التضليل والتلاعب الإعلامي: تكتيكات إسرائيل والولايات المتحدة في إدارة المساعدات ومفاوضات غزة

التضليل والتلاعب الإعلامي

التضليل والتلاعب الإعلامي:

تكتيكات إسرائيل والولايات المتحدة في إدارة المساعدات ومفاوضات غزة

Директор Центру стратегічних досліджень Vision

доктор Саїд Салам - директор Vision Center for Strategic Studies

تم النشر في مجلة الهدف العدد 75 (1549) ايلول 2025

29\10\2025

لقد تجاوز النزاع المستمر في غزة كونه مجرد مواجهة عسكرية ليصبح ساحة معقدة تُستخدم فيها أدوات الإعلام والدبلوماسية ببراعة فائقة لتحقيق أهداف سياسية واستراتيجية، غالباً على حساب أرواح المدنيين ومقومات الحياة الأساسية. يهدف هذا التحليل إلى تسليط الضوء على أساليب التلاعب الإعلامي والدبلوماسي التي تمارسها إسرائيل والولايات المتحدة فيما يتعلق بالمساعدات الإنسانية ومفاوضات وقف إطلاق النار في غزة. سنكشف التناقضات الصارخة بين الخطاب الرسمي والواقع الميداني، مع التركيز على الأثر الحقوقي والإنساني لهذه الممارسات.

ولتعزيز هذا التحليل، نُدرج النتائج التي توصلت إليها تقارير الصادرة في شهر تموز /يوليو حول الإبادة الجماعية في غزة عن منظمة “بتسيلم” تحت عنوان “إبادتنا” ومنظمة “أطباء من أجل حقوق الإنسان – إسرائيل” تحت عنوان “تدمير ظروف الحياة: تحليل صحي للإبادة الجماعية في غزة”. التقارير التي امتدت على 88 و 65 صفحة على التوالي، ليست مجرد وثيقة حقوقية، بل هي دليل قانوني مكتمل الأركان على وقوع جريمة إبادة جماعية بحق الفلسطينيين، وقد صيغت بأدوات مهنية ومنهجية دقيقة، استناداً إلى تحليل شامل لتصريحات المسؤولين الإسرائيليين التي أظهرت “نية الإبادة”، وربَطتها بالاستهداف الممنهج للمؤسسات المدنية واستخدام التجويع كسلاح. إن هذا التمحيص النقدي يهدف إلى تسليط الضوء على الأبعاد القانونية والأخلاقية لهذه الممارسات المعقدة، ويدعو إلى محاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم التي تُرتكب بوضوح أمام مرأى ومسمع العالم.

النتائج الرئيسية لتقارير “بتسيلم” و “أطباء من أجل حقوق الإنسان – إسرائيل”: أدلة قانونية على نية الإبادة

ركزت التقارير على توفير أدلة قانونية واضحة لتحديد مسؤولية الاحتلال عن جريمة الإبادة. وقد تم تصنيف النتائج في نقاط رئيسية تُشكل أساساً للمساءلة الدولية:

