النكبة المستمرّة: نحو إطار قانونيّ لفلسطين
2/12/2023
المقال كان على وشك النشر عندما قرّرت المجلّة عدم نشره، وهو ما كشفه موقع «The Intercept». ولهذا قرّرت مجلّة «The Nation» نشره مع مقدّمة تشرح عمليّة الرقابة تلك. تُنْشَر هذه الترجمة بإذن من الكاتب مع المقدّمة. يمكنكم قراءة الأصل الإنجليزيّ هنا
ننشر ترجمة هذا المقال نقلا عن فُسْحَة- ثقافيّة فلسطينيّة
***
قبل أيّام، صوّت مجلس إدارة مجلّة «هارفارد لو ريفيو» (Harvard Law Review) على عدم نشر مقال «النكبة المستمرّة: نحو إطار قانونيّ لفلسطين»، كتبه ربيع إغباريّة، محامي حقوق الإنسان، والّذي يكمل دراسة الدكتوراه في كلّيّة الحقوق بـ «جامعة هارفارد». وصف أحد محرّري «هارفارد لو ريفيو» ما حدث، في رسالة بالبريد الإلكترونيّ إلى إغباريّة، بأنّه «قرار غير مسبوق» من قبل إدارة المجلّة.
إغباريّة قال لمجلّة The Nation» » إنّ المقال، الّذي كان مخصّصًا للنشر في مدوّنة «هارفارد لو ريفيو»، طلبه اثنان من محرّري الموقع الإلكترونيّ للمجلّة. وفي حال نشره، كان سيصبح أوّل مقال يكتبه باحث فلسطينيّ للمجلّة المتخصّصة في القانون. وبعد أن خضع المقال لعدّة جولات من التحرير والتعديلات، تدخّلت رئيسة التحرير قبل إعداده للنشر. في إيميل أرسله إلى إغباريّة، والّذي شاركه بدوره مع «The Nation»، كتب تاشا شهرياري بارسا، أحد محرّري النسخة الإلكترونيّة لمجلّة «هارفارد لو ريفيو»، أنّه “لم تتضمّن المناقشة أيّ جوانب موضوعيّة أو فنّيّة لمقالك، ولكن المناقشة دارت حول المخاوف بشأن المحرّرين الّذين قد يعارضون المقال أو يشعرون بالإهانة منه، بالإضافة إلى المخاوف من ردود الأفعال الّتي قد يثيرها أفراد من جمهور المجلّة، الّذين قد يحاولون مضايقة أو مهاجمة أو تخويف محرّري وموظّفي وقيادات المجلّة”.
“المناقشة دارت حول المخاوف بشأن المحرّرين الّذين قد يعارضون المقال أو يشعرون بالإهانة منه، بالإضافة إلى المخاوف من ردود الأفعال الّتي قد يثيرها أفراد من جمهور المجلّة…”.
وبعد عدّة أيّام من النقاش واجتماع دام ما يقرب من ستّ ساعات، اجتمعت هيئة التحرير الكاملة لمجلّة «هارفارد لو ريفيو» في 18 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري، من أجل التصويت على نشر المقال من عدمه، وصوّت 63% منهم ضدّ النشر. وفي إيميل إلى إغباريّة، كتبت رئيسة تحرير المجلّة، أبسارا آير، أنّه “في حين أنّ هذا القرار قد يعكس عدّة عوامل خاصّة بالمحرّرين الأفراد، إلّا أنّه لم يكن مبنيًّا على هويّتك أو وجهة نظرك”.
وفي بيان شورِك مع The Nation»»، أعربت مجموعة تشمل أكثر من 25 محرّرًا في المجلّة عن مخاوفهم بشأن القرار. “في الوقت الّذي كانت فيه المجلّة تواجه حملة تخويف ومضايقة عامّة، تدخّلت قيادة المجلّة لوقف النشر. لقد صوّتت هيئة التحرير – الّتي لا تشمل أيّ محرّر فلسطينيّ – لصالح تثبيت هذا القرار. نحن لا نعلم عن أيّ مقال آخر اسْتُكْتِب ومن ثمّ منعه بهذه الطريقة”، بحسب البيان.
