ماجد كيالي
4/12/2022
لعل واحدة من أهم الظواهر التي كشفتها تداعيات غزو روسيا لأوكرانيا تمثلت بتشدد الدول، التي عانت أو خبرت تاريخياً الهيمنة الإمبراطورية الروسية، القيصرية أو السوفياتية، في رفضها وإدانة ذلك الغزو، وطلبها معاقبة روسيا، وعدم السماح لها بالفوز في أوكرانيا، ربما أكثر من دول أوروبا الغربية.
المشكلة أن القيادة الروسية والطبقة السياسية السائدة، لا تريدان فهم هذا الوضع، ودراسة أسبابه، لمعالجته، بدلاً من إنكاره، وتفسيره بمجرد تبعية تلك الدول، وحتى أوروبا الغربية، للولايات المتحدة، في حين أن ذلك تفسير قاصر، وخاطئ، وينم عن خفّة، وتهرّب من المسؤولية، ما يضر بروسيا وشعبها، وبطبيعة علاقاتها بجوارها. لذا فالسؤال هنا ليس ما الذي يفعله الغرب، ومنظماته وأحلافه، لجذب تلك الدول، وإنما هو، أساساً، لماذا تفضل تلك الدول، بمجتمعاتها، الغرب، على روسيا التي تعرفها؟ لماذا تريد حماية الغرب من روسيا؟
في السياق التاريخي ظلت روسيا تتصرف كإمبراطورية، كونها بلداً إقطاعياً ـ زراعياً، تخلف عن التطور الصناعي ـ الرأسمالي، في وقت انهارت الإمبراطوريات في أوروبا الغربية، وبعدها الدول الاستعمارية، في حين ظلت روسيا تهيمن على شعوب استونيا ولاتفيا وليتوانيا وبيلاروسيا وأوكرانيا وأرمينيا وأذربيجان ومولدوفا وكازاخستان وقرغيزستان وطاجكستان وتركمانستان وأوزباكستان والشيشان وداغستان وجورجيا ومنشوريا.
وبعد الحرب الثانية، بتداعياتها، وضمنها انقسام العالم إلى معسكرين، هيمن الاتحاد السوفياتي، على دول عديدة مثل ألمانيا الشرقية، وبلغاريا، وهنغاريا، وتشيكوسلوفاكيا، وبولندا، تحت مسمى المنظومة الاشتراكية. ومعلوم أن تلك الدول شهدت عدداً من الانتفاضات للتخلص من تلك الهيمنة (القرم ـ التتار ـ منذ 1917، هنغاريا 1956، تشيكوسلوفاكيا 1968، بولونيا مطلع الثمانينات ـ الشيشان)، لكنها قمعت بوحشية، وضمنه بتدخل القوات السوفياتية، وبالتغيير الديمغرافي (نقل السكان) وكان يتم تبرير ذلك بواسطة أيديولوجيا الماركسية اللينينية، والاشتراكية، وصد الإمبريالية الغربية.
وحصل ذلك في عهد بوتين، في حربه ضد انتفاضة الشيشان وتدمير غروزني (1999)، وفي اقتطاع أراضٍ (ترانسنيستريا) من مولدوفا (1992)، و(أوستيا وأبخازيا) من جورجيا (2008)، (والقرم ودونيسك) من أوكرانيا (2014)، وبالتدخل الوحشي في سوريا (منذ 2015)، وبالتدخلات العسكرية المباشرة وغير المباشرة بواسطة قوات المرتزقة (فاغنر) في ليبيا وغيرها.
أما بخصوص أوكرانيا تحديداً، فإن شبه جزيرة القرم (27 ألف كم2)، التي ضمتها روسيا بالقوة (2014) فكانت تاريخياً تتبع إمارة “كييف” حتى القرن العاشر الميلادي، ثم تبعت الإمبراطورية العثمانية (1475)، بسكانها التتار المسلمين، ثم في عام 1783 ضمت إلى الإمبراطورية الروسية (عهد كاترين الثانية)، وبعد قيام الثورة الاشتراكية بدأت عملية ترحيل السكان على مراحل وترويس الجزيرة (في عهد ستالين) بدعوى مقاومتهم الثورة أو بدعوى تعاونهم مع الألمان الذين احتلوها خلال الحرب الثانية، إذ رحل نحو 200 ألف منهم إلى سيبريا وغيرها من المناطق، وفي العام 1954 قام خروتشوف بإعادتها إلى أوكرانيا السوفياتية. ولم يكن مصير الأوكران أفضل، إذ قضى ملايين منهم (عهد ستالين) في ما عرف بالمجاعة (“هولودومور”)، التي صنفت كـ”إبادة جماعية” (1932 ـ 1933)، ففي حينه تمت مصادرة الحبوب والماشية، بما في ذلك البذور اللازمة لزراعة المحصول التالي، وقد اعتبر البرلمان الألماني (30/11/2022، تلك المجاعة كإبادة جماعية، في إطار الضغط على روسيا وتحذيرها من مغبة تكرار تلك المأساة في ظل الحرب الحالية.
