العالم العربي كبيئة لمؤامرات متخيّلة
ماجد كيالي – كاتب فلسطيني
20/8/2023
لا يخلو عالم العلاقات والصراعات السياسية، الوطنية والإقليمية والدولية، من التآمر، بمعنى وجود خطط لدى طرف، أو أطراف عدة، لتحقيق أهداف معينة، ضد طرف آخر، من دون إظهار ذلك، أو بإظهار طرف ما عكس ما يبطنه، أو يبيته ضد طرف آخر.
مع ذلك، فإن تلك الخطط لا يقدّر لها الخروج من أدراج المكاتب، أو الأقبية، إلا إذا توافرت لأصحابها القوة اللازمة لفرضها، وتحويلها إلى واقع، أو تحيّن الفرص المناسبة لذلك، ما يعني أن الطرف الآخر قد يسهّل، أو يمكّن، المؤامرة منه، ما يفيد بأن المؤامرة ليست قدراً لا يمكن تجنّبه، أو التقليل من آثاره، بخاصة في الحالة الثانية.
لذا، فإن المشكلة لا تتعلق بالمؤامرة بحد ذاتها، بل في التفكير بالواقع حصراً بواسطة عقلية المؤامرة، وهي عقلية عمومية تتأسس على التخيّل وتقسيم العالم، بطريقة مبسطة ومنمطة، إلى أخيار وأشرار، كما تتعلق بإحالة أي قصور أو ثغرة عند طرف معين إلى مؤامرة، وهو ما اعتاد عليه العقل السياسي العربي، في العموم، للتهرب من المسؤولية، أو تبرير العجز عن صد مشكلة ما، وإحالتها إلى الخارج، وهي طريقة اعتادت عليها معظم الأنظمة العربية، وأصابت بعدواها أحزاباً ومثقفين وناساً عاديين؛ فهذا ما حصل في تبرير خسارة الحروب مع إسرائيل، كما في إحالة القصور في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وحتى مصادرة الحريات، بدعوى التصدي للمؤامرة الخارجية.
ولئن كانت تلك العقلية، أي التي تتغطى بالمؤامرة، توحي بوجود عالم سري وقوى غامضة ومؤامرات خفيّة، فإنها توحي أيضاً بنقيض ذلك، بادعائها معرفة كل شيء، وأن ما يصدر عنها هو بمثابة حقيقة مطلقة لا تتزعزع.
وللإنصاف، فإن هذه العقلية لا تصدر من فراغ، لكنها بدل تحليل الواقع بإشكالياته وتناقضاته وتعقيداته، تذهب نحو تشجيع التخيّل، بالمعنى السلبي، أي التوهم. وعوض تحديد المشكلات الذاتية، وتعيين أسبابها الداخلية والعضوية، تروّج لإحالتها إلى المؤامرة الخارجية.
بيد أن مشكلة أصحاب عقلية المؤامرة تكمن في تفصيل بسيط آخر، إذ لا مؤامرات خفية حقاً، لا سيما في أوضاعنا العربية، فكل شيء معروف، أي طبيعة القوى التي تتصارع على العالم العربي، على موارده، وأنظمته، وعلى تشكيل الوعي فيه. وبالمثل فإن التحديات والمخاطر التي تواجه المجتمعات العربية معروفة، وكذلك مكامن النقص والعطب فيها.
وكما نعلم، فإن ذلك يشمل اتفاقية “سايكس بيكو” التي رسمت حدود المشرق العربي من قبل الدول الاستعمارية في مطلع هذا القرن، ووعد بلفور البريطاني لليهود بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين (1917)، وخطط إقامة إسرائيل، منذ عقد المؤتمر الصهيوني الأول (1898)، وصولاً إلى الغزو الأميركي للعراق (2003)، ثم تسليمه لإيران على طبق من فضة، عبر الميليشيات الطائفية المسلحة التي تشتغل كأذرع إقليمية لإيران في العراق.
