أنماط الإبادة في فلسطين… الحالات الفردية في سياق ممنهج للقتل الجماعي
حيان جابر
11/1/2023
عادةً ما تطرح جريمة الإبادة الجماعية في سياقٍ واحدٍ وأوحد، هو القتل المباشر والكبير لمجموعة ما؛ عرقيةٍ أو دينيةٍ أو قوميةٍ أو إثنيةٍ أو عنصريةٍ، على الرغم من أن تعريفها المنصوص عليه في كلٍّ من اتّفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، ونظام روما الأساسي، يتضمن أنماطًا متعددةً.
ومن هذه الأنماط: قتل أعضاء من الجماعة، أو إلحاق أذى جسديٍّ أو روحيٍّ خطيرٍ بأعضاء من الجماعة، أو إخضاع الجماعة؛ عمدًا، لظروفٍ معيشيةٍ يراد بها تدميرها المادي كلّيًا أو جزئيًا، أو فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة، أو نقل أطفال من الجماعة؛ عنوةً، إلى جماعة أخرى.
العوائق القانونية
في الحالة الفلسطينية؛ التي تشهد احتلالاً كولونياليًا استيطانيًا إحلاليًا طويل الأمد، ترافق مع جرائم ممنهجةٍ بحقّ شعب فلسطين الأصلي، نلحظ استخدام الاحتلال لمجمل أنماط الإبادة الجماعية الواردة في تعريف جريمة الإبادة الجماعية في سياق جريمةٍ مستمرةٍ منذ بدء الاحتلال ذاته.
هذه الجرائم المستمرة والمتعددة من القتل الممنهج والدائم، والإبادة الفردية في سياق الإبادة الجماعية (الإبادة الجماعية المقنعة بالإبادة الفردية)، والتجويع، والحصار اللاإنساني، والتطهير العرقي، والتهجير القسري، ونقل الجماعة قسرًا، والأسر، وسلب الفلسطينيين سبل الحياة داخل وطنهم الأصلي، وتدمير الرموز الوطنية والدينية والثقافية، وتشويه إرث المنطقة الثقافي وتدميره، وسواها من الجرائم التي تمثّل وفق رأي رئيس منظمة القانون من أجل فلسطين إحسان عادل “أركانًا رئيسيةً في جريمة الإبادة الجماعية، وقد استخدمتها إسرائيل بثباتٍ على مر السنين”.
ويوضح عادل خلال حديث مع “العربي الجديد”، الأسباب الرئيسية التي تعيق وصف تلك الجرائم الممنهجة ضدّ الفلسطينيين بجريمة الإبادة الجماعية قائلًا: “على المستوى القانوني، هناك بعض التعقيدات لإثبات مسألة الإبادة الجماعية، إذ إنّها تتطلب نيةً صريحةً وبياناتٍ رسميةً من الدول تظهر بوضوح نيتها بتدمير الشعب الفلسطيني، كليًا أو جزئيًا، ومن ثم القيام بالأفعال التي تؤدي إلى هذا التدمير، كالقتل، وإلحاق الأذى الجسدي والعقلي بالفلسطينيين، وفرض ظروفٍ معيشيةٍ قاسيةٍ عليهم تهدف إلى إهلاكهم. ويجب أن يكون واضحًا أن هذه الأفعال يتم ارتكابها بقصد تدمير الشعب الفلسطيني، وليست أحداثًا متفرقةً من دون وجود هذه النية”.
في حين أشار الباحث والمختص بالقانون الدولي بشار شيخ؛ المستشار القانوني في قانون اللجوء والهجرة في فرنسا، خلال حديث لـ”العربي الجديد”، إلى أنّ “الإشارة إلى هذه الجرائم وفقًا لتسلسلٍ زمنيٍ منفصلٍ أمرٌ مجحفٌ، لذا من الأفضل طرح إبادة الفلسطينيين جماعيًا في سياق امتدادٍ زمنيٍ غير متقطع، منذ الأيّام الأولى للاحتلال وصولاً إلى الوقت الراهن، بذلك تصبح مجمل أنماط الإبادة الجماعية المذكورة جريمةً مستمرةً، تتخللها مراحل مميزةٌ لسياسة الإبادة الممنهجة المدروسة ضدّ الفلسطينيين المدنيين؛ وغير المدنيين، في وقتي السلم والحرب”.
