ازدراء الغرب لحياة الفلسطينيين: كيف يُنسى!
الكاتب : أوين جونز
ترجمة و اعداد: محمود الصباغ
23/1/2024
المصدر: صحيفة الغارديان
تواطأت طبقتنا ونخبنا السياسية والإعلامية عما يجري من كوابيس الحرب في قطاع غزة؛ وسنفقد، دون رجعة بسبب هذا التواطىء، البقية الباقية لأي أثر من قوتنا وسلطتنا الأخلاقية.
فما هي قيمة الحياة الفلسطينية؟ لمن لا يزال يحتفظ بأوهام لم تدفن بعد مع عائلات بأكملها تحت أنقاض غزة(1) ؟
سيأتينا الجواب البارز على لسان [الرئيس الأمريكي] جو بايدن في بيان صدر نهاية الأسبوع الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على بدء الرعب الحالي هناك(2)، أبدى فيه، وهو محق، تعاطفه الشديد مع محنة الرهائن -الذين يمثل اختطافهم من قبل حماس جريمة حرب خطيرة- وعائلاتهم المصدومة؛ دون إشارة أو ذكر ولو بكلمة واحدة للفلسطينيين.
سوف يثبت المستقبل، جدية تأثير إفصاح رجال السياسة والإعلام، على حد سواء، عن ازدرائهم لحياة الفلسطينيين؛ وعدم تكليف أنفسهم حتى عناء إخفاء هذه المشاعر. وفي الواقع، لا يعد هذا جديداً، وقد بتنا نلمس الآن التداعيات شديدة القوة والـتأثير لمثل هذه المواقف. ومن المؤكد لو لم تتجاهل الدول القوية في العالم بوقاحة واضحة طرد ثلاثة أرباع مليون فلسطيني من ديارهم قبل 76 عاماً(3)، فضلاً عن مقتل نحو 15000 من أهلهم وذويهم في أعمال عنف موصوفة، لما رأينا اليوم هذ الحصاد المر لبذور الأمس.
ومن الواضح أ ن هذا الحصاد لن يمنع النخب السياسية والإعلامية من مواصلة التصرف كما كانوا يفعلون، وأن ما بدأوا به بتغطية كابوس غزة يعكس فعلاً ما ينوون القيام به دون أي تغيير في السلوك والمقاربة.
هل يعلم هؤلاء كم قتلت إسرائيل من الفلسطينيين في الضفة الغربية وحدها في العام المنصرم، قبل الفظائع التي اقترفتها حماس في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وهي فظائع لا يمكن الدفاع عنها حتماً ؟. هل يعلمون أن 234 فلسطينياً قتلتهم القوات الإسرائيلية، بينهم أكثر من ثلاثين طفلاً(4). فهل حياة هؤلاء رخيصة إلى هذا الحد؟. ربما ستقول تلك النخب نعم.. يبدو أن لا معنى لها إن كنت فلسطينياً
ولو نظرنا إلى حياة الفلسطينيين بصفتها قيمة ينبغي الحفاظ عليها، فربما ما كانت لتحصل عقود طويلة من الاحتلال والحصار والاستيطان غير القانوني وقوانين الفصل العنصري والقمع العنيف والذبح الجماعي(5). إذ يصعب الاستمرار في اضطهاد الآخرين عندما نحترم إنسانيتهم ونتقبلها. حتى أن بعض من استسلم للامبالاة الغربية تجاه حياة الفلسطينيين ربما توقع أنه بعد هذه المذبحة القاتلة قدوم الفرج بعد الكارثة والمذبحة القاتلة، وأن تحولاً للأفضل قادم لا محالة وسوف يجرف معه آثار هذه الحرب القائمة الآن مثلما يجرف انهيار السد ما هو أمامه.
