تحديث الجيش…شعار المرحلة المقبلة في ألمانيا
ألمانيا تُعيد تحديث وتسليح الجيش، وإعادة هيكلته
ماجد كيالي
25/6/2023
غيّر غزو روسيا لأوكرانيا، قبل نحو عام ونصف العام، العلاقات الدولية، سيما بين الأقطاب الدوليين الكبار الفاعلين، وهذا يشمل الولايات المتحدة وروسيا والصين والهند ودول الاتحاد الأوروبي، بيد أن التغير الأكبر حصل لألمانيا، إذ أدى ذلك الغزو إلى استيقاظ روحها العسكرية، وحاجتها إلى مواءمة مكانتها السياسية بقوتها الاقتصادية، على الصعيدين الأوروبي والدولي.
ولعل مثال ألمانيا أكبر دليل على إخفاق ادعاءات الرئيس الروسي لتبرير غزوه، تلك الادعاءات المتعلقة بإنهاء هيمنة الولايات المتحدة على النظام الدولي، وبناء نظام دولي متعدد الأقطاب، وإبعاد حلف الناتو عن حدود روسيا، وتعزيز العلاقات الروسية الأوروبية.
في البداية بدت ألمانيا، في ظل الائتلاف الحاكم (الحزب الديمقراطي، والخضر، والليبرالي) متشككة في اعتزام بوتين غزو أوكرانيا، وهو ما كانت تؤكده الاستخبارات الأميركية، لذا ذهب المستشار الألماني (15 فبراير/شباط 2022) للقاء الرئيس بوتين (مثلما ذهب قبله الرئيس الفرنسي)، إلا أن النتيجة كانت مخيبة، في طريقة الاستقبال، والخطاب الاستعلائي لبوتين الذي تحدث عن حجم روسيا الكبير، إزاء حجم ألمانيا، وكذلك في نفيه نية الغزو، وتبريره التحركات العسكرية للجيش الروسي بمجرد مناورات عسكرية عادية، الأمر الذي كشف عن مناورة، وتلاعب، إذ قام الجيش الروسي بغزو أوكرانيا بعد أيام من تلك الزيارة (24/2/2022).
وعليه، فإن التحول الاستراتيجي الأول في السياسة الألمانية، إزاء روسيا، تمثل في تجميد خط الغاز (نورد ستريم-2)، قبيل شن الحرب بيومين، وكان الهدف منه بعث رسالة لبوتين بأن روسيا ستخسر اقتصاديا وسياسيا جراء الغزو، كما كان الهدف منه، على المدى البعيد، تقليل الاعتماد على الغاز الروسي، الأمر الذي تطور، مع استمرار الحرب، إلى فرض عقوبات على روسيا، وصلت إلى حد تحرّر ألمانيا (وأوروبا) تقريبا، من واردات النفط والغاز من روسيا.
ألمانيا أكبر دليل على إخفاق ادعاءات الرئيس الروسي لتبرير غزوه، تلك الادعاءات المتعلقة بإنهاء هيمنة الولايات المتحدة على النظام الدولي، وبناء نظام دولي متعدد الأقطاب
رغم ذلك فقد تأخر دعم ألمانيا عسكريا للجيش الأوكراني، بالقياس لغيرها، حتى إنها تعرضت لانتقادات من القادة الأوكران والأوروبيين، لاكتفائها بإرسال خوذ وملابس ولوازم مدنية للجيش الأوكراني. لكن فيما بعد، ومع استمرار الغزو، وانكشاف تهديده لأوكرانيا كلها، من خاركيف إلى خيرسون ولفيف، مرورا بالعاصمة كييف ذاتها، أضحت ألمانيا (مع فرنسا)، بمثابة رافعة للموقف الأوروبي المناهض للغزو، وفي مقدمة المطالبين بعدم تمكين بوتين من الفوز بأوكرانيا، واعتبار ذلك بمثابة تهديد للأمن والاستقرار في أوروبا، وللقيم الأوروبية.
لذا فإن التحول الاستراتيجي الثاني في السياسة الألمانية حصل أواخر مايو/أيار 2022، بتخصيص اعتمادات قدرها 100 مليار يورو لتحديث وتسليح الجيش الألماني، وإعادة هيكلته، وأيضا الوصول إلى مستوى دعم الميزانية العسكرية للجيش الألماني باثنين في المئة من إجمالي الناتج المحلي السنوي، أي بما يقدر بـ70 مليار يورو، بدلا من 56 مليار دولار في السابق، علما أن الناتج الإجمالي لألمانيا يبلغ 4 تريليونات دولار؛ وهي بذلك الدولة الرابعة الأقوى اقتصاديا في العالم بعد الولايات المتحدة والصين واليابان. وللعلم فإن المبلغ الجديد المرصود (قرابة 80 مليار دولار)، يزيد عن الموازنة العسكرية الروسية التي تبلغ 65 مليار دولار سنويا، ولمقارنة موازنات الإنفاق العسكري، فقد بلغت في الولايات المتحدة 800 مليار دولار، وفي الصين 293 مليار دولار، وفي الهند 76 مليار دولار).
