بعد خمسة وسبعون عاماً من النكبة…
الكيان “الاسرائيلي” إلى أين…؟
أبو علي حسن
23/6/2023
إن هذا السؤال لا يراود الفلسطينيون أو العرب فحسب، إنما يطرحه الاسرائيليون على أنفسهم كل يوم، فإذا كان الفلسطينيون والعرب يطرحونه من موقع الاستعجال والإيمان بحتمية زوال الكيان، فإن طرحه لدى الاسرائيلي يمثل قلقاً وجودياً يرافق كل اسرائيلي، إن على مستوى المواطن العادي أو على مستوى النخب والقيادات، وهذه مفارقة بين الإيمان بالنصر الذي يبحث عنه الفلسطيني، ووسواس الرعب الذي لا يلقى جواباً لدى الاسرائيلي…
وهنا تتجلى عملية الصراع بيننا وبين الكيان في أيهما أكثر تمسكاً بوطنه وأحلامه، أهو ذلك المستوطن الذي يريد أن يبني وطناً…!! أم ذلك الأصيل المتجذر في أرضه والمتمسك بهويته الوطنية، ويريد استعادة وطنه…
وفي محاولة لأخذ الدروس من الاستعمار الفرنسي، يوم كان يعتبر أن الجزائر جزءاً من فرنسا، وهو الذي أقام المدن وبؤر الاستيطان، ترى لو طرح سؤال (الاستعمار الفرنسي إلى أين خلال سنواته المائة والثلاثون…؟)، ألم يكن هذا السؤال في حينه مستهجناً وغير واقعي في ذلك الزمن، هل كان البعض سيجيب أن الاستعمار الفرنسي إلى زوال…؟ وربما الأغلبية المبهورة والمأخوذة بمظاهر قوة الاستعمار لا تصل إلى هذه اليقينية…!!
وذات الشيء حين كان الاستعمار البريطاني في الهند الذي مكث فيها أكثر من ثلاثمائة سنه، هل كان سؤال الاستعمار البريطاني إلى أين…؟ سؤالاً سهل الجواب، وأن بريطانيا إلى زوال، وذات السؤال في جنوب إفريقيا، وروديسيا…وغيرها…
أما اليوم فهو سؤالنا الفلسطيني… (إسرائيل إلى أين…؟)
قد يكون طرح السؤال في اللحظة التي يكون فيها المستعمر في أوج قوته ضرباً من العبث أو أن يكون الجواب ليس يقينياً بالزوال، لأن مظاهر القوة الغاشمة آسرة عند ضعاف الإرادة والوعي، فالقوة لها وقعها وتأثيرها على الوعي والإرادة وتشاؤم العقل…
وهنا فإن المعركة الفاصلة بيننا وبين الكيان هي معركة الوعي وتجلياته العملية والنفسية، فاستحقاق الصراع يستدعي وعياً يتفوق فيه على وعي الخصم والعدو…
وهنا المقصود بالوعي، وعي الهوية بالدرجة الأولى، أي وعي الذات، ووعي الآخر/ العدو، والوعي المجرد لا يتنصر بدون حالة الجدل بينه وبين الفعل / المقاومة، فالوعي يعني علو شأن وأهمية الاستراتيجية، وحسن استخدام التكتيك، أو القدرة على أخذ الخيار المناسب في المقاومة، وأشكالها، والوعي يعني تنمية الإرادة، وبناء القوة، والقوة في ذاتها تتحول إلى وعي بل خالقه له…
قد يبدو أننا بعدنا عن سؤال الكيان الاسرائيلي إلى أين…؟
في الواقع إن الإجابة هي أيضاً حصيلة الوعي/ القوة، ومن موقع وعينا وإرادتنا بأن الكيان إلى زوال، أي ليس عبر الفتاوى والشعوذة، وضاربي الودع وتنبؤات المنجمين دينيين وسياسيين، إنما هي إجابة علمية باحثة في عمق وأحشاء الكيان سياسياً واقتصادياً ونفسياً، مما يستدعي البحث والقراءة في سيرورة نشأة الكيان وتطوره، في قوته العسكرية وعقائده الأمنية والسياسية، وصولاً إلى هبوط وتقادم القوة لديه، وصعود مثيلاتها إلى مرتبة أعلى لدى الطرف الآخر، حيث فقد الكيان الكثير من عناصر قوته الفعلية رقم مظاهر القوة التي لا زالت تبهر البعض الساكن في وعيه…
