ديناميكيات المعركة المعقدة على محور بوكروفسك-ميرنوغراد

وحدة الدراسات العسكرية – مركز فيجن للدراسات الاستراتيجية
13\11\2025
تُشكل جبهة بوكروفسك-ميرنوغراد محوراً استراتيجياً مصيرياً في الغزو الروسي لأوكرانيا، حيث تتقاطع التحديات العسكرية الشرسة مع الاعتبارات القيادية والأمنية العليا لكييف، وتكشف التطورات الأخيرة عن ديناميكيات متسارعة في وتيرة الاشتباكات، مصحوبة بتباينات حادة في تقييمات الموقف العسكري واللوجستي، مما يعكس الضغوط المتزايدة على الدفاع الأوكراني في مرتفعات دونيتسك.
التغيرات الميدانية الأخيرة (التسلسل الزمني) والتحديات اللوجستية
شهدت جبهة بوكروفسك تطورات ميدانية دراماتيكية خلال الأيام الأخيرة، تعكس الضغط الروسي المكثف الذي يعتمد على تفوق بشري هائل في المحور، حيث تُشير تقديرات عسكرية إلى أن تعداد القوات الروسية المنتشرة في المحور الشرقي بأكمله يتجاوز 150 ألف جندي، وقد تصل إلى 200 ألف جندي، بينما تذكر تقارير أخرى أن القوة المخصصة للضغط المباشر على بوكروفسك نفسها تتراوح بين 40 ألفاً إلى 112 ألف جندي، في مقابل الحاجة الأوكرانية الملحة إلى تعزيزات لوجستية وموارد بشرية للحفاظ على التماسك الدفاعي، وفيما يتعلق بنطاق الاشتباكات، فقد سجلت هيئة الأركان العامة الأوكرانية 81 اشتباكاً عسكرياً في محور بوكروفسك وحده خلال الـ 24 ساعة الماضية، وكانت قد تجاوزت 100 اشتباك في الأيام الماضية، مما يجعله القطاع الأكثر سخونة على الإطلاق، حيث تشكل هذه الاشتباكات نحو ثلث إجمالي المعارك على طول خط المواجهة النشط الذي يمتد لمسافة تقارب ألف كيلومتر عبر خاركيف، ولوغانسك، ودونيتسك، وزابوريجيا، وخيرسون (مع الأخذ في الاعتبار أن خط المواجهة الشامل يمتد لأكثر من ذلك بكثير إذا ما شمل مناطق سومي الحدودية، لكن خط القتال النشط يتركز حول المناطق المذكورة).
تواصل القوات الروسية تركيزها على الاختراقات الجنوبية الشرقية ومحاولات التقدم في الأطراف الشمالية (قرب رودينسكي) لتشديد الحصار، مع استغلالها للغطاء الذي يوفره الضباب في عمليات التسلل باستخدام الآليات الخفيفة، ويصف بعض المحللين العسكريين المعارك في بوكروفسك كـ “أشد الاشتباكات دموية وشراسة على الجبهة الشرقية”، مع استمرار الخسائر الروسية التي تُقدر بنحو 400-500 قتيل وجريح يومياً في محور بوكروفسك وحده، وتصل إلى 1200 قتيلاً وجريحاً على طول الجبهة الأوكرانية بأكملها في اليوم الواحد وفقاً لتقديرات هيئة الأركان الأوكرانية، دون أن تُحقق القوات الروسية مكاسب استراتيجية كبيرة ومؤكدة تبرر هذه التضحيات، حيث يبقى التقدم في غالبه هامشياً ومحصوراً في المناطق الرمادية.
