مناورات روسيا النووية
إعادة تفعيل عقيدة الردع كأداة ضغط قصري ومحفز للتحول الأوروبي

د. سعيد سلّام – مدير مركز فيجن للدراسات الاستراتيجية
29 أكتوبر 2025
تُمثّل المناورات النووية الاستراتيجية التي نفذتها روسيا مؤخراً، تحت الإشراف المباشر والعلني للرئيس فلاديمير بوتين وبحضور الثالوث النووي كاملاً، ممارسة واضحة “للدبلوماسية القسرية” ورفع سقف الردع السياسي. لم تكن هذه المناورات بروفة تقنية عادية، بل جاءت في لحظة يتقاطع فيها ضغط حرب روسيا على أوكرانيا مع حساسية قرارات الدعم الغربي لأوكرانيا، بهدف إعادة ترسيم قواعد الاشتباك وفرض حدود على نوعية السلاح المقدم لكييف.
موسكو: تفعيل الثالوث النووي ورفع عتبة التهديد نحو عقيدة “الاستباقية المُعلنة”
استثمر الكرملين في الإظهار العلني والمقصود لجاهزية قوته النووية، عبر استعراض متكامل شمل جميع مكونات الثالوث النووي. تضمنت التدريبات إطلاق صاروخ “يارس” العابر للقارات من منصة برية بالقرب من الدائرة القطبية الشمالية، وإطلاق صاروخ “سينيفا” من غواصة في بحر بارنتس، إضافة إلى إطلاق صواريخ مجنحة من قاذفات Tu‑95MS. هذا الترتيب يهدف إلى إظهار أن “الثالوث النووي قيد الجاهزية” والبرهان على تكامل الردع من البر والبحر والجو، ويضع القدرة النووية الروسية في وضع استعراضي مدروس أمام الجمهور المحلي والخارجي.
كذلك أشرف الرئيس بوتين عن بعد على التدريبات، مؤكداً أنها مقرّرة مسبقاً، وترافقت مع تصريحات رسمية عن أن منظومات الردع الاستراتيجية محدّثة بنسبة مرتفعة جداً، مع اكتمال شبه تام للمكوّن البحري. هذه الرسالة مفادها أن “قدرة الاستمرارية النووية” الروسية قائمة ومجرّبة، بغض النظر عن سير العمليات التقليدية في أوكرانيا.
التحول الأبرز والأكثر خطورة يكمن في الترويج الإعلامي الروسي الصريح لفكرة أن التدريبات انتقلت من محاكاة الرد إلى اختبار “تفويض الضربة الوقائية“. هذا السيناريو يهدف إلى خفض العتبة المفهومة لاستخدام النووي التكتيكي، وتحويل الردع من أداة دفاعية إلى أداة هجومية محتملة هدفها تقييد الدعم الغربي النوعي لأوكرانيا قبل أن يغير ميزان الحرب.
بوريفيسنيك: دعاية قدرة غير محدودة مقابل واقع توازن الردع
شكّل إقحام صاروخ “بوريفيسنيك” (Burevestnik)، الذي يُمثّل دلالة رمزية على التفوق التقني الروسي في مجال الدفع النووي، نقطة ارتكاز محورية في الحملة الدعائية لموسكو. لقد تعمّدت الرواية الرسمية للكرملين تضخيم سردية المدى اللامحدود نظريًا іفترة الطيران التي وصلت إلى 15 ساعة في التجربة المعلنة، حيث أكدت النرويج عملية إطلاقه من أرخبيل “نوفايا زيمليا” في بحر بارنتس.
يجمع الخبراء على أن المزايا الأساسية لصاروخ “بوريفيسنيك” تتركز في نقطتين هما المدى غير المحدود نظريًا، وإمكانية شن ضربات من اتجاهات لا يمكن التنبؤ بها. لقد صُمم الصاروخ خصيصاً لاختراق نظام الدفاع الصاروخي الأمريكي.
ويوضح الباحثين المختصين، أن تصنيع الصاروخ كان متوقعاً، حيث “كل ما يمكن تصنيعه تقنياً سيتم تصنيعه”، وأن النماذج الأولية بدأت في الستينيات بالولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، لكنها لم تكتمل لأنها كانت تترك “مساراً إشعاعياً هائلاً”. ويبدو أن روسيا استأنفت هذا العمل في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين كـ “رد” على انسحاب واشنطن من معاهدة الدفاع الصاروخي.
تُعدّ مهمة إنشاء مفاعل نووي ذي “انبعاث إشعاعي ضئيل أو معدوم” إحدى الصعوبات الرئيسية، وهو ما دفع الغرب لتسمية الصاروخ (المعروف في الناتو بـ Skyfall) بـ “تشيرنوبيل الطائر”. مركز “روساتوم” قد نجح على ما يبدو في تصميم محرك “لا يُحدث تلوثاً إشعاعياً خطيراً أثناء الطيران”. ضمان عدم تسرب الجسيمات المشعة إلى العادم يُعد “مهمة هندسية جادة”، ويبدو أن “المهمة قد حُلّت”. ومع ذلك، علينا تذكّر حادث “نيونوكسا” في 2019 الذي أسفر عن مقتل 7 مشاركين في اختبارات إطلاق يُفترض أنها تخص “بوريفيسنيك” إثر انفجار مقر التجارب.
