المواجهة الإسرائيلية الإيرانية المباشرة …
تداعيات التصعيد ومستقبل العالم العربي والشرق الأوسط
د. سعيد سلّام – مدير مركز فيجن للدراسات الاستراتيجية
14\6\2025
يشهد الشرق الأوسط تصعيدًا غير مسبوق في التوترات بين إسرائيل و إيران، مدفوعًا بالهجوم الإسرائيلي الأخير على الأراضي الإيرانية والرد الإيراني الذي أعقبه. هذا التطور الخطير لا يكشف فقط عن القدرات العسكرية والاستخباراتية للطرفين، بل يسلط الضوء أيضًا على هشاشة الأمن الإقليمي، وديناميكيات القوى المتغيرة، وتعقيدات العلاقات الدولية. يهدف هذا التحليل إلى تقييم لهذه الأحداث، وتحليل السيناريوهات المحتملة، وتقديم توصيات استراتيجية.
لقد شكّل الهجوم الإسرائيلي على إيران صدمة عميقة للقيادة الإيرانية، خاصة مع استهداف حوالي 300 هدف عسكري ومدني في مواقع حساسة مثل منشأة نطنز النووية ومواقع عسكرية في أصفهان وتبريز. كشف هذا الهجوم عن خرق أمني غير مسبوق، سواء كان بشريًا أو تقنيًا، مما أدى إلى ارتجاج في الجسد السياسي والأمني الإيراني. تشير التقارير، خاصة الإسرائيلية والعربية، إلى تضرر كبير في المنشآت الإيرانية، لا سيما تلك المرتبطة بالبرنامج النووي والصاروخي، ما يعمق الصورة السلبية.
إن الاختراق الاستخباراتي الإسرائيلي يُعد من أخطر التحديات، حيث نجحت إسرائيل في اختراق أعلى مستويات الأمن الإيراني، مما تجلى في سلسلة اغتيالات قيادات عسكرية وعلماء نوويين بارزين. قائمة الشخصيات المستهدفة، التي تشمل قادة عسكريين رفيعي المستوى مثل اللواء حسين سلامي واللواء محمد حسين باقري، وعلماء نوويين مثل فريدون عباسي، تشير إلى قدرة إسرائيل على الوصول إلى قلب البنية الأمنية الإيرانية. يشير هذا المستوى غير المسبوق من الاختراق إلى ضعف في الأجهزة الأمنية الإيرانية وقدرتها على حماية قادتها وأصولها الاستراتيجية.
الملاحظة الأهم هي أن إسرائيل تمكنت من تنفيذ هجمات متتالية واغتيال قيادات كبرى في العمق الإيراني دون أن تتمكن إيران من إسقاط طائرة واحدة، في حين أن قادة إيران استمروا في التهديد. هذا المشهد العسكري سيقف عنده المحللون كثيرًا، فما بنته إيران في أربعين عامًا تلاشى معظمه في ساعات.
العجز الإيراني عن الردع الفعال اتضح بعد الهجومين الإسرائيليين السابقين على الأراضي الإيرانية خلال العام الماضي، حيث لم تُقدم طهران على رد حاسم، مما شجع إسرائيل على تصعيد هجماتها. كما أن ضعف الدفاعات الجوية الإيرانية، التي تعتمد بشكل كبير على أنظمة روسية محدودة الفعالية، يجعل العمق الإيراني مكشوفًا أمام الهجمات الصاروخية والجوية، مما يدعو إلى مراجعة شاملة للعقيدة الدفاعية الإيرانية.
لا يمكن لإسرائيل وحدها تنفيذ عمليات بهذا التعقيد والجرأة في العمق الإيراني. تتطلب مثل هذه العمليات تغطية فضائية، ومعلومات استخباراتية دقيقة، ودعمًا تقنيًا، وتأمينًا سياسيًا دوليًا. ما قامت به تل أبيب هو فقط الضغط على الزناد، بينما واشنطن هي من هيأت الظروف وضمنت الغطاء، وهو ما تبين بشكل جلي بعد تصريحات الرئيس ترامب حول التنسيق المشترك للقيام بهذا الهجوم.