المرحلة الأولى: ذروة التدهور والتدخل القيادي (الفترة الأولية نهاية أكتوبر – بداية نوفمبر 2025)
بدأت هذه المرحلة بالاعتراف الأوكراني الرسمي بتدهور الوضع في محور بوكروفسك، مع تراجع تدريجي للقوات الأوكرانية نتيجة الهجمات الروسية المكثفة التي شملت قصفاً جوياً مكثفاً بقنابل انزلاقية من طراز FAB-3000، بالإضافة إلى نقص حاد في الذخيرة يعيق القدرة على الرد الفعال، مما أدى إلى فقدان السيطرة جزئيًا على الأطراف الجنوبية الشرقية للمدينة، حيث أصبحت المدينة، التي كانت عقدة سكك حديدية حيوية قبل الحرب، أشلاءً مدمرةً مع انخفاض سكانها من 60 ألفاً إلى أقل من 1,300 نسمة، ومعظمهم كبار سن لم يغادروا. وتصاعد القلق بشأن عرقلة الإمدادات اللوجستية إلى ميرنوغراد، حيث أصبحت القوات الروسية قادرة على السيطرة النارية على معظم الطرق الرئيسية، مما يهدد بانهيار التكوين الدفاعي الشامل ويستلزم تدخلات فورية لتأمين الخطوط الحيوية، مع نفي كييف لأي حصار كامل رغم الضغط المتزايد. وفي مواجهة هذا التصعيد، برز التدخل المباشر للقيادة العليا، إذ أكد القائد العام ألكسندر سيرسكي استمرار وجوده في محيط بوكروفسك لتقييم الوضع ثلاث مرات يومياً، مع الإشارة إلى تفعيل خطة بديلة تشمل نقل تعزيزات من الشمال، بينما قاد رئيس الاستخبارات الرئيسية كيريلو بودانوف عملية خاصة في الضواحي الشمالية الغربية للمدينة، نجحت في طرد مجموعات تسلل روسية واستعادة نقاط رئيسية، مما أحدث تأثيراً نفسياً قوياً أربك الدعاية الروسية وأعطى دفعة معنوية للقوات المدافعة، رغم الادعاءات الروسية بأن المدينة محاصرة بالفعل.
المرحلة الثانية: هدوء زائف وتباطؤ مؤقت (ما قبل 10 نوفمبر 2025)
أفادت التقارير العسكرية بتباطؤ مؤقت في وتيرة الهجوم الروسي حول بوكروفسك، يُعزى إلى الحاجة الروسية لتوسيع خطوط الإمداد ونقل تعزيزات جديدة – بما في ذلك وحدات مدفعية ومشغلي طائرات مسيرة إضافيين – إلى الأطراف الجنوبية، بهدف دعم عمليات التسلل وإغلاق حلقة الحصار المحتملة، رغم تسجيل 30 هجوماً روسياً في يوم واحد في بعض المناطق. ومع ذلك، يبرز تناقض حاد في التقييمات اللوجستية لبلدة ميرنوغراد؛ فمن ناحية، أكدت هيئة الأركان العامة أن الإمدادات “معقدة لكن مستمرة”، مع نفي السيطرة الروسية الكاملة على الطرق الرئيسية، وقد نجحت عمليات التدوير مؤخراً في إجلاء الجرحى وإدخال تعزيزات وإمدادات أساسية، وساهم نجاح هذه الجهود في الحفاظ على التماسك الدفاعي، أما الرواية الاستخباراتية الغربية، المستندة إلى مصادر الناتو والـ CIA، فتشير إلى أن القوات الأوكرانية “لا تكاد تمتلك دعماً لوجستياً موثوقاً”، حيث تعرضت جميع الخطوط لنيران روسية مكثفة، مما يجبر الجنود على الاعتماد على طرق مشاة محدودة خوفاً من الطائرات المسيرة FPV ومجموعات التخريب، مع تسجيل 100 اشتباك في اتجاه بوكروفسك وحده يوم 10 نوفمبر، وسيطرة نارية روسية على نحو 80% من الخطوط المؤدية إلى ميرنوغراد، مما يفاقم الضغط على الاحتياطيات البشرية والمعدات.
ويصف المحللون هذا الهدوء كـ “مضلل”، حيث يختبئ الجنود الروس في المنازل من أجل مراكمة القوات، مع سيطرة الطائرات المسيرة الأوكرانية على المداخل الرئيسية، مما يحوّل القتال إلى “معركة أشباح” على بعد 10 كيلومترات من القوات الرئيسية. ويؤكد المحللون أن القتال في بوكروفسك “ثابت ودموي” دون مكاسب روسية كبيرة، مع عدم وجود تقدم يبرر وصفه بـ “هجوم واسع”. وتُبرز التقييمات العميقة التي أجراها الخبراء تحولاً تكتيكياً محورياً يُطلق عليه “مفارقة الدرونز”، إذ يصفون القتال في بوكروفسك بأنه “أغرب معركة” في هذه الحرب و**”غير بديهي”**، وتتمثل المشكلة الجوهرية التي تواجه الدفاعات الأوكرانية في هذا السياق في عدم توفر ما يكفي من المشاة لسد جميع الثغرات على طول خطوط الاشتباك.