وعندما طُلِب منها التعليق، أحالت قيادة مجلّة «هارفارد لو ريفيو» صحيفةThe Nation» » إلى رسالة منشورة على الموقع الإلكترونيّ للمجلّة، جاء فيها أنّه “مثل أيّ مجلّة أكاديميّة، تتبع مجلّة هارفارد لو ريفيو عمليّات تحريريّة صارمة تحكم كيفيّة تقييم المقالات، واتّخاذ قرار بشأن نشرها من عدمه، وتحديد موعد النشر…”. أضافت الرسالة أنّه “في الأسبوع الماضي، اجتمعت الهيئة بأكملها، وتداولت بشأن ما إذا كان سيُنْشَر مقال معيّن، طلبه اثنان من المحرّرين، على المدوّنة أم لا. صوّتت أغلبيّة كبيرة على عدم المضيّ قدمًا في النشر”.
هذا هو المقال الّذي رفضت مجلّة «هارفارد لو ريفيو» نشره:
الإبادة الجماعيّة جريمة، وهي إطار قانونيّ، وهي تتجلّى في غزّة. ولكن الجمود الّذي تعانيه الأوساط الأكاديميّة القانونيّة، وخاصّة في الولايات المتّحدة، يبدو مخيفًا. من الواضح أنّ تحليل الأبعاد القانونيّة أيسر جدًّا من تقصّي وقائع الموت. من الأسهل النظر إلى الإبادة الجماعيّة في صيغة الماضي بدلًا من مواجهتها في الوقت الحاضر. يتأهّب فقهاء القانون لشحذ أقلامهم بعد أن تبدّدت رائحة الموت، حين يتوقّف الوضوح الأخلاقيّ عن أن يكون أمرًا ملحًّا.
قد يزعم البعض أنّه من المجازفة استدعاء فكرة الإبادة الجماعيّة، وخاصّة في حالة غزّة. ولكن هل علينا أن ننتظر اكتمال الإبادة الجماعيّة بنجاح حتّى يتسنى لنا تسميتها ’إبادة جماعيّة‘؟ يساهم هذا المنطق في دعم سياسة الإنكار. وعندما يتعلّق الأمر بغزّة، هناك شعور بالنفاق الأخلاقيّ الّذي يؤسّس التوجّهات المعرفيّة الغربيّة، وهو توجّه يُخْرِس الألسنة عن تسمية العنف الّذي يتعرّض له الفلسطينيّون. لكنّ تسمية الظلم أمر بالغ الأهمّيّة للمطالبة بالعدالة. إذا أخذ المجتمع الدوليّ جرائمه على محمل الجدّ، فإنّ النقاش حول الإبادة الجماعيّة في غزّة ليس مجرّد مسألة دلاليّة فقط.
تعرّف «اتّفاقيّة الأمم المتّحدة لمكافحة الإبادة الجماعيّة» جريمة الإبادة الجماعيّة بأنّها أفعال معيّنة “تُرْتَكَب بقصد التدمير، كلّيًّا أو جزئيًّا، لجماعة قوميّة، أو إثنيّة، أو عرقيّة، أو دينيّة، لكونها كذلك”. وتشمل هذه الأفعال “قتل أعضاء جماعة محميّة”، أو “التسبّب في أذًى بدنيّ أو عقليّ خطير”، أو “إخضاع الجماعة عمدًا لظروف معيشيّة تهدف إلى تدميرها المادّيّ كلّيًّا أو جزئيًّا”.
تعرّف «اتّفاقيّة الأمم المتّحدة لمكافحة الإبادة الجماعيّة» جريمة الإبادة الجماعيّة بأنّها أفعال معيّنة “تُرْتَكَب بقصد التدمير، كلّيًّا أو جزئيًّا، لجماعة قوميّة، أو إثنيّة، أو عرقيّة، أو دينيّة، لكونها كذلك“.