الخلاف المزعوم بين إدارة ترامب ونتنياهو تبين أنه تكتيك لتضليل القيادة الإيرانية وإخفاء وحدة الجبهة بينهما. ويبدو أن إيران لم تأخذ التهديدات الإسرائيلية على محمل الجد الكافي، وانطلى عليها التضليل. المفاوضات بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية خلقت انطباعًا بأن إسرائيل “ستتصرف بشكل يعطي مجالًا للمفاوضات”، في حين أن ترامب زود إسرائيل بكم كبير من الصواريخ الاعتراضية، وكانت تصريحاته جزءًا من عملية تعمية. تكشف عمليات الاغتيال عن استعدادات متقدمة لضرب العمق الإيراني، مما يشير إلى أن إسرائيل والولايات المتحدة تُحضران لمرحلة جديدة من الصراع، قد تشمل ضربات واسعة النطاق تستهدف البنية التحتية الإيرانية.
خلال العقود الماضية ارتكبت إيران أخطاء كبيرة في تعاملها مع شعوب المنطقة، فتدخلاتها، خاصة في سوريا، من خلال دعم النظام السوري والميليشيات الطائفية المختلفة، أدت إلى تفاقم الصراع الطائفي وزيادة المعاناة. كذلك دعمها لأطراف معينة فاقم التوترات المجتمعية والطائفية، وعرقل عمليات الاستقرار السياسي في بعض الدول، مما دفع العديد من الدول العربية لاعتبارها تهديدًا. هذه التدخلات أدت إلى زعزعة الاستقرار الإقليمي وتأجيج الصراعات الطائفية، وانقسام واضح في الشارع العربي، مما يصب في مصلحة إسرائيل. ومع ذلك، يجب الإقرار بأن العديد من الأنظمة العربية تُسهم أيضًا في تعقيد المشهد الإقليمي من خلال ممارساتها القمعية والفساد.
بغض النظر عما سبق ذكره، تشكل إيران عنصرًا أساسيًا في توازن القوى الإقليمي في الشرق الأوسط، حيث تُواجه إسرائيل كقوة مضادة، خاصة في ظل غياب محور عربي موحد. فـدعم إيران لحزب الله وفصائل المقاومة الفلسطينية كان يُعد رادعًا لإسرائيل ويمنعها من فرض هيمنة كاملة على المنطقة. إن خروج إيران من معادلة توازن القوى سيُخل بهذا التوازن لصالح إسرائيل بشكل صارخ، مما قد يشجعها على تبني سياسات أكثر عدوانية.
كذلك يجب الأخذ في الاعتبار تركيا كطرف ثالث ومحور موازن، فانهيار إيران، كأحد اضلاع مثلث التوازن، سيؤدي إلى فراغ استراتيجي كبير في المنطقة. قد يعني ذلك أن المواجهة القادمة ستكون بين إسرائيل وتركيا لفرض الهيمنة الإسرائيلية الكاملة على المنطقة، خاصة في ظل عدم وجود وحدة عربية قادرة على الوقوف ضد هذا المخطط.
نفذت إيران ردها الذي وصفته بـ”عملية الوعد الصادق-3″ بعد الهجوم الإسرائيلي. تراوحت التقديرات حول حجم الهجوم ونتائجه، حيث تحدث الإعلام الإسرائيلي عن اعتراض معظم الصواريخ والمسيرات، بينما أكد الحرس الثوري الإيراني إطلاق مئات الصواريخ الباليستية واستهداف عشرات المواقع العسكرية. ورغم أن الخسائر البشرية المعلنة في إسرائيل كانت محدودة (3 قتلى و172 مصابًا)، فإن صحيفة هآرتس أفادت بانهيار 9 مبانٍ في تل أبيب، رغم ان الفيديوهات التي تداولتها وسائل الاعلام تشير الى حجم دمار اكبر بكثير، مما يؤكد أن العديد من الصواريخ اخترقت الدفاعات الاسرائيلية.