المرحلة الثالثة: تصعيد الاختراق الروسي ومراكمة القوات في الجنوب (10-11 نوفمبر 2025)
شهدت هذه المرحلة تصعيداً ملحوظاً في الاختراقات الروسية، حيث وصلت القوات إلى محطة السكك الحديدية الشرقية في بوكروفسك ورفعت أعلاماً على الطريق قرب قرية هناتيفكا. وقد استغل الروس الضباب الخريفي للتقدم، حيث دخل نحو 300 جندي روسي إلى أجزاء من المدينة مستخدمين سيارات مدنية ودراجات نارية في تكتيك وُصف بـ “لعبة ماد ماكس”، وأكد مشروع “ديب ستيت” توسع منطقة السيطرة الروسية في الأحياء الجنوبية لمدينة بوكروفسك وبالقرب من تشونييشينا الواقعة جنوب حدود المدينة، ويُركز هذا التقدّم على الأطراف الجنوبية الشرقية لإنشاء جيب فرعي لتعزيز الحصار. لكن هذه الهجمات المباغتة التي تعتمد على الآليات الخفيفة يتم إحباطها بانتظام وتدميرها بواسطة الانتشار المكثف والدقيق للطائرات المسيرة الأوكرانية، حيث أعلنت قوات الدفاع الأوكرانية في 11 نوفمبر عن تدمير خمس دراجات نارية وخمس سيارات روسية على مشارف بوكروفسك. يعكس هذا التكتيك الروسي نمطاً خطيراً ومنهجيًا يتمثل في التراكم المتخفي للقوات داخل المنازل والمباني لتثبيت المواقع المكتسبة، حيث تُفضل موسكو الاعتماد على مجموعات صغيرة لتحقيق الاستنزاف التدريجي للقوات الأوكرانية. وعلى الرغم من هذا الضغط المتزايد، فإن القوات الأوكرانية ما تزال تحتفظ بسيطرة محدودة على أجزاء صغيرة تقع شمال خط السكة الحديدية الحاسم، لكن التقييمات تشير إلى أن نحو 80% من مساحة بوكروفسك قد تحولت إلى مناطق رمادية شديدة التنازع. ويُعتبر القطاع الشمالي الشرقي نقطة حاسمة في موازين المعركة، إذ حققت فيه القوات الأوكرانية تحسناً ملحوظاً بهجوم مضاد دقيق دُعم بدبابة واحدة على الأقل، ونجحت هذه المناورة في الحفاظ على السيطرة على الجزء الأكبر من قرية رودنسكي، وبالتالي أبقت الممر اللوجستي الشمالي مفتوحاً جزئياً بعرض يتراوح بين 1 الى 3 كيلومتر، مما يضمن تدفق الإمدادات وإن كان بشق الأنفس.
المرحلة الرابعة: تثبيت المواقع والهجمات المضادة الأوكرانية (12-13 نوفمبر 2025)
تميزت هذه المرحلة باستمرار الضغط الروسي مع تكتيك تثبيت المواقع المكتسبة حديثاً، حيث كثفت القوات الروسية جهودها لتطهير الأحياء التي تسللت إليها بالقرب من محطة السكك الحديدية الشرقية. وبالمقابل، نفذت القوات الأوكرانية “سلسلة هجمات مضادة متتالية” حول الطريق السريع E50 في محاولة لاحتواء الاختراق الروسي الذي وصل إلى المناطق السكنية. وقد أظهرت التقارير الموثقة بالفيديو نجاحاً أوكرانيًا في إيقاع خسائر كبيرة في صفوف مجموعات المشاة الروسية المتقدمة التي تحولت للقتال داخل المباني بعد تدمير آلياتها الخفيفة. وفي ميرنوغراد، تواصل القوات الروسية التهديد بالهجوم من اتجاه هروكيفكا باستخدام المركبات المدرعة، بينما تُعد ليمان نقطة انطلاق محتملة لهجوم شمالي. وقد أكد القائد العام الاوكراني سيرسكي استمرار إرسال تعزيزات إلى مناطق الاشتباك الشديدة في بوكروفسك، مشدداً على أن “الوضع صعب لكنه تحت السيطرة العملياتية”. كما شهدت هذه الفترة زيادة في استخدام طائرات FPV المسيرة من قبل الجانبين، مما جعل من أي تقدم بري مكشوف مهمة محفوفة بالمخاطر، ويعكس هذا الوضع استمرار الاستنزاف المتبادل الذي يركز فيه الروس على التراكم البطيء للقوات في المنازل، بينما يحاول الأوكرانيون منع تثبيت هذه المواقع عبر عمليات التطهير الدقيقة والهجمات المضادة المحدودة.