كما يصف الكاتب والأسير الفلسطيني باسم خندقجي اتّفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، في مقاله “الإبادة الفردية في فلسطين المستعمَرة”، المنشور في مجلة الدراسات الفلسطينية عدد 136، خريف 2023، بقوله “إن غياب الأبعاد الأخلاقية والنفسية والاجتماعية والثقافية عن الإطار العام للاتفاقية يضع كثيراً من التحديات أمام تطبيقها على أعمال التطهير العرقي والقتل والتهجير الممنهجة، وخصوصاً إبان نكبة 1948، علاوة على أن الاتفاقية مُعدّة لمعالجة نتائج الإبادة الجماعية ولا تبحث في دوافعها ومسبباتها”.
ويشير عددٌ من الباحثين والمختصين بالقانون الدولي إلى أهمّية توثيق جميع الجرائم الإسرائيلية المرتكبة بحقّ شعب فلسطين، على اعتبارها جرائم منفصلةً ومتكاملةً في الوقت ذاته، إذ من الضروري متابعة كلّ ملفٍ قانونيٍ منها على حدة، بغرض محاسبة الاحتلال وقادته المسؤولين عنها، إلى جانب متابعتها مجتمعةً، كما في حالة جريمة الإبادة الجماعية التي تتضمن ممارساتٍ إجرامية متعددةً، ورد ذكرها في نصوص القانون الدولي التي عرفت الجريمة.
وتكمن أهمّية متابعة هذه الجرائم على حدة في اعتبار كل من هذه الجرائم انتهاكًا واضحًا وفاضحًا لقانون الحرب، أو للقانون الإنساني، وبالتالي فكل منها يمثّل جريمة حرب، أو جريمة ضدّ الإنسانية، تستوجب ملفًا قضائيًا خاصًّا بها، وبالتالي محاسبةً خاصّةً بها.
كما يعتقد بعض المختصين القانونيين أن إثبات نية الاحتلال بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية بحقّ الفلسطينيين قد يعيق مسار محاكمته على هذه الجريمة، في مقابل إمكانية محاسبته على جرائم الحرب المنفصلة، والجرائم ضدّ الإنسانية المنفصلة، سواء كانت فردية أم جماعية، مثل جرائم تعمد استهداف المدنيين، والصحافيين، والعاملين في القطاع الصحي والإغاثي، وتدمير البنى التحتية، والمنشآت السكنية والصناعية والخدمية، فضلاً عن جرائم التطهير العرقي، والفصل العنصري، والمجازر، والحصار، والتجويع، وسواها من الجرائم.
ويوضح رئيس منظمة القانون من أجل فلسطين إحسان عادل أهمية الموضوع قائلاً: “تتضمن جريمة الإبادة الجماعية عدداً من الجرائم المنفردة بحدّ ذاتها، كالقتل والاغتصاب والتعذيب، إذ تستوجب كلّ جريمةٍ منها العقاب عليها. بناء عليه، فإنّ الأصل القانوني يعمل على جميع هذه المسارات في الوقت ذاته”.
الإبادة الفردية في سياق الإبادة الجماعية
وفق أرقام الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني؛ بلغ عدد شهداء فلسطين، الذين قتلوا على أيدي قوات الاحتلال الإسرائيلي، وعلى أيدي مستوطنيه أكثر من 11 ألف شهيدٍ بين عامي 2000 و2022، وهو ما يصبح قرابة الـ 34 ألفًا عند إضافة شهداء العام المنصرم 2023. كما يقدر الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني عدد شهداء فلسطين منذ النكبة إلى اليوم بأكثر من 100 ألف شهيد.
هذا العدد الكبير من الشهداء، وتتابعه على مدار فترةٍ زمنيةٍ طويلةٍ وممتدةٍ منذ النكبة، يسلط الضوء على سلوكٍ إسرائيلي ممنهجٍ، يسعى إلى تعمد قتل الفلسطينيين على خلفية انتمائهم القومي/ الفلسطيني، خصوصًا بعد التدقيق في السياقات التي ارتكبت فيها قوات الاحتلال، أو جحافل مستوطنيه هذه الجريمة المتواصلة بحقّ شعب فلسطين الأصلي، أو جزءٍ منه، إذ تشير مئات التقارير الدولية إلى عددٍ من جرائم الاحتلال الإسرائيلي على أنّها جرائم غير مشروعةٍ، وقتلٌ غير ضروريٍ، وغير مبررٍ.
على سبيل المثال لا الحصر؛ في تقرير منظمة العفو الدولية “أمنيستي” المعنون “نظام الفصل العنصري (أبارتهايد) الإسرائيلي ضدّ الفلسطينيين نظامٌ قاسٍ يقوم على الهيمنة وجريمة ضدّ الإنسانية”، ورد فيه “منذ عام 1967، قتلت القوات الإسرائيلية وأصابت آلاف المدنيين الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، مع إفلاتٍ شبه كاملٍ من العقاب والمساءلة، وكثيرًا ما كان ذلك في ظروفٍ توحي بأن أعمال القتل كانت ممنهجةً وتعسفيةً وغير قانونيةٍ” .