ولعل القتل العنيف لنحو 10 آلاف طفل(6)، أو مصير عدد مماثل منهم تعرضوا لبتر ساقهم أو كليتيهما (وفي كثير من الحالات دون تخدير).. لعل كل هذا من شأنه إثارة مشاعر قوية. وربما سيشعر هؤلاء أنفسهم ببعض الاشمئزاز خارج السيطرة عندما يعلمون أن 5500 امرأة حامل تلد كل شهر(7) -والعديد منهن يخضعن لعمليات قيصرية دون تخدير- أو سماعهم قصص عن أطفال حديثي الولادة يموتون بسبب انخفاض حرارة الجسم والإسهال. ولا ريب في أن التوقعات باحتمال وفاة نحو ربع سكان قطاع غزة، في غضون عام، بسبب تدمير إسرائيل لنظام الرعاية الصحية وحده(8)، من شأنه الدفع نحو المطالبة القوية بفعل شيء ما؛ أي شيء سيؤدي إلى وقف كل هذا الفحش.
ولعل القصص المتواصلة -التي تبدو لا نهاية لها- عن ذبح عمال الإغاثة أو الصحفيين أو المسعفين مع العديد من الأقارب -أو حتى أسرهم بأكملها- بسبب صاروخ إسرائيلي ستؤدي في النهاية إلى سماع جوقة ساحقة في المجتمع الغربي تنادي بضرورة توقف هذا الجنون.. الجنون الحقير.. يجب أن يتوقف هذا الخلل .. لكن شيء من هذا لم نسمعه من رجال السياسة والإعلام؛ ولم يحدث، وهذا ما سوف تكون له عواقب وخيمة.
إن التقليل من قيمة الحياة الفلسطينية ليس حقيقة مفترضة، بل هو حقيقة إحصائية. ووفقاً لدراسة جديدة لتغطية الصحف الأمريكية الكبرى للحرب، ففي كل مرة يشار فيها إلى موت إسرائيلي يتم ذكر الإسرائيليين ثماني مرات -أو بمعدل 16 مرة مقارنة بالفلسطينيين. ووجد تحليل حول تغطية قناة بي بي سي قام به خبراء البيانات دانا نجار وجان ليتافا تفاوتاً ساحقاً مماثلاً، وأن المصطلحات الإنسانية مثل “الأم” أو “الزوج” كانت تستخدم في كثير من الأحيان بدرجة أقل لوصف الفلسطينيين، في حين أن المصطلحات العاطفية مثل “مجزرة” أو “ذبح” “تم تطبيقها تقريباً على ضحايا حماس من الإسرائيليين دون الفلسطينيين(9).
ما يجري الآن في قطاع غزة سوف يترك آثاراً عميقةً في المستقبل. لننسى الحديث عن أي ادعاءات أو مزاعم غربية عن حقوق الإنسان والقانون الدولي؛ فقد نظر الكثير حول العالم بازدراء إلى مثل هذه النزعة الغربية المتعالية وسوف ينظر لمزاعمهم كذريعة لتعزيز المصالح الاستراتيجية للبلدان التي أصبحت غنية على حساب بقية العالم، وسوف تظهر روح السخرية والتهكم والريبة من المواقف الغربية بالعودة إلى التاريخ الاستعماري الطويل للغرب الذي تأسس في ظل عمليات الإبادة الجماعية في كثير من الأحيان (10)، كما كان الحال مع مجازر حرب العراق، أو الدعم الفعال لأنظمة للاستبداد المطيعة والتي يتم التلاعب بها في أصقاع الأرض. وسوف لن يسمع أحد من جديد لهذه المزاعم -سوى السذج- بعد أن دعم الغرب إسرائيل وقدّم لها السلاح، من قنابل ورصاص وغيره، تفرض به الموت الجماعي على غزة وتقضي على السكان بالجوع والعطش وتدمير المرافق الطبية.
ولكن الأمر لن يتوقف هنا، عند نظرة تلك الدول للغرب، فالأمر لم يعد يتوقف على تدني سمعة النخب السياسية والإعلامية الغربية في الخارج، بل عليهم أن يقلقوا بجدية لما يحدث داخل بلدانهم أيضاً حيث عليهم مواجهة انهيار المنظومة الأخلاقية في أوطانهم.