تؤكّد العديد من التصريحات الّتي أدلى بها كبار السياسيّين الإسرائيليّين نواياهم. هناك إجماع ناشئ بين كبار الباحثين في مجال دراسات الإبادة الجماعيّة على أنّه “يمكن اعتبار هذه التصريحات إشارة إلى نيّة مبيّتة للإبادة الجماعيّة”، كما كتب عمر بارتوف، أحد خبراء هذا المجال. الأهمّ من ذلك، الإبادة الجماعيّة واقع مادّيّ يعيشه الفلسطينيّون في غزّة: سكّانها الّذين يبلغ عددهم 2.3 مليون نسمة محاصرون، نازحون، يتضوّرون جوعًا، محرومون من المياه، يواجهون قصفًا هائلًا، يتعرّضون لمذبحة في واحدة من أكثر المناطق اكتظاظًا بالسكّان في العالم. قُتِل بالفعل أكثر من 11000 شخصًا. وهذا يعني شخص واحد من بين كلّ 200 شخص في غزّة. وأُصيب عشرات الآلاف، ودُمِّر أكثر من 45% من المنازل في غزّة. الأمين العامّ للأمم المتّحدة قال إنّ غزّة أصبحت “مقبرة للأطفال“. لكن وقف المذبحة – وقف إطلاق النار – يظلّ بعيد المنال. تواصل إسرائيل انتهاك القانون الدوليّ بشكل صارخ: إسقاط الفسفور الأبيض من السماء، توزيع الموت في كلّ الاتّجاهات، وإراقة الدماء، وقصف الأحياء، والمدارس، والمستشفيات، والجامعات، وقصف الكنائس والمساجد، وإبادة العائلات، والتطهير العرقيّ لمنطقة بأكملها، على نحو مُمَنْهَج أو قاسٍ. ماذا تسمّي هذا؟
أصدر «مركز الحقوق الدستوريّة» تحليلًا وقائعيًّا وقانونيًّا شاملًا مكوّنًا من 44 صفحة، مؤكّدًا أنّ “هناك وجاهة ملموسة وذات مصداقيّة مفادها أنّ إسرائيل ترتكب إبادة جماعيّة ضدّ السكّان الفلسطينيّين في غزّة”. يصف مؤرّخ دراسات الهولوكوست (المحرقة) والإبادة الجماعيّة، راز سيجال، الوضع في غزّة بأنّه “حالة نموذجيّة من الإبادة الجماعيّة الّتي تتجلّى أمام أعيننا”. ويشير المدّعي العامّ الأوّل «للمحكمة الجنائيّة الدوليّة»، لويس مورينو أوكامبو، إلى أنّه “يمكن اعتبار مجرّد الحصار المفروض على غزّة – فقط – إبادة جماعيّة بموجب المادّة 2 (ج) من اتّفاقيّة الإبادة الجماعيّة، لأنّه يخلق الظروف المؤدّية لتدمير مجموعة ما”. وحذّرت مجموعة تضمّ أكثر من 800 أكاديميّ ومتخصّص، من بينهم باحثون بارزون في مجالات القانون الدوليّ ودراسات الإبادة الجماعيّة، من “خطر جدّيّ لارتكاب إبادة جماعيّة في قطاع غزّة”. كما حذّرت مجموعة مكوّنة من سبعة مقرّرين خاصّين «للأمم المتّحدة» من “خطر الإبادة الجماعيّة ضدّ الشعب الفلسطينيّ”، وشدّدوا على أنّهم “ما زالوا مقتنعين بأنّ الشعب الفلسطينيّ معرّض لخطر الإبادة الجماعيّة بشكل كبير”. ويصف 36 خبيرًا من خبراء «الأمم المتّحدة» الوضع في غزّة بأنّه “إبادة جماعيّة في طور التكوين”. كم عدد الهيئات الأخرى الّتي يجب أن أستشهد بتصريحاتها؟ وكم عدد ’الروابط‘ الكافية؟