  • إثبات نية الإبادة (Mens Rea): تجاوز التقرير مجرد الإشارة إلى “الجرائم” ليصل إلى إثبات “نية الإبادة الجماعية”، وهو العنصر القانوني الأكثر صعوبة في الإثبات. حيث استند التقرير إلى تحليل شامل لتصريحات مسؤولين سياسيين وعسكريين إسرائيليين التي دعت صراحة إلى “تدمير غزة”، و”عدم التمييز بين مدني ومقاتل”، و”تحويل القطاع إلى رماد”. وربط هذه التصريحات بالأوامر العسكرية الصادرة على الأرض، ليثبت أن الإبادة ليست مجرد نتيجة عرضية للحرب، بل هي نية مبيتة تترجم إلى أفعال. وقدم التقرير امثلة صارخة, حيث يقتبس من أمر عسكري داخلي مؤرخ في 23 أكتوبر 2024، يُظهر تعليمات لفرق المدفعية باستهداف “كل الأهداف الثابتة في المناطق المصنفة كـ ‘مناطق نزاع’ دون الحاجة للتأكد من وجود مدنيين”، مما يُعد دليلاً دامغاً على النية المباشرة في القتل غير المبرر.
  • الاستهداف المنهجي للمؤسسات المدنية: قدم التقرير خرائط تفصيلية وصوراً بالأقمار الصناعية تُظهر أن الدمار لم يكن عشوائياً، بل استهدف بشكل ممنهج الأماكن التي تحافظ على بقاء المجتمع الفلسطيني. فـأكثر من 90% من المستشفيات، و94% من المدارس والجامعات، و75% من المساجد والكنائس قد تم استهدافها بشكل مباشر أو غير مباشر. وربطت التقارير هذا الدمار بنية محو الهوية الثقافية والدينية والتعليمية للشعب الفلسطيني، مما يُشكل ركناً أساسياً في جريمة الإبادة الجماعية.
  • التجويع كسلاح إبادة: قدمت التقارير أدلة قاطعة على استخدام التجويع كأداة حرب، بما يتجاوز مجرد عرقلة المساعدات. فقد تضمنت شهادات لضباط إسرائيليين سابقين أكدوا وجود سياسة ممنهجة لتقييد دخول المساعدات، وحرقها، وتدميرها. وربطت ذلك بالارتفاع الهائل في أعداد الوفيات بسبب سوء التغذية، ليُظهر أن الجوع ليس نتيجة للوضع، بل هو استراتيجية متعمدة لتصفية الوجود المدني.
  • الأثر النفسي والاجتماعي الموثق: لم تكتفِ التقارير بالأرقام المادية، بل خصصت فصولاً كاملة للآثار النفسية والاجتماعية التي تُشكل جزءاً من الإبادة الجماعية. فقد وثّقت حالات صدمة نفسية جماعية بين الأطفال والنساء، وحالات انهيار نفسي حاد بين الأطباء والمسعفين، إلى جانب تفكك البنية الاجتماعية في المناطق المدمرة. هذه الأدلة تُثبت أن الإبادة لم تكن جسدية فقط، بل كانت تستهدف الروح المعنوية وقدرة المجتمع على البقاء والاستمرار.

Західні ЗМІ між ізраїльським наративом та зростанням палестинського голосу

تدمير المساعدات الإنسانية وقتل المدنيين عند نقاط التوزيع

تُعد قضية المساعدات الإنسانية في قطاع غزة من أكثر القضايا إثارة للجدل، حيث تتضارب الروايات الرسمية الإسرائيلية مع الحقائق الميدانية والدلائل الخطيرة، وتُشير بوضوح إلى استخدام التجويع كأداة حرب ممنهجة، وتُضاف إليها حوادث القتل عند نقاط التوزيع، مما يشكل خرقاً جلياً للقانون الدولي الإنساني.

في شهادة غير مسبوقة، كشف مصدر في هيئة البث الإسرائيلية (KAN) أن الجيش الإسرائيلي عمد إلى تدمير أو دفن وحرق كميات هائلة من المواد الغذائية والطبية التي كانت بمحطة كرم أبو سالم، وهي ما تزيد عن 1000 شاحنة مساعدات تُركت تفسد تحت الشمس دون توزيع إلى سكان القطاع. أحد الضباط الإسرائيليين صرّح: “لقد دفنا كل شيء في الأرض، وأحرقنا بعض الإمدادات”، مشيرًا إلى توقف آلية التوزيع وتدهورها الكامل. هذه الكمية، بحسب الوزارة الصحية بغزة، كانت تكفي لإطعام ما يربو على مليون شخص لأسبوع كامل، لكن بدلاً من ذلك تمَّ القضاء عليها عمدًا، مما يُشكل خرقًا خطيرًا للمادة 54 من البروتوكول الإنساني الإضافي لاتفاقيات جنيف، التي تحظر استخدام التجويع كسلاح حرب. يضاف إلى ذلك، تركيز تقرير “بتسيلم” على أن “إسرائيل تستخدم الجوع عمدًا للإبادة الجماعية”، وأن “حظر الغذاء استراتيجية عسكرية متعمدة”، وهو ما أكدته المحكمة الدولية في لاهاي بتاريخ 26 يوليو 2025.

ويُعدّ استهداف المدنيين الفلسطينيين العُزّل أثناء محاولتهم الحصول على المساعدات عند نقاط التوزيع جريمة حرب متصاعدة الخطورة، تُضاف إلى سجل الانتهاكات الجسيمة. منذ بدء عمليات التوزيع عبر مؤسسة Gaza Humanitarian Foundation (GHF) المدعومة أمريكيًا وإسرائيليًا – تحديداً منذ 27 مايو 2025 – شهدت أعداد الضحايا ارتفاعاً كارثياً.