لم يعد الكيان قادراً على التنظير لإسرائيل الكبرى، ولم يعد له اليد الطولا في الحرب الخاطفة، ولم يعد القادر بأن يخوض معاركه على أرض الآخر، ولم يعد قادراً على التوسع حتى في غزة…!! وليس آخراً فقد تآكلت قوة الردع عنده أمام منظمات وقوى ليست بدول…!! كما تآكلت الرواية الأيديولوجية…
إن برهان القوة، وإن كان بريقه ساطعاً إلى حد التعمية، لا يقرر المصير الأبدي لأي كيان بالوجود، ربما القوة تقرر مصير معركة أو حرب، لكنها لا تقرر مصير أي كيان في العالم إلى الأبد وإن طالت مدة بقائه، فالإمبراطوريات الغاشمة كانت من القوة ما يجعلها تحتل نصف العالم، ومع ذلك انهارت الإمبراطورية الرومانية والفارسية والعثمانية وغيرها … والمغول والغزو الصليبي، وذهبت القوة وإمبراطورياتها، وبقي الأصيل بما يمثل من هوية ومعتقد وتجذره في الأرض…
فهل اسرائيل” استثناء من هذه السيرورة التاريخية لتحولات القوة، حتى يعتقد البعض أنها لا تزول…؟؟
قد يقول البعض أن “النظام العالمي” و “الشرعية الدولية” لا تسمح بزوال الكيان…
إن النظام العالمي اليوم (الأمم المتحدة والولايات المتحدة والغرب) قد يستطيع أن يحميها من الهزيمة أمام الجيوش العربية، لكن هذا النظام لا يستطيع أن يحميها من التآكل الداخلي في بناءها السياسي ونسيجها المجتمعي، وهنا بيت القصيد في الجواب على سؤال (إن اسرائيل إلى زوال…!! كيف…؟)
البعد المعنوي…ووسواس الوجود في تفكيك الكيان
إن طفرة الانتصارات التي حققها الكيان مع تأسيس كيانه، وصعود القوة لديه، وارتفاع أحلام القوة، وحماس المؤسسين، تلك الطفرة المعنوية العالية قد انتهى مفعولها لدى المواطن الاسرائيلي والنخب السياسية والفكرية في العقود الثلاثة الأخيرة، فالعصب المعنوي والحماس الأيديولوجي، الذي شده مؤسسي الكيان بدون حدود، قد تراخى اليوم إلى أبعد الحدود، حيث دخل المجتمع الصهيوني – الاسرائيلي مرحلة ما يسمى “ما بعد الأيديولوجيا الصهيونية”، بصرف النظر عن التمسك الإعلامي بها، تلك الأيديولوجيا التي غرسها المؤسسين الأوائل في الوعي الإسرائيلي، تحت شعارات (اسرائيل الكبرى، وحدود اسرائيل من الفرات إلى النيل، والشعب الاسرائيلي المعجزة الذي حول الصحارى إلى جنان، وأرض بلا شعب إلى شعب بلا أرض، وإسرائيل القوة التي لا تقهر، والأمة اليهودية منذ الأزل) وكثير الكثير من الشعارات والتضليل الإعلامي الذي ساهم في نشره الإعلام الغربي…
لقد بدأت الأحلام الوردية تتلاشى، وبدأت المراجعات البحثية في مدى صدق وموضوعية تلك الأيديولوجيا الصهيونية، وتلك السياسات المرافقة لها، وتوالت المواقف والأبحاث الاسرائيلية التي عملت على تفكيك الأيديولوجيا والفكر الصهيوني، ولعل ما طرحه (المؤرخين الجدد) من أجل إعادة فحص المصطلحات الأساسية للمجتمع الإسرائيلي، ومن ثم ظهور ما يسمى مفهوم ما بعد الصهيونية، ليس إلا بداية انكسار الوعي الاسرائيلي على مستوى النخب، ولم يكن هذا الانكسار تلقائياً، وإنما كان انعكاساً لمفاعيل الانتفاضة الأولى التي ملأت الدنيا حضوراً وضجيجاً، وأحدثت تحولاً معنوياً سلبياً لدى المواطن الاسرائيلي المستعمر، حيث تأكد للعالم كله وللإسرائيلي أولاً بوجود الشخصية الفلسطينية، هوية، وشعباً، كفاحاً، وحضوراً عالمياً ….