في المقابل، ورغم أن الصاروخ يثير الرهبة ومن المحتمل أنه يحمل رأساً حربياً نووياً قد يفوق قوة قنبلتي هيروشيما وناغازاكي بأضعاف ويُعلن عنه كسلاح انتقامي قد يُخلّف مئات الآلاف من الضحايا، إلا أن “بوريفيسنيك” يُعتبر “قابلاً للمقارنة بخصائص صواريخ مُجنّحة أخرى”. فسرعته، التي تبلغ مئات الكيلومترات في الساعة، تجعله عرضة للاستهداف بواسطة أنظمة الدفاع الجوي التقليدية أو حتى المقاتلات، كما يحدث في أوكرانيا. ومع ذلك، يشدد الخبراء على صعوبة رصده بسبب ارتفاع طيرانه المنخفض وقدرته على المناورة، مما يجعل اعتراضه أمراً صعباً، لكنه لا يُعد “الصاروخ الخارق” الذي لا يمكن مواجهته.
جوهر الردع العالمي يبقى راسخًا على مبدأ “الدمار المتبادل المؤكد”، الذي يشكّل أساس الاستقرار بين القوى النووية الكبرى. هذا المبدأ تتزعمه كل من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية، اللتين تملكان معاً حوالي 87% من المخزون النووي العالمي، وتضمنان قدرتهما المتبادلة على شن “الضربة الثانية” الساحقة. وفي هذا الإطار، فإن إدخال صاروخ “بوريفيسنيك” في الخدمة لا يغيّر التوازن الاستراتيجي للقوى النووية بين روسيا والولايات المتحدة، لعدم وجود جدوى استراتيجية لذلك.
أما بالنسبة للقوى النووية الأخرى، فهي تمتلك ترسانات ردع حاسمة لضمان أمنها الإقليمي والاستراتيجي. Китай تواصل تحديث ترسانتها وتوسيعها كقوة ردع استراتيجي متنامية. بينما تُعد فرنسا وبريطانيا القوتين النوويتين الوحيدتين في أوروبا، حيث تمتلك فرنسا نحو 300 رأس نووي، وبريطانيا حوالي 250 رأسًا. وتلعب ترسانتاهما دوراً حاسماً في النقاش الأوروبي الدائر حول تأسيس “مظلة نووية مشتركة”. في حين تمتلك Пакистан ترسانة مصممة أساساً لتوفير ردع إقليمي ضد الخصوم الجغرافيين. ورغم تباين هذه القدرات، تبقى قيمة “بوريفيسنيك” في نهاية المطاف رمزية ومحدودة التأثير على الاستقرار الاستراتيجي، طالما أن القدرة على إطلاق الضربة الانتقامية المضمونة من الثالوث النووي (الروسي والأمريكي) راسخة ومؤكدة منذ عقود.
التحليل الاستراتيجي يؤكد أن ما يمنع الضربة الروسية النووية هو حتمية الرد التقليدي القوي من الناتو، والأهم من ذلك، التبعات الجيوسياسية الكارثية وفقدان الدعم من حلفاء استراتيجيين مثل الصين والهند، الذين يعتبرون أي استخدام نووي “خطاً أحمر واضحاً”.
Російська гібридна війна: стратегія дезінформації як інструмент руйнування європейської безпеки
واشنطن: رد ترامب البارد وتثبيت منطق التفوق العملياتي
جاء رد الفعل الأمريكي متسماً بـ “البرودة الاستراتيجية”، حيث كان الهدف تقليل الأثر العملياتي والسردي للتهديد الروسي. ركّز الرئيس ترامب في تصريحاته على جاهزية الغواصات النووية الأمريكية وقدرتها على إتمام مهمة الردع دون الحاجة لصواريخ بمدى يتجاوز 13 ألف كيلومتر. هذه الإشارة تُثبّت منطق أن البنية العملية للردع الأمريكي لا تتأثر بسرديات مدى أو دوام طيران، بل بتموضع منصات ضاربة مضمونة الوصول وقابلة للاختفاء.
وفي هذا السياق، عمدت تصريحات الرئيس الأمريكي إلى تقويض الأثر المعنوي للاستعراض الروسي، واصفاً المناورات النووية بأنها “غير مناسبة”. وقد دعا ترامب الرئيس الروسي إلى التركيز على إنهاء الحرب، التي وصفها بأنها “كان يجب أن تستمر أسبوعاً والآن تقترب من عامها الرابع”، بدلاً من الانخراط في استعراضات القوة. يهدف هذا التصريح بوضوح إلى نزع الهالة السياسية عن المناورات وتحويلها إلى سياق الإخفاق في تحقيق الأهداف العسكرية الروسية الحاسمة في أوكرانيا، مما يحد بشكل استراتيجي من تأثير رسائل الردع الروسية على الرأي العام الغربي وصناع القرار فيه. ويرى الخبراء في تصريحات موسكو، ضمن سياق المناورات النووية لحلف الناتو وقرارات تشديد العقوبات، “عرضاً دعائياً” في المقام الأول.