ومع ذلك، فإنّ كلّيّات الحقوق وعلماء القانون البارزين في الولايات المتّحدة ما زالوا يعتبرون صمتهم بمثابة حياد، وإنكارهم باعتباره مسألة دقيقة. فهل تُعْتَبَر الإبادة الجماعيّة حقًّا جريمة الجرائم إذا ارتكبها الحلفاء الغربيّون ضدّ شعوب غير غربيّة؟
هذا هو السؤال الأهمّ الّذي لا تزال فلسطين تطرحه على النظام القانونيّ الدوليّ. تقدّم فلسطين للتحليل القانونيّ قوّة كاشفة: تزيل القناع وتذكّرنا بالحالة الاستعماريّة المستمرّة الّتي عليها مبنيّة المؤسّسات القانونيّة الغربيّة. في فلسطين فئتان: مدنيّون يمكن الرثاء لهم ، وحيوانات بشريّة متوحّشة. تساعدنا فلسطين على إعادة اكتشاف حقيقة أنّ هذه الفئات معنصرة تتماهى مع الخطوط الاستعماريّة في القرن الحادي والعشرين: الأولى مخصّصة لوصف الإسرائيليّين، والثانية لوصف الفلسطينيّين. وكما أكّد الرئيس الإسرائيليّ، يتسحاق هرتسوغ، الّذي يُفْتَرَض أنّه ليبراليّ: “تقع المسؤوليّة على عاتق أمّة بأكملها. هذا الخطاب البلاغيّ حول عدم علم المدنيّين، أو عدم تورّطهم، هو غير صحيح على الإطلاق”.
لا يمكن للفلسطينيّين ببساطة أن يكونوا أبرياء. إنّهم مذنبون بالفطرة. إنّهم ’إرهابيّون‘ محتملون يجب ’تحييدهم‘، أو في أفضل الأحوال، ’دروع بشريّة‘ تُباد باعتبارها ’أضرارًا جانبيّة‘. لا يوجد عدد كافٍ من الأجساد الفلسطينيّة يمكنها دفع الحكومات والمؤسّسات الغربيّة إلى “إدانة إسرائيل بشكل واضح لا لبس فيه”، ناهيك عن التصرّف أثناء وقوع المأساة. لا يملك الفلسطينيّون أيّ فرصة لأنسنتهم عند مقارنتهم بالحالات الإنسانيّة لليهود- الإسرائيليّين، ضحايا إيديولوجيّات الإبادة الجماعيّة الأوروبّيّة. الفلسطينيّون هم ’المتوحّشون‘ المعاصرون في نظر النظام القانونيّ الدوليّ، وأصبحت فلسطين الجبهة الّتي يعيد عندها الغرب رسم خطابه عن التحضّر، ويطلق هيمنته بأكثر الطرق مادّيّة. فلسطين هي المكان الّذي يمكن أن تحصل فيه الإبادة الجماعيّة باعتبارها معركة ’العالم المتحضّر‘ ضدّ ‘أعداء الحضارة نفسها‘. حقًّا، صراع ’أبناء النور‘ ضدّ ’أبناء الظلام‘.
***
إنّ حرب الإبادة الجماعيّة الّتي شُنّت ضدّ شعب غزّة منذ هجمات 7 تشرين الأوّل (أكتوبر) المؤلمة الّتي شنّتها «حَماس» ضدّ الإسرائيليّين – وهي هجمات ترقى إلى مستوى جرائم الحرب – كانت التجلّي الأكثر دمويّة للسياسات الاستعماريّة الإسرائيليّة ضدّ الفلسطينيّين منذ عقود. لقد قام بعض الباحثين، منذ فترة طويلة، بتحليل السياسات الإسرائيليّة في فلسطين من خلال عدسة الإبادة الجماعيّة. وفي حين أنّ مصطلح الإبادة الجماعيّة قد يكون له حدوده الخاصّة عند وصف الماضي الفلسطينيّ، يبقى من الواضح أنّ الحاضر الفلسطينيّ سبقه ’إبادة سياسيّة‘: إبادة الجسد السياسيّ الفلسطينيّ في فلسطين، أي الاستئصال المُمَنْهَج لقدرة الفلسطينيّين مجموعةً على الحفاظ على مجتمع سياسيّ منظّم.