Київ контролює глибокі території Росії та оголошує війну на знищення стратегічній логістиці.
عمليات قوات النخبة من الاستخبارات العسكرية GUR في بوكروفسك
تكشف التحليلات العسكرية عن تفاصيل مثيرة للعملية النوعية التي نفذتها وحدات الاستخبارات العسكرية النخبوية الأوكرانية، والتي جرت في فترة حساسة قبل حوالي أسبوع ونصف (أواخر أكتوبر 2025)، وكان لهذه العملية أبعاد استراتيجية عميقة لا تقتصر على مجرد الاستعراض العسكري، رغم وصول القوات بشكل علني باستخدام مروحيتين من طراز “بلاك هوك”. لقد اتضحت هذه العملية لاحقاً كجزء من جهد قيادي مشترك ومصيري، تمثل هدفه الأساسي في إنقاذ الممر اللوجستي الشمالي الغربي الحيوي، وقد تمت تحت القيادة المباشرة والواضحة لرئيس الاستخبارات كيريلو بودانوف. وقد تجاوز نطاق العملية وحدة الـ 22 عنصراً التي وصلت بالمروحيتين “بلاك هوك” إلى المنطقة الشمالية الغربية لبوكروفسك، حيث انخرطوا في جهد واسع النطاق إلى جانب قوات العمليات الخاصة (SSO) وفوج الاقتحام 425 “سكيلا” الذي يضم أكثر من 1000 جندي، مما رفع العدد الإجمالي للقوات النخبوية المشاركة إلى مئات المقاتلين. ونجح هذا الجهد المشترك في بناء خط دفاع جديد على طول نهر غريشينكو، بهدف صد الهجمات المتزايدة وتأمين الممرات اللوجستية، وأهمها الطريق المتجه نحو بافلوغراد والطريق المار عبر غريشينو إلى دوبروبوليا وصولاً إلى وسط أوكرانيا، وكان تأمين “ممر ليمان-بوكروفسك” ضرورياً لضمان استمرار عمليات التدوير والإمدادات، بالإضافة إلى تأمين مسار انسحاب محتمل للقوات المدافعة في حال الانهيار الكارثي.
وفي إطار الحرب المعلوماتية الموازية للمعركة، سارعت وزارة الدفاع الروسية ووسائل الاعلام الروسية إلى الادعاء بأن العملية قد “أُحبطت”، وأن قواتها تمكنت من “تدمير المروحيتين بلاك هوك وقتل جميع الأفراد الإحدى عشر” الذين نزلوا من إحداهما. إلا أن هذه المزاعم تم تكذيبها بشكل قاطع وعلني من قبل كييف؛ حيث أكدت المديرية الرئيسية للاستخبارات الأوكرانية أن المهمة كانت “ناجحة”، وأن طائراتها المروحية من طراز “بلاك هوك” وجميع أطقمها لا تزال “في حالة عمل ممتازة”، وتواصل أداء مهامها القتالية. بل والأهم من ذلك، فإن عمليات قوات النخبة في تدمير مواقع القوات الروسية المتسللة موثقة بالكامل بالفيديو، مما أبطل الادعاءات الروسية وحوّلها إلى مجرد محاولة دعائية لتقويض النصر المعنوي الذي حققته العملية.