أوروبا: من نقاش المشاركة النووية إلى معضلة “زر الإطلاق”
شكّلت المناورات النووية الروسية عاملاً محفزاً حاسماً أعاد فتح ملف المشاركة النووية المشتركة بين لندن، وباريس، وبرلين، وذلك على خلفية المخاوف المتزايدة من تقلص مظلة الدعم الأمني الأمريكي للقارة. دفعت دعوات قيادات بريطانية سابقة في حلف الناتو ووزارة الدفاع إلى ضرورة بحث ترتيبات ردع مشتركة، تهدف سياسياً إلى طمأنة القارة وتقييد الأثر المباشر للخطاب النووي الروسي التصعيدي. هذا التوجه يتعزز بالتغير الملموس في مواقف الشعوب الأوروبية وزيادة القناعة بضرورة الردع النووي، كما أبرزت استطلاعات الرأي في ألمانيا وهولندا.
ومع ذلك، يبقى الإشكال الجوهري في تقاسم الردع متمثلاً في معضلة السيادة وتحديد من يملك حق “الضغط على زر الإطلاق”. فمقارنة بالقرار المركزي والموحد في موسكو، يستحيل عملياً بناء إجماع سريع بين دول عديدة داخل الناتو، مما يدفع نحو ترتيبات تدريجية. تبدأ هذه الترتيبات بمشاورات حول تكامل القدرات، تبادل المعلومات، وتموضع منصات مضادة للغواصات (كما في الاتفاق الألماني البريطاني)، قبل أي بحث واقعي في تقاسم الردع. وتؤكد تقارير أوروبية أن المناورات، وارتباطها بزيادة النشاط النووي الروسي في القطب الشمالي والغواصات الهجومية، تغذي مواقف مناصري المظلة المشتركة بضرورة تطوير ردع أوروبي متعدد المستويات وقدرات دفاع جوي واحدة منسقة، لتوحيد جهود الكشف والإنذار المبكر الشامل ضد أي تهديد.
أوكرانيا والردع المتقاطع: أثر الإشارات النووية على الدعم النوعي
إن كل إشارة نووية روسية، سواء كانت لفظية أو عبر المناورات، تفرض على دول الغرب إدخال حسابات إضافية ومعقدة навколо العتبة المقبولة للدعم النوعي لأوكرانيا. وتشمل هذه الحسابات مراجعة دقيقة لـمدى الصواريخ الموردة، حمولتها التدميرية، وقواعد استخدامها المسموح بها داخل العمق الروسي. يتمثل الهدف الاستراتيجي الروسي من هذا التهديد في دفع العواصم الغربية نحو ضبط النفس الاستباقي، وتفضيل تعزيز دفاعات الجبهات الأوكرانية على حساب توسيع مدى التعرض داخل الأراضي الروسية.
Україна переосмислює поле бою та з дедалі більшою рішучістю завдає ударів глибоко вглиб Росії.
وفي المقابل، وعلى الرغم من هذا التصعيد النووي، تراهن كييف على استراتيجية الضربات غير المتماثلة. وذلك عبر دمج وتكثيف استخدام المسيّرات والقدرات الصاروخية بعيدة المدى (بما فيها محلية الصنع) لتشتيت الدفاعات الروسية، وإجبار موسكو على توزيع منظوماتها الدفاعية على مساحة جغرافية أوسع. هذا التكتيك لا يهدف فقط إلى إضعاف كثافة الحماية على الجبهات الأمامية، بل يهدف أيضاً إلى زيادة التكلفة الاقتصادية والأمنية للحرب على الداخل الروسي من خلال استهداف البنية التحتية، مما يفاقم الضغط السياسي والاقتصادي والاجتماعي على الكرملين.
“بوريفيسنيك” يُضخّم التهديد لكنه لا يكسر ميزان الردع
تؤكد المناورات النووية الروسية أن موسكو تتقن ضبط إيقاع الردع كأداة ضغط قصري متصاعد، وتُلوّح بخفض عتبة الاستخدام نحو خيار الضربة الوقائية. ومع ذلك، يبقى الاستنتاج الاستراتيجي الحاسم هو أن هذه المناورات لا تُقدّم قدرة نوعية تقنية تقلب ميزان “الدمار المتبادل المؤكد” العالمي. لقد نجح الرد الأمريكي البارد والمُتعمَّد في تحييد البعد الدعائي الصارخ لهذه المناورات. في المقابل، كان الأثر الأعمق والأكثر ديمومة هو التحفيز الجاد والفوري لنقاش استراتيجي حول ترتيبات ردع أوروبية موسعة. هذا النقاش، رغم التعقيدات السيادية الهائلة، يدفع القارة حتماً نحو تكامل عملياتي أعمق ومشاورات مكثفة حول القدرات، مما يرسخ دور فرنسا وبريطانيا كركيزتين فاعلتين لا غنى عنهما للمظلة القارية.