وفي حين أنّ مصطلح الإبادة الجماعيّة قد يكون له حدوده الخاصّة عند وصف الماضي الفلسطينيّ، يبقى من الواضح أنّ الحاضر الفلسطينيّ سبقه ’إبادة سياسيّة‘: إبادة الجسد السياسيّ الفلسطينيّ في فلسطين…
امتدّت عمليّة المحو هذه على مدى 100 عام من خلال مزيج من المذابح، والتطهير العرقيّ، ونزع الملكيّة، وتجزئة الفلسطينيّين المتبقّين إلى مستويات قانونيّة متمايزة، ذات مصالح مادّيّة متباينة. وعلى الرغم من النجاح الجزئيّ الّذي حقّقته هذه الإبادة السياسيّة – والمنع المستمرّ لوجود هيئة سياسيّة تمثّل جميع الفلسطينيّين – فقد بقيت الهويّة السياسيّة الفلسطينيّة، في مختلف أنحاء قطاع غزّة المحاصر، والضفّة الغربيّة المحتلّة، والقدس، وأراضي 1948، ومخيّمات اللاجئين، ومجتمعات الشتات، تعيش القوميّة الفلسطينيّة.
ماذا نسمّي هذه الحالة؟ أيّ اسم نطلقه على هذا الوجود الجماعيّ في ظلّ نظام التشرذم القسريّ والهيمنة الفجّة؟ تبنّى مجتمع حقوق الإنسان – إلى حدّ كبير – مزيجًا من مفاهيم الاحتلال والفصل العنصريّ (الأبارتهايد) لفهم الحالة في فلسطين. الفصل العنصريّ جريمة لها أركانها القانونيّة. إنّه جريمة تُرْتَكَب في فلسطين. ورغم وجود إجماع داخل مجتمع حقوق الإنسان على أنّ إسرائيل تمارس الفصل العنصريّ، إلّا أنّ رفض الحكومات الغربيّة تفهّم الواقع المادّيّ للفلسطينيّين يُعَدّ أمرًا كاشفًا.
مرّة أخرى، تمنح فلسطين هذا الخطاب قوّة كاشفة خاصّة، وتكشف أنّ مؤسّسات ذات مصداقيّة في حالات أخرى، مثل «منظّمة العفو الدوليّة» أو «هيومن رايتس ووتش»، توقّفت عن أن تصبح موضع ثقة. توضح فلسطين كيف تصبح الحقائق قابلة للجدل بطريقة ترامبيّة [نسبة إلى الرئيس الأمريكيّ السابق دونالد ترامب] من قبل الليبراليّين مثل الرئيس الأمريكيّ جو بايدن. وتمنحنا فلسطين القدرة على رؤية الخطّ الّذي يقسم الثنائيّات (على سبيل المثال، موثوق/ غير موثوق) بقدر ما تؤكّد انهيار الثنائيّات (على سبيل المثال، ديمقراطيّ/ جمهوريّ، أو حقيقة/ ادّعاء). وفي هذا الفضاء الحدّيّ توجد فلسطين، وتستمرّ في تحدّي التمييز نفسه. فلسطين هي الاستثناء الّذي يكشف القاعدة، والهامش الّذي يصبح المتن في الواقع: فلسطين المظهر الأكثر وضوحًا للحالة الاستعماريّة في القرن الحادي والعشرين.