مثلاً، في السبعينات، ظهر ما يسمى «اللجنة الثلاثية» التي أدارها زبينغيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأميركي (بعد كيسنجر)، في عهد الرئيس كارتر (1977 – 1981)، والتي شكّلت بدفع من ديفيد روكفلر (مطلع السبعينات)، وضمّت ساسة وقادة رأي من الولايات المتحدة وأوروبا واليابان، وقيل حينها إن الهدف هو تعزيز السيطرة على العالم وضمنه العالم العربي، كأن هذا أمر سري أو مستغرب، أو كأن لجنة كهذه تزيد أو تنقص من ذلك؛ وكان ذلك قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، من تلقاء ذاته، ومعه كل منظومة الدول الاشتراكية، وتالياً سيادة الولايات المتحدة على النظام الدولي منذ مطلع التسعينات.
يذكر أن بريجنسكي نشر وقتها كتاباً عنوانه: “بين عصرين – أميركا والعصر التكنتروني” (1970)، تحدث فيه صراحة عن قرب انهيار الاتحاد السوفياتي (قبل حصول ذلك بعقدين)، بحكم إخفاقه في ثلاث مسائل: توق الناس إلى الحرية، والمسألة القومية، والتقدم التقني، لعدم قدرته على مواجهة تحدي النموذج الذي تمثله الولايات المتحدة، في هذه المسائل، وهو الأمر الذي حصل بطريقة مفاجئة وسلمية؛ إذ إن القيادة الشيوعية وقتها، برئاسة الأمين العام غورباتشوف، هي التي فككت، بيديها، الاتحاد السوفياتي، والنظام الاشتراكي.
ولعل أبرز مخططات تآمرية وأخطرها، صاغها تيار “المحافظون الجدد“، بدعوتهم العلنية، وليس السرية، إلى استغلال الهجوم الإرهابي في نيويورك وواشنطن (11/9/2001)، وضرورة استخدام القوة لفرض الترتيبات التي تتلاءم مع مصالح الولايات المتحدة (وإسرائيل)، إلى حد الدعوة صراحة إلى إعادة السيطرة على منابع النفط، باعتبار أن العرب لا يملكون أي فضل في اكتشافه أو استخراجه أو تكريره، وفق رأي أحدهم.
أيضاً، وفي هذه المناخات، كان الرئيس بوش الابن قد طرح خطته المتعلقة بـ«نشر الديموقراطية» في العالم العربي (2002)، لفرض الإصلاح السياسي فيه، ثم خطته لإقامة «الشرق الأوسط الكبير» (2003)، وهي غير خطة “الشرق الأوسط الجديد»، التي طرحت إبان إدارة كلينتون في التسعينات، وكلها خطط علنية ومنشورة، بل ونوقشت مع الحكومات العربية مباشرة، وطرحت في مؤتمرات القمم العربية، ونُظمت لها ورش عمل وندوات.
في ما يخص إسرائيل، يمكن ذكر خطط كثيرة، وخصوصاً خطتين رئيستين ولافتتين، أولاهما: «استراتيجية إسرائيل في الثمانينات» (1982)، وثانيتهما: «استراتيجية جديدة لنتنياهو» (1996)، وقد نشرت كل منهما في حينها. والاثنتان تتحدثان عن أهمية إحداث تغيير استراتيجي في المنطقة، بالاستفادة من ضعف الدولة والمجتمع العربيين، والتقسيمات الطائفية والمذهبية وانتشار الفقر وغياب الديموقراطية.
يستنتج مما تقدم أنه لا مؤامرات أو خطط سرية، إذ كل شيء علني ومكتوب، تقريباً، ثم إن اعتبار وجهات النظر الصادرة عن مسؤولين أو صناع رأي أو مراكز أبحاث في الدول الغربية، بمثابة خطط للتنفيذ، ينم عن جهل بهذه الدول، وآليات عملها، فهي تعج بمراكز الدراسات والجامعات التي تنتج عشرات الخطط والخيارات لتضعها أمام صناع القرار، من دون أن يعني ذلك الأخذ بها، أو إمكان تحقيقها، ناهيك بوجود وجهات نظر أخرى متباينة.
أيضاً، أصحاب التفكير بعقلية المؤامرة يفوتهم أن الغرب لا ينشغل فقط بالمؤامرات وبالهيمنة، فهو ينشغل أيضاً بتطوير العلوم والتكنولوجيا والثقافة والاقتصاد. كما يفوتهم أن السادة المعنيين عندنا يعرفون عن تلك الخطط، ولا يفعلون شيئاً لصدها أو للتقليل من مخاطرها.