لكن على الرغم من النجاح التكتيكي الأولي في الحفاظ على الممر اللوجستي مؤقتاً، لم تخلُ العملية من مخاطر جمة وانتقادات، حيث رأى البعض أن الوصول العلني بالمروحيات يمثل “استعراضاً محفوفاً بالمخاطر” لسهولة استهدافه بالمسيرات الروسية، لكن الهدف العملياتي المباشر كان ضرورة ملحة لدفع 150 جندياً روسياً متسللاً للخلف، وهو ما نجح فيه التدخل النخبوي. ومع ذلك، يكمن التحدي الاستراتيجي الأكبر في التفاوت الهائل في القوة البشرية، فقدرة القوات النخبوية على تنفيذ هذه العمليات الموضعية محدودة جداً مقارنة بالاحتياطيات الروسية الهائلة المتمركزة في العمق الخلفي، والتي تُقدر بعشرات الآلاف، مما يمنح موسكو قدرة لا تنضب على التعزيز المستمر للضغط على الجبهة. وفي سياق التطورات اللاحقة التي كشفت عن تآكل هذا النجاح، أشارت فيديوهات بـ تاريخ 5 نوفمبر إلى انسحاب جزئي وتدريجي للجنود الأوكرانيين تحت قذائف الهاون بالقرب من موقع الإنزال الأصلي، وهو ما يُعد مؤشراً واضحاً إلى أن “الوضع لا يمكن إنقاذه تماماً” بالاعتماد على هذه العمليات النوعية وحدها، وأن مسألة التماسك الدفاعي تتطلب دعماً استراتيجياً أوسع نطاقاً ومستداماً للقوات المدافعة. ويبقى الهدف المعلن من ظهور بودانوف وهو يقود العملية مباشرة هو إرسال رسالة مزدوجة تهدف إلى إرباك القيادة الروسية وتعزيز المعنويات بين القوات الأوكرانية المدافعة.
Кубянськ: Дилема постачання та стратегія систематичного знищення.
التحديات البنيوية للدفاع الأوكراني: التفوق الجوي والخطوط الاحتياطية
يُعد التفوق الجوي الروسي عاملاً حاسماً في تآكل التحصينات، حيث يتجلى ذلك في القصف المكثف بقنابل FAB-3000، ولهذا، فإن تحديد فعالية أنظمة الدفاع الجوي الغربية (مثل باتريوت і NASAMS) في حماية النقاط اللوجستية الحيوية ومحاور القيادة داخل بوكروفسك وميرنوغراد يمثل تحدياً استراتيجياً بالغ الأهمية، إن القدرة على مواجهة القصف الانزلاقي وتأمين خطوط الإمداد ضد هذه القنابل الضخمة هي ما يفسر جزئياً سبب تفكك التحصينات الأوكرانية في بعض المناطق، مما يستلزم تفعيل تكتيكات جديدة للقتال المضاد للطائرات المسيرة ونشر وحدات دفاع جوي متنقلة لحماية ممرات الإمداد الرئيسية. وفي سياق متصل، يتوقف مصير محور بوكروفسك-ميرنوغراد على مدى صلابة الخطوط الدفاعية التي تليها، وهنا يبرز القلق الاستراتيجي، إذ يجب تقييم حالة التحصينات الأوكرانية حول مدينة ميرنوغراد (التي ستكون الخط الدفاعي التالي) والمدن المجاورة.
إن مدى الانتهاء من بناء الخنادق والحواجز المضادة للدبابات وتجهيزها لامتصاص الهجوم الروسي التالي، هو مؤشر رئيسي على قدرة كييف على إدارة المعركة على المدى الطويل. ويرتبط بهذا التقييم مسألة التوزيع الاستراتيجي للموارد البشرية وما إذا كانت القوات المدافعة قد سحبت وحدات كافية لبناء العمق الدفاعي أم أنها ما تزال محتجزة بالكامل في بوكروفسك. بالإضافة إلى ذلك، يشير التحليل إلى ظهور تكتيكات جديدة مثل “مفارقة الدرونز”، لكنه يفرض ضرورة تحليل كيف تتكيف القيادة الأوكرانية على مستوى العقيدة العسكرية، فبعد التدخل المباشر لرئيس الاستخبارات بودانوف والقائد العام سيرسكي، يبرز التساؤل حول مدى تعزيز كييف لمبدأ القيادة اللامركزية لتجنب الاعتماد الكلي على التوجيهات المركزية، وفي هذا الإطار، يُعد إنشاء الوحدات المتخصصة حصرياً لمكافحة المسيرات الانتحارية FPV وتحديد دورها كعنصر فاصل في منع تثبيت التسلل الروسي دليلاً على التكيف التكتيكي السريع مع طبيعة القتال الحالية.