ووفقاً لأحدث البيانات الرسمية لوزارة الصحة الفلسطينية، بلغ الإجمالي التراكمي لـ «Мученики за засоби до існування» الذين وصلوا إلى المستشفيات 2,560 شهيداً، فيما تجاوز عدد الجرحى 18,703 إصابات، سُجلت جميعها أثناء محاولتهم الوصول إلى مواقع المساعدات. هذا الارتفاع الصادم في الأرقام، مقارنةً بـ 895 قتيلاً سجلهم مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان (OHCHR) بالقرب من نقاط توزيع GHF حتى نهاية أغسطس 2025، يُشير إلى وتيرة استهداف غير مسبوقة.

وللتدليل على نمط الاستهداف المباشر، تُعد حادثة إطلاق النار التي وقعت في 6 يونيو 2025 в خان يونس مثالاً صارخاً، حيث قُتل فيها 42 مدنياً أثناء توجههم لموقع التوزيع. وأكدت التحقيقات الميدانية وشهادات الشهود أن إطلاق النار كان مباشراً وغير مبرر ضد مدنيين. إن هذه الحوادث المتكررة تضع المؤسسات المشرفة على التوزيع، بما في ذلك GHF وشركاؤها، أمام ضرورة المساءلة القانونية لارتباطها المحتمل بجرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، خصوصاً في ظل استخدام قوات أمنية خاصة مرافقة لهذه المواقع.

في المقابل، تُروّج إسرائيل عبر حساباتها الرسمية على منصات التواصل الاجتماعي، لادعاءات متكررة بأنها تُسهّل دخول مئات الشاحنات المحملة بالمساعدات إلى غزة عبر معبر كرم أبو سالم. وتُلقي هذه الروايات باللوم بشكل مباشر على الأمم المتحدة، متهمة إياها بـ”عرقلة متعمدة” لعمليات التوزيع، بهدف تشويه صورة إسرائيل. بيد أن هذه المزاعم تتعارض بشكل صارخ مع تقارير الأمم المتحدة، التي تُدين إسرائيل بفرض قيود صارمة على دخول المساعدات، وتعتبر ذلك انتهاكاً واضحاً لاتفاق وقف إطلاق النار. تشير التقارير إلى أن شاحنة طعام واحدة فقط تدخل لكل 5,000 شخص يومياً، وأن 97% من الأدوية الأساسية محظورة، مما يؤكد الفجوة الهائلة بين التصريحات الإسرائيلية والواقع الميداني المعاش.

وتُعد الغارات الإسرائيلية التي استهدفت قافلة مساعدات تابعة لمنظمة المطبخ المركزي العالمي في أبريل 2024، وأدت إلى مقتل سبعة من عمال الإغاثة، نقطة تحول كشفت عن نمط خطير في التعامل مع المساعدات. لقد أثارت هذه الحادثة إدانات دولية واسعة، حيث أدان الرئيس الأمريكي جو بايدن الهجوم، مُشيراً إلى أن إسرائيل “لم تفعل ما يكفي لحماية المدنيين”، وطالب بوقف فوري لإطلاق النار. ورغم تعهد إسرائيل، وفقاً لصحيفة “هآرتس”، بإجراء تحقيق في الحادث، إلا أن عدم نشر نتائج واضحة حتى الآن يُعزز الرواية الفلسطينية حول الاستهداف المتعمد للمساعدات الإنسانية.

كذلك تفيد مصادر غربية بأن الإدارة الأمريكية السابقة أمرت بإتلاف 500 طن من الأغذية الطارئة المخصصة للفلسطينيين، وهي كمية كان من شأنها إطعام 1.5 مليون طفل لمدة أسبوع. ورغم أن هذه المعلومات لم تُؤكد بشكل واسع في الإعلام الإسرائيلي، إلا أنها تتماشى مع التقارير الدولية حول عرقلة المساعدات، بما في ذلك تقرير الأمم المتحدة الذي أشار إلى انخفاض عدد شاحنات المساعدات إلى 30 شاحنة يومياً في أكتوبر 2024، مقارنة بـ 500 شاحنة يومياً قبل الحرب. هذه البيانات تُقدم صورة مقلقة حول مدى تقييد المساعدات، سواء كان ذلك بقرارات مباشرة أو غير مباشرة، مما يُساهم في تفاقم الأزمة الإنسانية.

