أن تكون جزءاً من سياسة المحاور. هذا الخطاب يعكس إدراكاً سورياً بأن الاصطفاف الحاد في بيئة إقليمية ودولية مضطربة قد يضعف فرصها في إعادة البناء والاستقرار، وأن تبني سياسة الحياد الإيجابي يمنحها هامش مناورة أوسع في إدارة علاقاتها الخارجية.
يمثل استئناف العلاقات بين أوكرانيا وسوريا فرصة استراتيجية نادرة لكلا البلدين لإعادة صياغة موقعهما في المشهدين الإقليمي والدولي. فمن خلال تبني نهج مرن واستباقي، وبناء شراكات متعددة الأبعاد، يستطيع الطرفان تعزيز مكانتهما وترسيخ حضورهما، مع تحقيق مكاسب اقتصادية وأمنية وثقافية تعود بالنفع المباشر على شعبيهما. ولا يقتصر هذا التعاون على البعد الثنائي فحسب، بل يمكن أن يشكل نموذجاً للتفاعل الإيجابي بين دول الشرق الأوسط وأوروبا في مواجهة التحديات العالمية الراهنة.
تكمن أهمية هذا التوقيع بالنسبة لسوريا في كونه خطوة لإعادة تموضع استراتيجي، لا تعني القطيعة مع روسيا بقدر ما تعكس سعياً لإعادة صياغة العلاقة معها على أسس أكثر توازناً وندية. وفي الوقت ذاته، يمنح دمشق فرصة لتوسيع خياراتها الدولية والانفتاح على شركاء جدد، بما ينسجم مع خطاب الرئيس الشرع حول الحياد وعدم الانخراط في معسكرات متصارعة.
أما بالنسبة لأوكرانيا، فإن التوقيع يمثل مكسباً دبلوماسياً وسياسياً بالغ الأهمية، إذ يتيح لها توسيع حضورها في الشرق الأوسط في لحظة فارقة من صراعها مع روسيا. فهو يمنح كييف منصة جديدة لتقويض النفوذ الروسي في منطقة طالما اعتُبرت امتداداً استراتيجياً لموسكو، ويعزز قدرتها على بناء شبكة تحالفات دولية داعمة لموقفها في المحافل الأممية. كما يفتح أمامها فرصاً اقتصادية في مجالات الزراعة والطاقة وإعادة الإعمار، ويمنحها بعداً إضافياً كفاعل دولي قادر على التأثير في قضايا الأمن الغذائي والاستقرار الإقليمي.
غير أن نجاح هذه السياسة سيبقى مرهوناً بقدرة سوريا على إدارة التوازن الدقيق بين موسكو وكييف، وبين الشرق والغرب، مع الحفاظ على استقلالية قرارها الوطني وتجنب التحول إلى ساحة صراع بالوكالة، وبقدرة أوكرانيا على استثمار هذا الانفتاح لتعزيز موقعها الدولي رغم القيود التي تفرضها الحرب المستمرة مع روسيا.