تقييم الخطر الاستراتيجي: تحليل لتهديد الحصار في بوكروفسك (مفارقة الحصار المسامي)
إن التقديرات العسكرية للموقف الحالي في بوكروفسك تُشدد على أن التهديد لا يُصنَّف على أنه “حصار كلاسيكي” بالمعنى الحرفي للكلمة، وذلك تمييزاً عن الحصارات التي شهدتها معارك سابقة مثل إيلوفايسك أو ديبالتسيفو، حيث كان يتم إحكام الإغلاق بشكل كامل بالدبابات والمدفعية الثقيلة. ويُعزى هذا الاختلاف الجوهري إلى أن القوات الروسية، رغم كثافتها البشرية الهائلة، تفتقر حالياً إلى القوة المدرعة الكافية لتنفيذ عملية إغلاق محكمة وفعالة بهذا الحجم والكفاءة المطلوبة.
وإزاء هذا الوهن في القوة الروسية اللازمة لتنفيذ عملية إغلاق محكمة (الحصار التقليدي)، يُوصف التكوين الدفاعي الأوكراني في هذا القطاع بأنه “مسامي” من كلا الجانبين. وتكمن المفارقة الجوهرية في هذا الدفاع غير الصلب؛ فمن ناحية، يسمح هذا التخلخل بمرور تكتيكات التسلل الروسية بمجموعات صغيرة (2-3 افراد) لزرع الفوضى وتثبيت المواقع داخل المباني المهجورة، خصوصاً في إطار “مفارقة الدرونز” التي تجعل من القتال الحضري ملاذاً للمشاة، إلا أن هذا الدفاع المسامي المفتوح، في المقابل، يوفر مرونة استراتيجية حيوية للقوات الأوكرانية المعرضة للخطر، والتي تُقدر بآلاف الجنود المنتشرين في بوكروفسك، وميرنوغراد، والقرى الجنوبية المحيطة. ولهذا، فإن هذا التخلخل يسمح بـ “الانسحاب المنظم” للقوات المدافعة بمجموعات صغيرة وعبر اشتباكات محدودة ومدروسة، بدلاً من التعرض لحصار محكم وساحق بالدبابات والمدفعية الثقيلة، وهذا ما يخفف بشكل كبير من احتمالية وقوع كارثة عسكرية بالحجم الكامل، ويضمن للقيادة الأوكرانية القدرة على إدارة خطوط الإمداد والتدوير بشكل مستمر – ولو بصعوبة بالغة – لمنع الانهيار الكامل للتكوين الدفاعي.
تحليل لوتيرة التقدم الروسي والدعاية (التقييمات المتضاربة ومفارقة المعركة)
تُقدم التحليلات العسكرية المستقلة رؤية معمقة ومتباينة بشكل جوهري للتقديرات الرسمية، حيث تُصوِّر الاشتباكات الدائرة في بوكروفسك على أنها “أغرب معركة” في هذه الحرب و**”غير بديهية”**. فبينما تُشير تصريحات القيادة الأوكرانية (وعلى رأسها القائد العام سيرسكي) إلى وجود “هجوم روسي واسع”، يذهب الخبراء إلى التشكيك في واقعية هذا الوصف، مُعتبرين إياه تضخيماً يخدم جزئياً الدعاية الروسية الهادفة لزرع اليأس.