Палестинський наратив у тіні глобальної трансформації: від маргіналізації до центральності правосуддя

التلاعب بالرواية والتحكم بالسرد: التضليل الأمريكي والإسرائيلي المشترك

تُستخدم المناورات الإعلامية والدبلوماسية بـشراكة ممنهجة بين الطرفين الأمريكي والاسرائيلي للتحكم بالرواية حول الحرب وتوجيه اللوم ببراعة، لا سيما في سياق مفاوضات وقف إطلاق النار المعقدة. الهدف الاستراتيجي من هذا التضليل هو صرف الانتباه العالمي عن الجرائم والإبادة المستمرة في غزة.

تتركز الحملة الإعلامية الإسرائيلية على تشويه صورة “حماس” من خلال تصويرها كالعنصر المعطّل الوحيد للمفاوضات، واتهامها بفرض شروط “غير واقعية” مثل شرط إنهاء الحرب بشكل دائم، وهو الشرط الذي يُعدّ أساسياً لأي حل عادل ومستدام. بُنيت هذه الرواية الكاذبة على فرضية أن “حماس” هي وحدها من ترفض المقترحات. في المقابل، تُشير تقارير صادرة عن الوسطاء الأساسيين، مثل مصر وقطر، إلى أن إسرائيل هي التي تعمدت إفراغ الاتفاقيات المقترحة من محتواها الجوهري، عبر حذف بنود أساسية تتعلق برفع الحصار أو إرساء آليات انتقال سلطة فلسطينية موحدة في غزة بعد الحرب. وصل التلاعب إلى حدّ تزوير الوثائق ونشرها في الإعلام. ففي يوليو 2024، نشرت صحيفة “جيروزاليم بوست” تقارير اعتمدت على وثائق مُزوّرة زعمت أن القائد “يحيى السنوار” يعرقل المفاوضات لأغراض “حرب نفسية”. لاحقاً، تم الكشف عن زيف هذه الوثائق، مما أدى إلى اعتقال أربعة إسرائيليين، بينهم مساعد لرئيس الوزراء نتنياهو. هذا الحادث يُعد دليلاً دامغاً على المحاولات الإعلامية الممنهجة لتشويه الطرف الفلسطيني وتبرير السياسات الإسرائيلية العدوانية، حتى لو تطلب الأمر تلفيق الأدلة.

ويتجسد الدور الأمريكي بصفته شريكاً فاعلاً في دعم وتغطية الرواية الإسرائيلية. فقد نقلت صحيفة “هآرتس” عن مسؤولين إسرائيليين أن واشنطن شجعت تل أبيب على توسيع عدوانها بعد انسحابها من مفاوضات الدوحة في 2024، تحت ذريعة “عدم تعاون حماس”. يتوافق هذا التشجيع مع الرواية الأمريكية التي ركزت على إلقاء اللوم الحصري على حماس في تعطيل المفاوضات، متجاهلة تأكيدات المصادر القطرية والمصرية بأن إسرائيل هي التي رفضت بنوداً جوهرية تتعلق بإنهاء الحصار الشامل وتسليم السلطة للفلسطينيين. إن الدعم الأمريكي ليس مجرد موقف سياسي؛ بل يُترجم إلى تغطية دبلوماسية وشرعية دولية للعمليات العسكرية الإسرائيلية التي تنتهك القانون الدولي الإنساني بشكل متكرر. وتُستخدم التصريحات الأمريكية حول “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها” لتبرير فرض حصار شامل وعقاب جماعي، مما يقوض جهود الإغاثة ويسهم بشكل مباشر في تفاقم الكارثة الإنسانية. هذا يثبت أن الموقف الأمريكي ليس محايداً، بل منحاز بشكل حاسم لدعم العدوان الإسرائيلي.