إيران أمام خيارات استراتيجية محددة:
- التصعيد الشامل والمواجهة المباشرة: إذا قررت توجيه ضربات قوية ومباشرة، ستواجه تدخلًا مباشرًا من القوات الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، التي لن تسمح بهزيمة إسرائيل. هذا السيناريو يحمل مخاطر جسيمة على وجود النظام الإيراني.
- الرد المحدود واستمرار الضغط الإسرائيلي: إذا اكتفت برد محدود وغير متناسب، فإنها تخاطر بتواصل الضربات الإسرائيلية حتى تحقيق أهدافها، خاصة تدمير البرنامجين النووي والصاروخي، مما قد يؤدي إلى هزيمة استراتيجية قاسية وتصدعات داخلية.
- التصعيد المحسوب وحرب الاستنزاف: يمكن لطهران أن تختار توجيه ضربات مؤلمة دون تجاوز الخطوط الحمراء (مثل عدم استهداف القواعد الأمريكية أو مضيق هرمز)، والدخول في حرب استنزاف. هذا قد يسمح لها بالحفاظ على ماء الوجه والعودة إلى طاولة المفاوضات من موقع أقوى نسبيًا.
- العودة للمفاوضات والتنازل عن البرنامج النووي: قد تقبل بالتخلي عن برنامجها النووي مقابل ضمان بقاء النظام، لكنها تخاطر بفقدان مصداقيتها وكرامتها ونفوذها الإقليمي، مما قد يؤدي إلى تداعيات داخلية يصعب احتواؤها.
تبقى الحقيقة أن صبر إيران الاستراتيجي لم يعد يُقرأ في تل أبيب وواشنطن كحكمة، بل كعجز. إنها لحظة الحقيقة: إما أن تستخدم طهران أنيابها حقًا، أو تُعلن للعالم أن النمر كان من ورق.
أي صراع بين إسرائيل وأي طرف آخر يصب في مصلحة القضية الفلسطينية؛ لأنه يُشتت تركيز إسرائيل ومواردها ويُضعف قدرتها على مواصلة احتلال الأراضي الفلسطينية والتوسع فيها، مما يخلق فرصة للشعب الفلسطيني لتعزيز مواقفه وكسب المزيد من الدعم الدولي. يجب على دول المنطقة أن تدرك أن وجود إسرائيل هو السبب الرئيسي للاضطرابات.
من ناحية أخرى يثير موقف بعض الأوساط العربية التي تشمت بضعف إيران استياءً، فحال العديد من الدول العربية ليس أفضل في ظل الفساد والقمع والتبعية. هذه الشماتة تُظهر غياب رؤية ناضجة موحدة وتخدم المصالح الإسرائيلية.
تبدو إسرائيل حاليًا في ذروة قوتها العسكرية والاستخباراتية، لكنها في الوقت ذاته تدخل مرحلة من الاستنزاف الطويل. المقاومة الفلسطينية المستمرة، والضغوط الدولية وتغير الرأي العام العالمي، بالإضافة إلى التحديات الداخلية تضعفها على المدى الطويل. ورغم نشوتها الأولية، يبدو أن نهاية المواجهة الحالية ليست وشيكة، والجيش الإسرائيلي يعاني من ثقل المهمات المتواصلة والأعباء الاقتصادية.
في ظل هذا الواقع المعقد، يجب أن تستند السياسات الإقليمية إلى حسابات استراتيجية دقيقة وتحديد العدو الحقيقي، بدلاً من الانجرار وراء العواطف. التعاون بين الدول العربية وإيران بحكم أنها دولة أصيلة في المنطقة، رغم الخلافات، قد يكون ضروريًا لمواجهة التهديد الإسرائيلي المشترك، بحكم أنه كيان احتلال وإرهاب مصطنع دخيل على المنطقة. أي عمل ضد الكيان الإسرائيلي مرحب به، مهما كانت نتائجه، لأن وجود إسرائيل هو السبب الرئيسي للاضطرابات في المنطقة.