اللافت أن الثقافة السياسية السائدة في العالم العربي (اليسارية والقومية) لم تنظر إلى روسيا كدولة استعمارية، فذلك المصطلح ظل محصوراً ببعض دول أوروبا الغربية، بخاصة بريطانيا وفرنسا اللتين استعمرتا معظم الدول العربية، رغم أن روسيا كانت تعرّف، حتى في الأدبيات الماركسية، بـ”سجن الشعوب”، وكبلد يسود فيه الاضطهاد القومي، الأمر الذي استمر مع قيام الاتحاد السوفياتي، تحت غطاء النظام الاشتراكي، الذي انهار من تلقاء ذاته، بعد 73 عاماً (1990)، بسبب الثغرات التي اكتنفته، وقد تفكك إلى 13 دولة أكبرها روسيا وكازاخستان وأوكرانيا؛ وهو الأمر الذي حصل في كل دول أوروبا الشرقية التي تحررت من هيمنة روسيا/الاتحاد السوفياتي؛ وهو أمر لا تلاحظه، أو تتهرب منه، ومن المسؤولية عنه، القيادة الروسية، والطبقة السياسية السائدة، فهي فقط تريد الحديث عن مؤامرة الغرب وعن حصار روسيا، وإظهارها كضحية.
هذا هو التاريخ السياسي الذي يفسر كل تلك الخصومة، أو العداوة، التي تكنها مجتمعات تلك الدول للهيمنة الروسية، وهو الذي يفسر تشددها في فرض العقوبات على روسيا، ودعم الجيش الأوكراني، إذ في إدراك تلك المجتمعات أن السماح لبوتين بأخذ أوكرانيا (كما سمح له باقتطاع أجزاء من مولدوفا 1992 ومن هنغاريا 2008، ومن أوكرانيا 2014) سيؤدي إلى زيادة شهيته للعودة للهيمنة على المجتمعات الأخرى في دول أخرى، وهو إدراك يراود مجتمعات أوروبا الغربية لكن بصورة أقل، ما يفسر تحملها الفاتورة الباهظة لمقاومة الغزو الروسي وتقديم الدعم المادي والعسكري والإنساني للشعب الأوكراني.
بخصوص أن روسيا “سجن الشعوب”، فهذا التوصيف للينين في مقالته عن “العزة القومية” (1914)، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، إذ يقول: “في بلد يسمى بحق “سجن الشعوب” …نحن نبغض جداً، ماضينا كعبيد (عندما كان الملاك العقاريون النبلاء يسوقون الفلاحين إلى الحرب لخنق حرية المجر وبولندا)، وحاضرنا كعبيد، عندما يسوقنا هؤلاء الملاك أنفسهم بمساعدة الرأسماليين إلى الحرب لخنق بولندا وأوكرانيا… إن شعباً يضطهد غيره من الشعوب لا يستطيع أن يكون حراً… إن ازدهار روسيا الاقتصادي ونموها الحثيث يتطلبان إنقاذ البلاد من العنف الذي يسلطه الروس على بقية الشعوب”.
المشكلة أن هذا الواقع غطته الأيديولوجيا زمن الإمبراطورية السوفياتية “التقدمية”… والغريب أن البعض، من اليساريين في بلداننا، ما زال يظن أن فلاديمير بوتين هو خليفة فلاديمير لينين وأن روسيا الامبريالية ـ المافيوية، هي ذاتها الاتحاد السوفياتي. وطبعاً ثمة مشكلة أخرى في عدم فهم البعض أنه إذا كانت المقارنة بين الغرب الرأسمالي وروسيا الرأسمالية، فإن المقارنة ستكون لمصلحة الطرف الأكثر تقدماً، على الصعيد السياسي والاقتصادي والتكنولوجي والعلمي، رغم كل ثغراته ومشكلاته، وليس لمصلحة الطرف الأكثر تأخّراً.