تفنيد التضليل عبر الأدلة والتقارير الحقوقية:

تتحدى التقارير الصادرة عن منظمتي “بتسيلم” و”أطباء من أجل حقوق الإنسان – إسرائيل” الرواية المضللة بشكل مباشر وقاطع. تؤكد التقارير أن العدوان الإسرائيلي ليس مجرد رد فعل على حماس، بل هو جزء لا يتجزأ من نهج سياسي ممنهج لإبادة الوجود الفلسطيني بالكامل – جسديًا ونفسيًا وثقافيًا. وتشدد على أن القرارات السياسية والعسكرية الإسرائيلية تكشف عن نية واضحة للمحو الكامل (Genocidal Intent)، مما يُسقط الادعاءات الإعلامية الكاذبة التي تحاول تصوير حرب الإبادة على أنها “نزاع” محدود أو نتيجة “تعنت” طرف واحد. والحملات الدبلوماسية والإعلامية الإسرائيلية لإعلان فتح “ممرات إنسانية” أو تسهيل دخول المساعدات (كما حدث في يوليو 2025 بفتح معبر كرم أبو سالم) لا تهدف إلى تحسين الوضع الإنساني، بل هي مجرد تكتيكات “لإدارة الانطباعات” الدولية وتجميل الصورة في ظل ضغوط متزايدة. لكن تقارير الأمم المتحدة تؤكد استمرار القيود على دخول المتطلبات الحيوية، مما يُظهر أن الهدف الحقيقي لهذه الرواية الإعلامية المضللة هو إخفاء الطبيعة الإبادية للعمليات العسكرية وتصويرها كـ”دفاع عن النفس” مشروع، والتهرب من المساءلة القانونية والأخلاقية.

بالتأكيد، إن تحليل أثر هذا التضليل المشترك على المواقف الدولية تجاه حل الصراع أمر بالغ الأهمية.

يؤدي هذا التلاعب المستمر بالرواية إلى نتائج كارثية على المساعي الدولية نحو الحل، ويمكن تلخيص أثره على النحو التالي:

أثر التضليل المشترك على المواقف الدولية ووقف الحرب

يُشكل التنسيق الإعلامي والدبلوماسي بين إسرائيل والولايات المتحدة جداراً دبلوماسياً يحمي استمرار عمليات الإبادة الجماعية ويُبطل فعالية أي جهد دولي جاد. ويظهر الأثر السلبي لهذا التضليل في ثلاث محاور رئيسية:

  • شلّ حركة المنظمات الدولية وتقويض المساءلة: إن السردية الإسرائيلية-الأمريكية التي تُصوّر العمليات العسكرية على أنها “حق مشروع في الدفاع عن النفس” ضد “عنصر مُعطِّل للمفاوضات” (حماس)، يُؤدي بشكل مباشر إلى شلّ المؤسسات الدولية. تعطيل مجلس الأمن يضمن الدعم الأمريكي، من خلال استخدام حق النقض (Вето) أو التهديد به، تحييد أي قرارات دولية ملزمة تدعو إلى وقف إطلاق نار دائم أو إدخال آليات مساءلة فورية. ويتم تبرير هذا التعطيل بحجة أن أي قرار يجب أن يأخذ في الاعتبار “أمن إسرائيل” أولاً، مما يطمس حقيقة الانتهاكات. إضعاف آليات العدالة، حيث أن إصرار الرواية على أن الأفعال الإسرائيلية هي رد فعل ضروري يُعقّد جهود المحكمة الجنائية الدولية (ICC) ومحكمة العدل الدولية (ICJ). فالتضليل الإعلامي يزرع الشك حول نية الإبادة الجماعية، ويسمح بتسويق تكتيكات التجويع والتدمير على أنها “أضرار جانبية” وليست أفعالاً ذات نية إجرامية مباشرة.
  • تآكل مصداقية الوساطة وتقزيم دور الوسطاء: إن التركيز المفرط على إلقاء اللوم على طرف واحد في فشل المفاوضات، كما يحدث في إبراز “تعنت حماس”، يُضعف دور الوسطاء الأساسيين (قطر ومصر)، ويؤدي الى تحويل مسار المفاوضات، فبدلاً من التركيز على الضغط على الطرف الذي يرفض البنود الجوهرية (إنهاء الحرب ورفع الحصار)، يتحول الضغط الدولي إلى مطالبة “حماس” بتقديم تنازلات غير متوازنة. كذلك يؤدي الى تحويل الأهداف، فيُصبح الهدف من المفاوضات، في نظر الرأي العام الغربي، هو إطلاق سراح الرهائن فقط، بينما يتم تهميش القضية الجوهرية لإنهاء العدوان وتحقيق الأمن المستدام للفلسطينيين. وهذا تقزيم متعمّد للقانون الدولي الذي يفرض إنهاء الحصار والعقاب الجماعي.
  • تحويل المساعدات الإنسانية إلى أداة ضغط سياسي: يؤدي التضليل إلى إعادة تعريف المساعدات الإنسانية من “حق إنساني غير قابل للتفاوض” إلى “امتياز يُمنح كأداة ضغط”. إن استعراض فتح “الممرات الإنسانية” وإدخال المساعدات، إلى جانب حملات التجميل الإعلامي، يهدف إلى إضفاء الشرعية على الحصار الشامل الذي تفرضه إسرائيل. حيث يتم تصوير القيود المفروضة على دخول الوقود أو المعدات الثقيلة على أنها “إجراءات أمنية” ضرورية وليست جزءاً من استراتيجية إبادية للتجويع والتهجير القسري. بالنتيجة، تُصبح جهود الإغاثة الدولية مشلولة ومجزأة، مما يضمن استمرار تفاقم الكارثة الإنسانية ويزيد من معدلات “شهداء لقمة العيش”، وهو ما يخدم هدف “المحو التدريجي للوجود” دون تحمل مسؤولية قانونية كاملة.