لقد نشأت أجيال شابة في دول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا تتعامل مع العنصرية بجدية أكبر بكثير من الأجيال السابقة؛ وتظهر استطلاعات الرأي أن الشباب في تلك الدول أكثر تعاطفاً مع الفلسطينيين ممن هم أكبر سنٍ(11). ويستخدم هؤلاء الشباب وسائل التواصل الاجتماعي بنهم شديد، وهم يشاهدون مباشرة ، دون تدخل أي طرف وسيط، مشاهد لما يدور في غزة على مدار الساعة، ومشاهد أخرى يصورها الجنود الإسرائيليون بفرح بالغ لجرائم الحرب كمواد لتسلية جمهورهم.(12) وصفت هذه المشاهد المحامية الإيرلندية بلين ني غرالي، أثناء عرض قضية جنوب إفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية(13) بأنها “أول إبادة جماعية في التاريخ نرى فيها كيف تبث الضحايا عملية تدميرهم في الوقت الحقيقي [دون مونتاج] على أمل، ولو يائس حتى الآن، أن يقدم العالم على فعل شيء ما لهم”. وقد تأكدت للأجيال الشابة منفعة هذه السلسلة من المشاهد لأمهات يصرخن يمسكن بجثث أطفالهن حديثي الولادة.
ماذا سيستنتج هؤلاء الشباب بعد ذلك من التغطية الإعلامية، أو من تصريحات السياسيين، التي لا يبدو أنها تتعامل مع الحياة الفلسطينية بصفتها حياة ذات قيمة بالمطلق؟
ما هي الاستنتاجات المستخلصة حول تزايد عدد الأقليات في الدول الغربية التي تبذل وسائل الإعلام والنخب السياسية فيها القليل من الجهد لإخفاء ازدرائها للحياة الفلسطينية وهي تنطفىء حتى بمقياس ونطاق ومنطلق توراتي ؟
لذا، نعم، لقد رأينا إلى أين أوصلنا رفض معاملة الفلسطينيين كبشر وكيف جعل كابوس اليوم أمراً حتمياً.
يمكننا رؤية كيف تتفكك، بالأحرى نتمزق المزاعم الأخلاقية المستخدمة لتبرير تأبيد الهيمنة العالمية الغربية. غير أنه لم ينظر بعمق بعد كيف قامت النخب السياسية والإعلامية في الدول الغربية بحرق قوتها وسلطتها الأخلاقية، مما جعلها تتعفن إلى جانب آلاف الجثث الفلسطينية مجهولة الهوية المدفونة تحت الأنقاض.
إنها نقطة تحول، بالتأكيد، تصحبها عواقب لن نتمكن من فهمها إلا بعد فوات الأوان.
…..
تم إعداد هذه المادة حسب المصدر بالاستعانة بالمصادر التالي:
- https://cpj.org/2024/01/journalist-casualties-in-the-israel-gaza-conflict/
- https://www.whitehouse.gov/briefing-room/statements-releases/2024/01/14/statement-from-president-joe-biden-marking-100-days-of-captivity-for-hostages-in-gaza/
- https://www.aljazeera.com/features/2017/5/23/the-nakba-did-not-start-or-end-in-1948
- https://reliefweb.int/report/occupied-palestinian-territory/palestinians-west-bank-2023-was-deadliest-year-record
- https://www.ochaopt.org/data/casualties
- https://euromedmonitor.org/en/article/6020/Over-10,000-infants-and-children-killed-in-Israel%E2%80%99s-Gaza-genocide,-hundreds-of-whom-are-trapped-beneath-debris
- https://www.savethechildren.net/news/gaza-more-10-children-day-lose-limb-three-months-brutal-conflict
- https://news.un.org/en/interview/2023/11/1143327
- https://www.theguardian.com/commentisfree/2023/dec/29/health-organisations-disease-gaza-population-outbreaks-conflict
- https://github.com/liet-git/bbc-bias
- https://www.theguardian.com/news/2016/aug/18/uncovering-truth-british-empire-caroline-elkins-mau-mau
- https://ygo-assets-websites-editorial-emea.yougov.net/documents/Results_MAP_231221_W.pdf
- https://www.middleeasteye.net/opinion/gaza-israel-war-humiliation-weapon-palestinians-uses-how