لقد سقطت فرية التاريخ التي صاغها الغرب الاستعماري والحركة الصهيونية، بأن فلسطين أرض بلا شعب…!! وكان طبيعياً أن يزداد الشك في صحة الرواية الاسرائيلية، وأسانيدها السياسية والتوراتية، فالمؤرخين الجدد، وما بعد الصهيونية كأفكار ومواقف، ليست إلا بداية انقطاع العلاقة مع أيديولوجيا السلف السياسي الصهيوني، وغياب النموذج المؤسس في الوعي السياسي للمواطن الاسرائيلي وتشكل “أزمة النموذج”، وبداية تبلور “القلق الوجودي” وصحوة ناقصة من أوهام الأيديولوجيا، والمؤسسين الأوائل…
وما بعد الانتفاضة الأولى، والثانية، وجولات الصراع المتعددة في قطاع غزة والضفة، وتعاظم دور محور المقاومة، وتآكل الردع الإسرائيلي، فقد دخل “القلق الوجودي” إلى كل بيت إسرائيلي، وارتفع منسوبه إلى مستوى الوسواس اليومي، الذي يلازم النخب والتجمعات الصهيونية، حيث برهن الشعب الفلسطيني على حضوره الموضوعي، وجدارة استحقاقه لحقه التاريخي والمسلوب، وعلى حيويته وعناده، ووعيه الذي لم تستطع نظرية موشيه يعلون التي تستهدف “كسر الوعي الفلسطيني” أن تنال منه، حيث ارتدت هذه النظرية على المواطن الاسرائيلي وتدخله في نفق المجهول…
لقد استبد الوسواس اليومي بالكيان، ونخبه السياسية والفكرية، إلى حد أن كل الخيارات السياسية والأمنية المطروحة أمامه، هي خيارات مرعبة، وكل خيار يرافقه الارتياب والشك، مما يزيد من “القلق الوجودي” فهناك ذعر من تقويض الهوية اليهودية الإسرائيلية، وهناك ارتياب من حرب أهلية داخلية، وتمرد يريعام على رحبعام مجدداً…!! وهناك ارتياب من “حل الدولتين” وذعر أكثر من حل الدولة الواحدة، ورعب من تصاعد حضور الهوية الوطنية الفلسطينية 48، وقلق من هجرة معاكسة، ورعب من تنامي قدرات إيران النووية، وقلق مصاحب لقدرات المقاومة الفلسطينية في غزة والضفة، وقدرات معسكر المقاومة، وخوف من انتفاضة ثالثة، وقلق من متغيرات وتحولات القوة في الإقليم لغير صالح الكيان، وقلق من تحولات في الموقف الأمريكي من الكيان، حتى القلق من تراجع التطبيع العربي، وانفراط المعاهدات والتسويات مع بعض الأنظمة العربية الرسمية…
كل هذا الكم الهائل من الارتياب من كل شيء، يتكثف في (سؤال وقلق الوجود) وهو قلق مستوطن لا علاج له، ما دام هناك مقاومة فلسطينية عربية، وحضور فلسطيني على الأرض…
إن مصادر القلق والمخاوف والاضطرابات النفسية، لا تعد ولا تحصى لدى التجمعات الصهيونية، وهنا نحن لا نتحدث عن قلق الحياة اليومية، المعيشة، العمل، الوظيفة، الفقر، المرض…إلخ…إنما نتحدث عن “قلق الوجود”، أي الشك في البقاء في هذه البقعة الجغرافية، قلق يستمد أسبابه من تجربة التاريخ اليهودي وانهيار دولتهم المزعومة ومن سيرورة المقاومة الراهنة لكيانهم…
- وهذا القلق يتحول إلى “أزمة معنوية” تطال المؤسسة العسكرية، التي قيل عنها أنها القوة التي لا تقهر، فقد أشارت المصادر الاسرائيلية إلى أن هناك انخفاض حوافز الخدمة في الوحدات القتالية، وانخفاض في الرغبة في التجنيد لوحدات المشاة، وصلت إلى نسبة (43%) من المستطلعين، والاستخلاص كان لدى بعض الجنرالات بأن “قتال النزهة انتهى للجندي الاسرائيلي” وفي استطلاع آخر للإسرائيليين قال (55%) أن “اسرائيل” باقية…!! أي أن (45%) يشككون في بقاءها، ومثل هذا الاستطلاع على بقاء الدول أو زوالها، لا يحدث إلا في الكيان، ولا يحدث في أي دولة من دول العالم المستقرة، وعلى المنحى الآخر أشار استطلاع آخر أن من كل عشرة اسرائيليين هناك اثنين مستعدين للهجرة أي (20%) من الاسرائيليين…وأن (50%) من الاسرائيليين يرغبون في جنسية أخرى…!!