في سياق متصل، تلعب الدعاية الروسية دوراً محورياً في رسم صورة المعركة عبر تضخيم فكرة الحصار وسقوط المدينة، حيث تركز وسائل الإعلام التابعة لموسكو على الترويج لادعاءات تفيد بأن بوكروفسك “محاصرة بالفعل” أو أن القوات الروسية قد حققت “إغلاقاً كاملاً”. وغالباً ما تُنقل هذه المزاعم عبر مصادر مثل وكالة تاس الروسية، مما يؤدي إلى خلق “ضباب الحرب” وتشويش التقييم الميداني. كما أن التشكيك في ادعاءات سيرسكي حول وجود “هجوم واسع” يُرجح أنه ناتج عن خطأ إعلامي روسي في الترويج لهذا السرد، مما يؤكد سعي موسكو لاستغلال أي تقدم تكتيكي محدود لتحقيق نصر نفسي ودعائي يفوق قيمته العسكرية الفعلية.
ويؤكد التقييم الاستراتيجي أن التقدم الروسي على جبهة بوكروفسك يُعد “غير كبير”، وأن الواقع الميداني يترجم إلى قتال ثابت ودموي لا يُنتج مكاسب استراتيجية حقيقية، وتتركز أشد الاشتباكات في “المنطقة الرمادية” الممتدة التي تشمل بوكروفسك، وميرنوغراد، ودوبروبوليا. ونتيجة لهذا الاستنزاف المتبادل الذي لا يُحقق اختراقاً كبيراً، تفقد المعارك “معناها العسكري” الفعلي على الأرض، لتنتقل أهميتها إلى أهمية سياسية ودعائية أكبر لكلا من كييف وموسكو.
لكن يجب ربط الضغط التكتيكي على بوكروفسك بالخطة الروسية الأوسع التي تتجاوز حدود الجبهة الحالية؛ فالهدف الاستراتيجي من هذا الاستنزاف هو سحب الاحتياطيات الأوكرانية الثمينة تمهيداً لهجوم رئيسي محتمل في الشمال، وفي هذا الإطار، تكتسب مدينة بافلوغراد أهمية قصوى كنهاية لوجستية مصيرية، إذ تشكل شريان الإمداد الأكبر الذي يغذي جبهة دونيتسك بأكملها من جهة الغرب، وعليه، فإن أي تقدم روسي يهدد بالوصول إلى هذا المحور الحيوي سيؤدي مباشرة إلى فصل كامل لجبهة دونيتسك عن معظم الإمدادات الغربية الحيوية، مما يجعل بافلوغراد هدفاً استراتيجياً بعيد المدى يتجاوز الأهمية التكتيكية المباشرة لبوكروفسك نفسها.
وفي التقييم العام، يؤكد المحللون أن الوضع يكتنفه “ضباب الحرب”؛ فـرغم وجود تقدم روسي محدود (يُلاحظ أنه أسرع في القطاع الجنوبي)، لا يوجد “هجوم واسع” حقيقي، بل تسعى القوات الروسية إلى تحقيق “ضغط مستمر” يهدف إلى كسر الدفاعات الأوكرانية عبر الاستنزاف التدريجي، دون أن يُؤدي هذا الضغط إلى انهيار أوكراني كامل حتى اللحظة، وهذا التكتيك يندرج ضمن “مفارقة الدرونز” والدفاع “المسامي” الذي يسمح بالتسلل البطيء لكنه يمنع الإغلاق الساحق.
تُستغل هذه الديناميكية الميدانية لـ تحقيق تأثير سياسي واسع، حيث يستفيد الرئيس الأوكراني Зеленський від “الفشل الروسي” في تحقيق تقدم حاسم ليحذر من تداعيات توسع الضغط الروسي، بينما قد يلجأ Путін إلى فتح جبهات جديدة (خارج أوكرانيا، كدول البلطيق أو كازاخستان) لزيادة الضغط على الغرب، معتمداً على رد فعل حلف “الناتو”. وفي هذا الإطار الأوسع، يُنظر إلى تحركات بيلاروسيا كمؤشر استراتيجي لأي تصعيد روسي محتمل خارج حدود أوكرانيا.
وختاماً، فرغم أن بوكروفسك تُوصف بأنها “بوابة دونيتسك”، فإن سقوطها – إن حدث – سـيُعزز الدعاية الروسية بشكل كبير، لكن هذا الإنجاز سيأتي بتكلفة بشرية ولوجستية باهظة لموسكو، مما يؤكد أن الاستراتيجية الروسية في المحور ترتكز على التراكم البطيء بدلاً من المناورة الكاسحة.


