الحرب الروسية الهجينة:
استراتيجية التضليل أداة لتفكيك الأمن الأوروبي
د. سعيد سلّام – مدير مركز فيجن للدراسات الاستراتيجية
تم النشر في مجلة “مسارات” – 10\10\2025
أطلقت رئيسة وفد روسيا في “منتدى الأمن والتعاون في أوروبا حول التعاون الأمني” تحذيراً مفاده أنه “لم يعد هناك خيار متاح لشعوب أوروبا سوى الاستعداد لصراع مسلح واسع النطاق”. هذا التصريح، الذي كان يُعتبر يوماً ضرباً من المبالغة، يجب قراءته اليوم كجزء لا يتجزأ من استراتيجية تضليل دبلوماسي متعمد، تهدف إلى إلقاء المسؤولية على الأطراف التي تسعى للدفاع عن نفسها. إن فهم الأزمة الامنية الحالية في أوروبا يقتضي تفكيك ازدواجية الخطاب الروسي وإدراك أن الأفعال العدوانية لروسيا هي المُحرِّك الحقيقي للتصعيد.
يكمن مفتاح الاستراتيجية الروسية في التناقض الصارخ بين ما يتم الإعلان عنه وما يتم فعله. فبينما يصر وزير الخارجية، سيرغي لافروف، على أن روسيا “ليست لديها نية لمهاجمة دول الناتو أو أوروبا”، في محاولة مكشوفة للتضليل الدبلوماسي وتخفيف القلق، تستخدم القيادة الروسية لغة التهديد التي تكشف النوايا الحقيقية.
وهنا يأتي الدور الخطير لتهديدات ديمتري ميدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، الذي يلوّح بشكل متكرر وصريح بـاستخدام الأسلحة النووية التكتيكية ضد أوروبا إذا استمرت في دعم أوكرانيا، معتبراً أن هذا الدعم يهدد الأمن القومي الروسي بشكل وجودي. هذا التباين هو ازدواجية مُتعمّدة، تكرر سوابق تاريخية موثقة، من نفي نية غزو القرم عام 2014، إلى النفي المتكرر لغزو أوكرانيا عام 2022. هذه السوابق تؤكد أن تصريحات لافروف تندرج في إطار الحرب الإعلامية لتمويه حقيقة أن روسيا هي الطرف البادئ بالتصعيد.
إن الاستعداد الأوروبي للحرب والدعم الغربي لأوكرانيا ليسا خياراً استفزازياً، بل ضرورة امنية وجودية نتيجة مباشرة لـ العدوان العسكري الروسي المستمر منذ عام 2014. هذا العدوان قاد إلى أزمة أعمق من مجرد سباق تسلح، إنه صراع على الهوية ونظام الأمن الأوروبي بأكمله، تفاقم مع انهيار الإطار القانوني للرقابة النووية.
في سياق متصل، كثّف الرئيس فلاديمير بوتين من ضغوطه عبر التهديد باستهداف أي قوة غربية تُنشر على الأراضي الأوكرانية بعد وقف إطلاق النار، وهو ما يمثل محاولة صارخة لـ فرض شروط مسبقة على أي تسوية سلمية وحرمان كييف من أي ضمانات أمنية مستقبلية. هذا التصعيد جاء رداً مباشراً على تشكيل “تحالف الراغبين” الأوروبي، وهو ائتلاف يضم دولاً تسعى لنشر قوة طمأنة متعددة الجنسيات هدفها ضمان سيادة أوكرانيا ومنع تكرار العدوان الروسي بعد إحلال السلام. يمثل هذا التحالف انتقالاً أوروبياً نوعياً نحو أمن جماعي وفاعل، يسعى لإعادة رسم خريطة النفوذ في شرق القارة بعيداً عن الوصاية الروسية. وقد أكد حلف الناتو، في رد حاسم على التهديدات، أن قرار نشر هذه القوات هو قرار سيادي للدول الأعضاء لا يخضع لأي إذن أو ابتزاز من الكرملين.
تسير روسيا على حافة الهاوية عبر حرب هجينة واسعة النطاق تهدف إلى إغراق أوروبا في الفوضى وتقويض جبهتها الداخلية. هذا يشمل: تكرار خروقات الطائرات الروسية للمجال الجوي لدول الناتو؛ تنفيذ عمليات تخريب وتفجيرات في المرافق الحيوية؛ وشن هجمات سيبرانية منظمة، واستخدام حملات التضليل والأخبار الزائفة لشق الصف الأوروبي وتقويض الثقة في الحكومات.
تؤكد هذه الممارسات العدوانية أن روسيا هي الطرف الذي يرفض الاستقرار. وبناءً عليه، فإن حتمية المواجهة المحتملة ليست نتاج سياسات أوروبية عدوانية، بل هي النتيجة المباشرة للاستراتيجية الروسية التوسعية. هذا الواقع يستدعي استجابة غربية أكثر صلابة ووضوحاً، تقوم على الردع الجماعي القوي، وتجريد موسكو من ورقة الضغط النووي التي تعتمد عليها لتقويض الأمن القاري.