بشار شيخ: الإبادة الفردية للفلسطينيين يجب أن تفهم ضمن سياق الجريمة المستمرة الممنهجة؛ إذ يمكن الاستعانة بمعايير كميةٍ (نسبة عدد الضحايا مقارنةً بعدد الجماعة)، أو بمعايير نوعيةٍ (وضع الضحايا داخل الجماعة)، مع الأخذ بعين الاعتبار ما حدث لبقية الجماعة
ثم يتابع التقرير: “تعكس أنماط استخدام القوة المفرطة ضدّ الفلسطينيين خلال عمليات إنفاذ القانون، والمعلومات المتاحة عن قواعد الاشتباك العسكرية الإسرائيلية، وكذلك تصريحات مسؤولين إسرائيليين في أعقاب مثل هذه العمليات وخاصّةً خلال التظاهرات، وجود سياسة مخططة ودؤوبة لإطلاق النار بهدف قتل أو تشويه الفلسطينيين”.
ولم يتطرق تقرير منظّمة العفو الدولية إلى جرائم الاحتلال الإسرائيلي بحقّ شعب فلسطين قبل عام 1967 بإسهابٍ، لكنه وضح من دون لبسٍ أن ممارسات الاحتلال وقواته النظامية تعكس سلوكًا مخططًا ودؤوبًا تجاه الفلسطينيين عامةً بغرض القتل أو التشويه على أقلّ تقديرٍ، وهو ما يتقاطع مع تعريف جريمة الإبادة الجماعية المشار إليه في بداية تقريرنا هذا، وخصوصًا مع النمطين الأول والثاني، اللذين ينصان على “قتل أعضاء من الجماعة، إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة”.
إحسان عادل: يعتبر الكثيرون على الساحة العالمية أن الأحداث الجارية بحقّ الفلسطينيين تشكل إبادةً جماعيةً مستمرةً تعود إلى عام 1948 والنكبة
بناءً عليه، تبدو نيّة الاحتلال المتعمدة في ذلك مستوحاة من سلوكه الممنهج والممتد على فترةٍ زمنيةٍ طويلةٍ جدًا، رصدها تقرير منظّمة العفو الدولية منذ عام 1967 في تقريره المشار إليه هنا، والمنشور في 1/2/2022.
في هذا السياق؛ يجد الباحث والمختص القانوني شيخ أنّ جريمة الإبادة الفردية بغرض الإبادة الجماعية في الحالة الفلسطينية يجب أن تفهم في سياقها العام والمستمر، موضحًا أن “الإبادة الفردية للفلسطينيين يجب أن تفهم ضمن سياق الجريمة المستمرة الممنهجة؛ إذ يمكن الاستعانة بمعايير كميةٍ (نسبة عدد الضحايا مقارنةً بعدد الجماعة)، أو بمعايير نوعيةٍ (وضع الضحايا داخل الجماعة)، مع الأخذ بعين الاعتبار ما حدث لبقية الجماعة، حيث لا تؤدي بعض أعمال الإبادة إلى قتل الأفراد فورًا، بل تجعل من المستحيل بقاء المجموعة على قيد الحياة على المدى القصير أو المتوسط، لذا بالإمكان إثبات القصد الواضح للتدمير، وأن المجرم/ الاحتلال لم يرد الفعل الإجرامي فقط، ولكن أيضاً؛ النتائج النهائية لهذا الفعل، والتي تنصبّ على تدمير كلّ أو جزءٍ من جماعةٍ محددةٍ، هي الفلسطينيون في هذه الحالة”.
في حين وضح الباحث القانوني عادل رأيه بهذا الصدد قائلاً: “نعم، يعتبر الكثيرون على الساحة العالمية أن الأحداث الجارية بحقّ الفلسطينيين تشكل إبادةً جماعيةً مستمرةً تعود إلى عام 1948 والنكبة، وتضمن ذلك سلسلةً من الإجراءات العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية المتعددة التي تستهدف تدمير الهويّة الوطنية الفلسطينية، وتدمير الشعب الفلسطيني. ويشمل ذلك أيضًا فرض حصارٍ طويلٍ على قطاع غزّة، وتجويع السكان بمنحى فاق الإنكار المتعمد للاحتياجات الأساسية للحياة كما نشاهد الآن، وفرض قيودٍ اقتصاديةٍ، وتدمير وسائل الإنتاج ومصادر الغذاء، بالإضافة إلى تلويث آبار المياه. كما يتسارع الأمر بإقامة مستوطناتٍ إسرائيليةٍ جديدةٍ مهددةً بذلك وجود الفلسطينيين”.