***
ماذا نسمّي هذا الوضع الاستعماريّ المستمرّ؟ كما أدخل الهولوكوست مصطلح ’الإبادة الجماعيّة‘ إلى الوعي العالميّ والقانونيّ، فإنّ تجربة جنوب إفريقيا أدخلت مصطلح ’الفصل العنصريّ‘ إلى المعاجم العالميّة والقانونيّة. وبفضل العمل وتضحيات عدد فائق من الأشخاص، أصبحت الإبادة الجماعيّة والفصل العنصريّ فكرة عالميّة تتجاوز تلك الكوارث التاريخيّة. أصبحت هذه المصطلحات أطرًا قانونيّة، وجرائم منصوصًا عليها في القانون الدوليّ، على أمل أن يؤدّي الاعتراف بها إلى منع تكرارها. ولكن في خضمّ عمليّة تجريد الوقائع، والعولمة، وإعادة التطبيق، ضاع شيء ما. هل التقارب بين التجربة الخاصّة والتجريد العالميّ للجريمة هو الّذي يجعل فلسطين عصيّة على التعريفات القائمة؟
توجّه الباحثون بشكل متزايد إلى الاستعمار الاستيطانيّ باعتباره العدسة الّتي نقيّم من خلالها فلسطين. الاستعمار الاستيطانيّ بنية محو يزيح فيها المستوطن المواطن الأصليّ ويستبدله. من الواضح أنّ الاستعمار الاستيطانيّ، والإبادة الجماعيّة، والفصل العنصريّ، مصطلحات متمايزة لكن غير متناقضة، إلّا أنّ قدرتها على التقاط الواقع المادّيّ للفلسطينييّن تظلّ محدودة. جنوب إفريقيا حالة خاصّة من الاستعمار الاستيطانيّ، كذلك إسرائيل والولايات المتّحدة وأستراليا وكندا والجزائر وغيرها. إطار الاستعمار الاستيطانيّ مفيد وغير كافٍ في ذات الوقت. إنّه لا يوفّر طرقًا ناجعة لفهم الفروق الدقيقة بين هذه العمليّات التاريخيّة المختلفة ولا يتطلّب نتيجة معيّنة. لقد طُبِّع بعض حالات الاستعمار الاستيطانيّ بشكل شبه مطلق على حساب عمليّات إبادة جماعيّة كاملة. حالات أخرى أدّت إلى حلول نهائيّة مختلفة جذريًّا. إنّ فلسطين تلبّي الشرط الاستعماريّ الاستيطانيّ، وتتحدّاه في نفس الوقت.
***
علينا أن ننظر إلى فلسطين من خلال الوقائع الفلسطينيّة المتكرّرة. إذا كانت المحرقة الحالة النموذجيّة لجريمة الإبادة الجماعيّة، وجنوب إفريقيا الحالة النموذجيّة لجريمة الفصل العنصريّ، فإنّ الجريمة المرتكبة ضدّ الشعب الفلسطينيّ يجب أن تُسمّى ’النكبة‘.
غالبًا ما يُسْتَخْدَم مصطلح ’النكبة‘، للإشارة إلى إنشاء ’دولة إسرائيل‘ في فلسطين، وهي العمليّة الّتي أدّت إلى التطهير العرقيّ لأكثر من 750 ألف فلسطينيّ طُرِدوا من منازلهم، وتدمير 531 قرية فلسطينيّة بين عامي 1947-1949. ولكن النكبة لم تتوقّف أبدًا؛ إنّها بنية وليست حدثًا. باختصار، النكبة عمليّة مستمرّة.
من الواضح أنّ الاستعمار الاستيطانيّ، والإبادة الجماعيّة، والفصل العنصريّ، مصطلحات متمايزة لكن غير متناقضة، إلّا أنّ قدرتها على التقاط الواقع المادّيّ للفلسطينييّن تظلّ محدودة.
النكبة، في شكلها الأكثر تجريدًا، بنية تعمل على محو ديناميكيّة المجموعة: محاولة منع الفلسطينيّين من ممارسة إرادتهم السياسيّة كمجموعة. إنّها التواطؤ المستمرّ بين الدول والأنظمة لإقصاء الفلسطينيّين عن تجسيد الحقّ الفلسطينيّ في تقرير المصير. النكبة، في أكثر أشكالها المادّيّة، كلّ فلسطينيّ يُقْتَل أو يُجْرَح، وكلّ فلسطينيّ مسجون أو مقهور، وكلّ فلسطينيّ يُطْرَد أو يُنْفى.
النكبة واقع مادّيّ وإطار معرفيّ لفهم الجرائم المرتكبة بحقّ الشعب الفلسطينيّ. هذه الجرائم – الّتي تحصل في إطار النكبة – نتيجة للأيديولوجيّة السياسيّة للصهيونيّة، وهي الأيديولوجيّة الّتي نشأت في أوروبّا في أواخر القرن التاسع عشر، ردًّا على مفاهيم القوميّة والاستعمار ومعاداة الساميّة.