يستخدم الطيران الإسرائيلي الأجواء السورية والعراقية للوصول إلى إيران والقيام بعمليات القصف، كما يقوم بخرق المجال الجوي الأردني. وقد تم إغلاق المجال الجوي في عدة دول بالشرق الأوسط، بما في ذلك إسرائيل، الأردن، إيران، العراق، وسوريا، نتيجة للتصعيد الأخير. المسارات الجوية التجارية تأثرت بشكل كبير، حيث تم تحويل الرحلات أو إلغاؤها. أما الصواريخ والطائرات المسيرة الإيرانية فقد سلكت مسارات أقصر ومباشرة، وتم رصد عبورها عبر الأجواء العراقية والسورية في طريقها نحو إسرائيل. اما فيما يخص التأثير على الاقتصاد العالمي، فقد تجنبت إسرائيل حتى الآن المرافق النفطية الإيرانية، لكن ارتفاع أسعار النفط بنسبة 10% حتى الآن يُشير إلى حساسية السوق. أي استهداف مستقبلي للبنية التحتية النفطية سيكون له تداعيات اقتصادية عالمية خطيرة، مما قد يدفع القوى الكبرى للتدخل. ومن الضروري التنويه ان الدول العربية أدانت الهجمات الإسرائيلية، بينما أبدت دول غربية مثل فرنسا والتشيك تفهمًا للهجوم الإسرائيلي، في حين أكدت الولايات المتحدة علمها المسبق بالعملية الإسرائيلية ورفضها استهداف المصالح الأمريكية. هذه المواقف المتضاربة تُظهر تعقيد المشهد الدولي.
إنها مواجهة كبيرة، ونتائجها متلاحقة، وأسرارها لا حصر لها، وبجعها الأسود يرقد على بيضه. يُظهر هذا التحليل مدى تعقيد المشهد الإقليمي الراهن، ويُشير إلى أن مستقبل المنطقة يعتمد بشكل كبير على قدرة الأطراف المعنية على صياغة استراتيجيات تتسم بالعقلانية والتبصر، بهدف ضمان تحقيق الاستقرار الإقليمي المنشود.
استقرار العالم العربي والشرق الأوسط يتطلب نهجًا شاملاً يُعالج جذور الصراع من خلال:
- حل القضية الفلسطينية: إيجاد حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية يضمن جميع حقوق الشعب الفلسطيني وإقامة دولته المستقلة، هو مفتاح الاستقرار الدائم في المنطقة، فهو أصل الصراع.
- الضغط على إسرائيل لوقف سياساتها العدوانية وتجاوزاتها المستمرة التي تهدد سيادة الدول الإقليمية وتزيد من حدة التوتر.
- تشجيع إيران على إعادة النظر في سياسات التدخل الإقليمي التي تثير قلق جيرانها وتهدد أمنهم واستقرارهم.
- حث الدول العربية على بناء جبهة موحدة قادرة على حماية مصالحها وضمان توازن القوى الإقليمي، بدلاً من الانقسام والتبعية الذي يخدم أجندات خارجية.
- تعزيز الحوار الدبلوماسي بين جميع الأطراف الإقليمية والدولية لإيجاد حلول مستدامة للنزاعات القائمة.
- تأكيد أهمية سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.
إن غياب هذه الرؤية الموحدة والتحركات الاستراتيجية المدروسة سيُبقي المنطقة عرضة لمزيد من التدهور والصراع، وستظل شعوبها تدفع الثمن الأكبر لهذه التوترات المتصاعدة. هذا المشهد المعقد يتطلب قيادة قوية وحكيمة من جميع الأطراف لتجنب الانزلاق نحو حرب إقليمية شاملة قد تكون مدمرة للجميع.