روسيا بوتين معزولة دولياً وتفقد مجالها الإقليمي
ماجد كيالي*
لا يوجد دولة في العالم معزولة اليوم، بسبب سلوكيات نظامها السياسي، بالقدر الذي تبدو عليه روسيا بوتين، ربما بما لا يقل عن عزلة الأنظمة في إيران وسوريا وكوريا الشمالية. والمشكلة أن تلك الأنظمة تعيش في انفصام عن الواقع، وفي مبالغة بتقدير حجمها ومكانتها في العالم.
ففي تصويتات ثلاث جرت إبان العام الأول للغزو الروسي لأوكرانيا، في الجمعية العامة للأمم المتحدة، في آذار (مارس) وتشرين الأول (أكتوبر) 2022 وشباط (فبراير) 2023، والتي عقدت بشكل استثنائي ضمن ما يسمى “متحدون من أجل السلام”، لتعذر اتخاذ قرار في مجلس الأمن الدولي، بسبب تمتع روسيا بحق النقض “الفيتو”، كان ثمة خمس دول ظلت تصوت إلى جانب روسيا، بالضد من إرادة أكثر من 140 دولة، من أصل 193 دولة، وهي: بيلاروسيا، وسوريا، وكوريا الشمالية، وإريتريا، وفي التصويت الأخير أيضاً، مالي ونيكاراغوا.
بيد أن الملاحظ في هذا التصويت الذي يطالب روسيا بوقف الغزو واحترام وحدة وسيادة أراضي أوكرانيا، أن ثمة دولة عربية واحدة هي سوريا ظلت تقف إلى جانب روسيا، في حين ثمة دولتان عربيتان هما الجزائر والسودان امتنعتا عن التصويت، علماً أنه في تصويت آخر امتنع العراق أيضاً، في حين أيدت باقي الدول العربية القرار الأممي الذي يرفض الغزو ويدينه.
الملاحظة الثانية هنا هي أن ولا دولة من دول مجموعة “بريكس” أيدت روسيا في غزوها أوكرانيا، إذ أن البرازيل أيدت القرار الأممي، في حين امتنعت باقي دول تلك المجموعة، أي الصين والهند وجنوب أفريقيا، عن التصويت.
الملاحظة الثالثة، أنه حتى هنغاريا حليفة روسيا في الاتحاد الأوروبي أيدت القرار الأممي، في حين أن إيران امتنعت عن التصويت، رغم إنها أكثر دولة يهمها فوز روسيا في صراعها مع الغرب.
الملاحظة الرابعة، أنه من دول الاتحاد السوفياتي السابق ثمة دولة واحدة فقط، هي بيلاروسيا، أيدت الموقف الروسي، ورفضت القرار الأممي، في حين أن باقي الدول، إما امتنعت عن التصويت مثل كازاخستان وأذربيجان وقرغيزستان وأوزبكستان وأرمينيا وطاجكستان، أو أيدت القرار الأممي، وهذا ينطبق على ليتوانيا وأستونيا ولاتفيا وجورجيا ومولدافيا وأوكرانيا، مع دول أوروبا الشرقية، ما يؤكد حال التوتر بين روسيا ودول الاتحاد السوفياتي السابق، كما يشير ذلك إلى تصدع “رابطة بلدان الدول المستقلة”، واضمحلالها عملياً، وتضعضع مكانة روسيا كقوة مهيمنة في مجالها الإقليمي، وهو ما يؤشر إلى مسعى التحاق هذه الدول بالغرب، أسوة بدول أوروبا الشرقية، ودول البلطيق.
كل ذلك يوضح حالة العزلة التي باتت تعيش فيها روسيا، بسبب غزوها أوكرانيا، وبسبب العقوبات الغربية المفروضة عليها، كما يوضح ذلك هشاشة المنظمات الإقليمية أو الدولية التي تنخرط فيها، إذ أن دولة واحدة فقط من دول “معاهدة الأمن الجماعي” وقفت إلى جانبها (بيلاروسيا)، في حين لم تقف ولا أي دولة معها من دول “بريكس”، كما ذكرنا، بل إن البرازيل وتركيا (العضو المقترح) أيدتا القرار الأممي. ودلالة ذلك الانفصام أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يكرر، بين فترة وأخرى، إنكاره للواقع، وذلك بإشادته بدور تجمع دول “بريكس” (الصين، روسيا، الهند، البرازيل، وجنوب أفريقيا)، ومنظمة “شانغهاي” (روسيا، الصين، أوزبكستان، طاجيكستان، قيرغيزستان، كازاخستان، الهند، وباكستان) ودول “معاهدة الأمن الجماعي” (روسيا، أرمينيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان)، واعتباره أن تلك الدول تعمل معه من أجل عالم متعدد الأقطاب.
يضاف الى كل ذلك العزلة التي بدت فيها روسيا في مؤتمر وزراء خارجية دول مجموعة العشرين (الأقوى في العالم من كل النواحي)، وهي تضم الى مجموعة دول السبع (الولايات المتحدة واليابان وألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة وكندا وإيطاليا) كلاً من: الصين، روسيا، الهند، الأرجنتين، أستراليا، البرازيل، اسبانيا، إندونيسيا، المكسيك، المملكة العربية السعودية، جنوب أفريقيا، كوريا الجنوبية، تركيا، والاتحاد الأوروبي، اذ لم تؤيدها سوى الصين؛ علماً أن روسيا ليست بين الدول العشر الأقوى اقتصادياً في العالم، التي تضم مجموعة السبع الأولى إضافة الى الصين والهند وكوريا الجنوبية.
هذا يُبين مدى عزلة روسيا، وانحسار مكانتها الدولية، كما يُبين مدى انفصام قيادتها عن الواقع، وعن العالم، وخطأ مراهناتها، ومخاطر أوهامها عن ذاتها، وأنها فقط تستثمر بقوتها النووية ومواردها من الطاقة، لكنها ضعيفة في المجالات العلمية والتكنولوجية والاقتصادية، إذ لا تصدر شيئاً في تلك المجالات، بل أن صادرات دولة صغيرة مثل هولندا (41 الف كم مربع) تبلغ ضعف صادرات روسيا.
المشكلة، أيضاً، أن بوتين برر غزوه أوكرانيا بدعوى بناء نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، فإذا تجاوزنا تفصيلاً بسيطاً مفاده اننا مع الولايات المتحدة والصين والهند والاتحاد الأوروبي واليابان في عالم متعدد الأقطاب فعلاً، وأن كل قطب يأخذ وزنه تبعاً لقدراته العلمية والتكنولوجية والاقتصادية والعسكرية، وأن روسيا لا تمتلك ما يوازي غيرها في كل ذلك، وأن الصين حريصة على عدم تضييع مسارات صعودها بالانجرار الى ادعاءات بوتين، فهل ستبني روسيا العالم الذي تتخيله، أو تتوهمه، مع أنظمة مثل تلك التي في بيلاروسيا وسوريا وكوريا الشمالية وإيران وإريتريا، مثلاً؟