التضليل كآلية ممنهجة لعرقلة السلام والعدالة

إنَّ التحالف المُنظَّم في التضليل، الذي يجمع بين التكتيكات الإعلامية الإسرائيلية والدعم الدبلوماسي الأمريكي، لا يُعيق الوصول إلى حل سلمي حقيقي فحسب، بل يُكرس حالة الإفلات من العقاب، محولاً القانون الدولي إلى مجرد حبر على ورق لا يُطبَّق إلا على الضعفاء. يتم استخدام التضليل كـدرع قانوني فعال، حيث يحول دون الاعتراف بـالطبيعة الكاملة للانتهاكات، وهي تتجاوز “جرائم الحرب” لتصل إلى مستوى “الإبادة الجماعية” وفقاً لاستنتاجات تقارير حقوقية داخلية. إن تبرير أعمال القتل والتدمير بأنها “دفاع عن النفس” أو “أضرار جانبية” يُشكّل محاولة وقحة لـتفريغ القانون الدولي الإنساني من مضمونه الأخلاقي والقانوني. هذه الآلية تُفشل جهود المؤسسات القضائية الدولية، مما يُرسّخ قناعة لدى مرتكبي الجرائم بأنهم بمنأى عن أي مساءلة، وهو ما يُعدّ تقويضاً جوهرياً لأسس النظام الدولي القائم على العدالة والمساواة.

كذلك التضليل الممنهج يعمل على محو النية الجنائية التي تُعد عنصراً أساسياً في إثبات جريمة الإبادة الجماعية. فبدلاً من التركيز على تصريحات المسؤولين الإسرائيليين التي تُشير بوضوح إلى نية “المحو” أو “التدمير”، يتم تضخيم سردية الرد على “هجوم 7 أكتوبر 2023”. هذا التكتيك لا يُشتت الانتباه عن الانتهاكات الحالية فحسب، بل يُحوّل المعاناة الإنسانية الهائلة إلى مجرد ناتج طبيعي للصراع، بدلاً من الاعتراف بها كهدف مقصود لتحقيق أجندة سياسية تُبقي على السيطرة الإسرائيلية الكاملة.

إن استمرار التضليل والتلاعب بالرواية يُبقي على حالة عدم الاستقرار وعدم اليقين القانوني. طالما بقيت حقيقة نوايا الإبادة مطموسة خلف ستار “الدفاع عن النفس”، فلن يتمكن المجتمع الدولي من تبنّي خطط إعمار مستدامة، ولن يتوفر التمويل الكافي لضمان العودة الآمنة والكريمة للفلسطينيين. يصبح الإعمار مجرد ترميم مؤقت، مما يضمن أن تكون غزة قابلة للتدمير مجدداً في أي وقت، ويُبقي الفلسطينيين تحت رحمة الفقر والحصار والتجويع، في حلقة مفرغة تُديم الاحتلال وتُعيق أي انتقال حقيقي نحو السلام العادل والشامل.

Залишити відповідь

Ваша e-mail адреса не оприлюднюватиметься. Обов’язкові поля позначені *