- ومن مظاهر الاضطراب النفسي والمعنوي، يقول الكاتب الاسرائيلي (مايكل يربزون) في صحيفة هآرتس “آن لنا نحن اليهود، أن نعود إلى الشتات، إن بقاؤنا مرهون بتشتتنا جغرافياً، وعدم تجمعنا في منطقة جغرافية محددة…!! وأن التفرق أفضل لنا من الوحدة، وأن العيش كجماعات أنسب لنا من العيش في ظل دولة خاصة بنا…”. هذا القول يشي بانهيار كامل في بنية الوعي الزائفة التي أدخلها مؤسسي أيديولوجيا الصهيونية في العقل اليهودي…وفي افتتاحية أخرى في صحيفة هآرتس تقول “إن الفلسطينيين أفضل شعوب الأرض في الدفاع عن أوطانهم…إننا نتعرض لحرب لسنا من يديرها ولسنا من ينهيها…!!”.
- ولعل المفكر والروائي الشهير عاموس عوز، وهو صهيوني، قد عبر عن تلك “الأزمة المعنوية – النفسية – الأيديولوجية” حين قال أمام معهد أبحاث الأمن القومي الاسرائيلي معرباً عن “خوفه من الدولة الواحدة إذا ما حصلت، بأنها ستؤدي إلى دولة عربية تمتد من النهر إلى البحر، وهنا لن أحسد أبناءنا وأحفادنا عليها”، في إشارة إلى عتمة المستقبل للجيل اليهودي القادم، لذلك هو يؤيد حل الدولتين، ويعتبرها فرصة نادرة، ويستطرد “بأن قوة الولايات المتحدة في حمايتنا عامل غير ثابت وقابل للتغيير، ومن الممكن أن يتغير بأسرع مما نتوقع…!!”. ويصل هذا الصهيوني إلى فرضية “بأننا لسنا وحدنا في مدينة القدس، ولا خيار إلا بتقسيم هذا البيت الصغير إلى شقتين صغيرتين، وإقامة السياج بينهما لخلق جيرة جيدة…أي البحث عن حل الدولتين، في محاولة للهروب على الأمام كأفضل الشرور”…
التطرف والعنصرية عنوان تآكل وضعف وليس عنوان قوة…
من نافل القول إن الكيان الصهيوني منذ نشأته، لم يكن في بنيته السياسية أو الأيديولوجية أو التوراتية ديمقراطياً، بل كان منذ اليوم الأول لتأسيسه كياناً عنصرياً تطهيرياً لكل من هو غير يهودي “الغوييم”، وعليه فإن الحديث اليوم عن “تحوله” إلى نظام عنصري، وازدياد تطرفه نحو اليمين، قد يشي إلى أنه كان ديمقراطياً ومدنياً ويسارياً…!! بيد أن الحقيقة، هي أن هذا الكيان قد ازداد منسوب مظاهر عنصريته وتطرفه في مواجهة الشعب الفلسطيني، بعد أن تمظهر “قلق الوجود” في أوصال الكيان…
إن فرط القوة، وفرط العنصرية، ليسا عامل قوة، إنما هو عامل ضعف وتآكل وارتياب في بنية الكيان، وعملية دفاع في سياساته العدوانية، وبداية تفكك وزوال في سياق سيرورة تاريخية تحفز مظاهرها المقاومة المستمرة، فإذا كانت نشأة الكيان وانتصاراته الكثيرة في معاركه مع الأنظمة العربية قد أدخلت في وعيه “وردية الوجود” فإنه اليوم يتآكل في يقينياته، وعظم سؤال “عتمة الوجود” أكثر من أي وقت مضى … بل أكثر من ذلك، فقد بدأ بعض سياسييه ومفكريه وباحثيه في التاريخ التوراتي، وحقبة انهيار تلك الحقبة التي تتحدث عنها التوراة، استعادة تفكك “الدولة اليهودية الموحدة…!!” بعد شاؤول وداوود وسليمان، ومحوها على يد نبوخذ نصّر…