وكما يذكّرنا إدوارد سعيد، يجب تقييم الصهيونيّة من وجهة نظر ضحاياها، وليس المستفيدين منها. يمكن فهم الصهيونيّة على أنّها حركة وطنيّة من وجهة نظر بعض اليهود، وفي الوقت نفسه باعتبارها مشروعًا استعماريًّا من وجهة نظر الفلسطينيّين. لقد اتّخذ إنشاء إسرائيل في فلسطين شكل تعزيز الروح القوميّة اليهوديّة على حساب تدمير الروح القوميّة الفلسطينيّة. بالنسبة للنازحين، والمشرّدين، والمقصوفين، والمستلبين، فإنّ الصهيونيّة لم تكن أبدًا سرديّة تحرّر اليهوديّ، بل رواية قهر الفلسطينيّ.
ما يميّز النكبة أنّها امتدّت خلال مطلع القرن الحادي والعشرين وتطوّرت إلى نظام معقّد من الهيمنة، ما أدّى إلى تجزئة الفلسطينيّين وإعادة تنظيمهم في فئات قانونيّة مختلفة، مع تعرّض كل فئة لنوع متمايز من العنف. وهكذا أصبحت التجزئة التقنيّة القانونيّة الكامنة وراء النكبة المستمرّة. شملت النكبة كلًّا من عنف الفصل العنصريّ وعنف الإبادة الجماعيّة بطريقة تجعلها تستوفي هذه التعريفات القانونيّة في فترات زمنيّة مختلفة، بينما لا تزال تراوغ أطرها التاريخيّة الخاصّة.
إذا كان السياسيّون الإسرائيليّون يعترفون بالنكبة من أجل إدامتها، فقد حان الوقت لكي يواجه العالم التجربة الفلسطينيّة كذلك. يجب أن تصبح النكبة مفهومًا عالميًّا لكي تنتهي.
أطلق الفلسطينيّون اسم ’النكبة‘ ونظّروا لها حتّى في مواجهة الاضطهاد والمحو والإنكار. هذا العمل يجب أن يستمرّ في المجال القانونيّ. لقد ذكّرتنا غزّة بأنّ النكبة تحدث الآن. هناك تهديدات متكرّرة من قبل سياسيّين إسرائيليّين وشخصيّات عامّة أخرى بارتكاب جريمة النكبة مرّة أخرى. إذا كان السياسيّون الإسرائيليّون يعترفون بالنكبة من أجل إدامتها، فقد حان الوقت لكي يواجه العالم التجربة الفلسطينيّة كذلك. يجب أن تصبح النكبة مفهومًا عالميًّا لكي تنتهي.
يجب أن نرسم في المخيّلة أنّه – ذات يوم – ستكون هناك جريمة مُعْتَرَف بها تتمثّل في ارتكاب النكبة، واستنكار الصهيونيّة أيديولوجيّةً قائمة على التطهير العرقيّ. ولا يزال الطريق للوصول إلى ذلك اليوم طويلًا ومليئًا بالتحدّيات، ولكن ليس لدينا رفاهيّة التخلّي عن أيّ أداة قانونيّة متاحة لتسمية الجرائم المرتكبة ضدّ الشعب الفلسطينيّ في الوقت الحاضر ومحاولة وقفها. إنكار الإبادة الجماعيّة في غزّة متجذّر في إنكار النكبة، وكلاهما يجب أن ينتهي، وأن ينتهي الآن.
* نبذة عن كاتب المقال:
ربيع إغبارية: محامٍ يعكف على نيل الدكتوراه في كلّيّة الحقوق بـ «جامعة هارفارد». عمل محامي استئناف عامّ، وانضمّ إلى «مركز عدالة» في حيفا. يكتب في الشأن الفلسطينيّ والقانون الإسرائيليّ. عمل محرّرًا للمقالات في «مجلّة هارفارد لحقوق الإنسان»، عضو في فريق تحرير صفحة فلسطين على موقع «جدليّة».