وربما يجدر التذكير هنا بأن ألمانيا، التي خضعت لقيود داخلية وخارجية على تسليحها، منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي ظلت تفضل تعزيز مكانتها بواسطة قوتها الاقتصادية والتكنولوجية والعلمية، كانت ترفض المطالبات الأميركية بزيادة إنفاقها على الأمن والدفاع، وهي مطالبات كان ألحّ عليها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، بادعاء أن على المانيا، والدول الأوروبية، تقديم مساهمة في الدفاع عن الأمن الإقليمي والدولي، بدلا من الاعتماد على الولايات المتحدة، التي تتحمل الإنفاق على حلف “الناتو”، إلا أن الغزو الروسي لأوكرانيا هو الذي اضطر القادة الألمان إلى الاستجابة لذلك (هذا يذكر بأن ألمانيا كانت، أيضا، رفضت الدعوات الأميركية السابقة بشأن خطر الاعتماد على إمدادات الطاقة من روسيا).
وقد يفيد التنويه إلى أن هذا التطور حظي بإجماع أحزاب الائتلاف (الديمقراطي الاجتماعي، والخضر، والليبرالي) والمعارضة (الاتحاد المسيحي والاتحاد الديمقراطي)، باستثناء حزبي “اليسار”، و”البديل”، ولهما 118 نائبا في “البوندستاغ”، من 726 نائبا.
التحول الاستراتيجي الثالث في الموقف الألماني حصل أواخر أبريل/نيسان 2023، مع قرار “البوندستاغ” بإرسال أسلحة ثقيلة لأوكرانيا، لتمكينها من صد الجيش الروسي، ومقاومته
التحول الاستراتيجي الثالث
أما التحول الاستراتيجي الثالث في الموقف الألماني فقد حصل أواخر أبريل/نيسان 2023، مع قرار “البوندستاغ” بإرسال أسلحة ثقيلة لأوكرانيا، لتمكينها من صد الجيش الروسي، ومقاومته، إذ صوّت إلى جانب ذلك القرار 586 عضواً، مقابل مئة عضو عارضوا تلك الخطوة، التي تضمنت إرسال مصفحات محملة بمضادات دروع، ومضادات طائرات، وناقلات جند، ومنظومات مدفعية متطورة، وبعدها تمت إضافة ذلك على دبابات ليوبارد وتدريب طيارين أوكران على طائرات “إف-16”.
وتبعا لما تقدم، فإن التحول الاستراتيجي الرابع، يمكن ملاحظته مؤخرا، في قيادة ألمانيا مناورات حلف “الناتو”، في الفترة من 12 إلى 24 يونيو/حزيران، من بحر الشمال إلى بحر البلطيق، وتشارك فيها 25 دولة، بينها الولايات المتحدة واليابان، مع 40 ألف جندي، و250 طائرة، الأمر الذي يشي بطموح ألمانيا للمواءمة بين مكانتها الاقتصادية والتكنولوجية والمالية، ومكانتها السياسية والعسكرية. ولعل تلك المواءمة برزت في توافق الأحزاب الألمانية الكبرى على “استراتيجية للأمن القومي” (يونيو/حزيران 2023) أكدت فيها على الدفاع عن قيم الديمقراطية والسلام والتنمية، واعتبار أن روسيا تشكل تهديدا لأوروبا، وأن الصين تتصرف بما يتعارض مع مصالح وقيم ألمانيا، فيما يعنيه ذلك من تمييز للصين عن روسيا، التي تربطها بها علاقات اقتصادية قوية، بما في ذلك التمييز بين الخصومة والعداء، وبين التعاون والتنافس.
وقد يفيد التذكير هنا، أيضا، بأن ألمانيا تحملت أكثر من غيرها تبعات غزو روسيا لأوكرانيا، إذ شمل ذلك، أيضا، استقبالها موجات اللاجئين الأوكران في أراضيها (نحو مليون أوكراني)، حيث قدمت لهم العون اللازم للإقامة والعمل والدراسة والخدمات الصحية، كما أنها تحملت القسط الأكبر من الدعم المالي، الذي قدمته الدول الأوروبية، لدعم الحكومة الأوكرانية، بحيث باتت الدولة الثانية في العالم في دعم أوكرانيا، عسكريا وماليا، وهي مع فرنسا، بمثابة حاملة للموقف الأوروبي العملي الداعم لصمود أوكرانيا ولسعيها استعادة أراضيها وسيادتها.