بوكروفسك-ميرنوهراد: معركة الوجود الأوكراني..

بوكروفسك-ميرنوهراد: معركة الوجود الأوكراني..

بوكروفسك-ميرنوهراد: معركة الوجود الأوكراني..

القيادة الأوكرانية تُرغم روسيا على خيار الاستنزاف الباهظ

وحدة الدراسات العسكرية – مركز فيجن للدراسات الاستراتيجية

6 نوفمبر 2025

يمثل تجمع بوكروفسك-ميرنوهراد حالياً نقطة الارتكاز الأشد خطورة على امتداد الجبهة الشرقية بأكملها، حيث تجاوزت المعركة كونها مجرد اشتباكات موضعية لتصبح مؤشراً استراتيجياً حاسماً لمصير كامل إقليم دونباس، وهي في جوهرها معركة وجودية ترفض فيها القيادة الأوكرانية الاستسلام أو الانصياع للسيناريوهات المتشائمة. إن القرار السياسي الحازم بالصمود والمواجهة الأخيرة، الذي عززته زيارة الرئيس الأخيرة إلى المنطقة، هو دليل على أن القيادة العليا تضع ثقلها الرمزي والعسكري مباشرة على خط النار، في محاولة استراتيجية لـكسر “كماشة التطويق” اللوجستية وتحويل المدينة إلى فخ استنزاف شامل للقوات المهاجمة.

القيادة على خط النار وتثبيت قرار الصمود الاستراتيجي وإدارة الأزمة

شهد محور بوكروفسك-دوبروبوليا، الذي يُعد الأشد سخونة ويشهد تركيزاً كبيراً للهجمات الروسية، زيارة مباشرة وعملياتية بامتياز من الرئيس فلاديمير زيلينسكي، وقد شارك في هذه الزيارة المهمة القائد العام للقوات المسلحة، الجنرال أولكسندر سيرسكي، مما أكد أن القيادة العليا بأكملها تضع ثقلها على هذا المحور المصيري. هذه الزيارة تجاوزت كونها مجرد لفتة رمزية لتؤكد على عمق انخراط القيادة العليا في إدارة المعركة عبر نقل غرفة العمليات بشكل مؤقت إلى منطقة الخطر الداهم، حيث زار الرئيس والقائد العام نقاط التحكم الخاصة بالقوات الأوكرانية والتقى مباشرة مع مقاتلي وحدات أساسية تحمل عبء الدفاع وتُشكل خط الصد الأول. وقد أكد الرئيس زيلينسكي خلال هذه الزيارة الحاسمة على أن توفير الطائرات المسيرة ومكوناتها هو الأولوية القصوى لتمويل الدولة، معتبراً إياها العنصر الحاسم الذي يساعد الألوية الأوكرانية على الصمود بقوة وتحطيم الخطط الروسية، وقد وجهت الزيارة رسالة واضحة مفادها أن القرار السياسي في كييف هو الصمود المطلق والمواجهة للحفاظ على بوكروفسك، كما دحضت قدرة الرئيس على الوصول الآمن إلى نقاط القيادة القريبة عملياً الدعاية الروسية التي تدعي “تطويق القوات الأوكرانية”، مؤكدة أن المسالك اللوجستية الشمالية ما زالت مؤمنة، وقد تم تكريم مجموعة من المقاتلين بأوسمة الدولة تقديراً لشجاعتهم وتفانيهم في الدفاع عن البلاد، مما يُعد جزءاً محورياً من استراتيجية القيادة لرفع الروح المعنوية.

إستراتيجية الردع الروسي الزائف

التطورات الميدانية: النجاحات الموثقة واستراتيجية الإرهاق الروسي الممنهج

شهدت بوكروفسك تحولاً مفصلياً وحاسماً في موازين القوى الداخلية، تمثل في تنفيذ عملية نوعية خاطفة قام بها مقاتلو اللواء 425 “سكالا”، حيث نجحوا باقتدار في استعادة السيطرة على مبنى مجلس المدينة في قلب بوكروفسك ورفع العلم الأوكراني فوقه، هذا الإنجاز ليس مجرد انتصار رمزي عابر، بل هو تكتيكي بامتياز، كونه يمثل دليلاً حسياً مُثبتاً بالفيديو والصور ينسف بشكل قاطع مزاعم الاحتلال الروسي بالسيطرة، وهو ما يؤكد أن القتال لا يزال يدور في حالة “فوضى شاملة” داخل المربعات السكنية. تتركز الأهداف الروسية الحالية ليس على الاقتحام الواسع المباشر، بل على استراتيجية الإرهاق الشامل عبر الضغط الممنهج لتهديد العمق اللوجستي، وتتواصل عمليات تصفية المتسللين الروس الذين يعتمدون بشكل رئيسي على تكتيك المجموعات الصغيرة، حيث يُترك هؤلاء المقاتلون دون “نظام إمداد ثابت وموثوق”، مما يحولهم إلى أهداف سهلة التصفية بعد نفاذ الذخيرة والماء، وهو ما يفسر حجم الخسائر البشرية الروسية المتراكمة. إن التطهير الناجح لهذه الجيوب يمثل جزءاً محورياً من إبطال استراتيجية “خنق” الجيب عبر الاختراق الداخلي. وفي إطار العمليات النوعية هذه، أعلنت قوة العمليات الخاصة “ألفا” عن تحقيق نتائج لافتة على هذا المحور، حيث تمكنت من تصفية أحد عشر جندياً روسياً، بالإضافة إلى تدمير معدات عسكرية ضخمة شملت عشرين دبابة واثنتين وستين مركبة مدرعة خلال الشهر الماضي وحده، مما يدل على استمرار عمليات التطهير الفعالة.

التفوق التكنولوجي الأوكراني وتحييد الحرب الإلكترونية: ميزة الألياف البصرية

على محور ميرنوهراد-رازيني، الذي يمثل خاصرة التجمع اللوجستية ويُعد نقطة حاسمة لإمدادات القوات الأوكرانية، حقق اللواء 79 الهجومي المنفصل نصراً نوعياً حاسماً وذكياً، تمثل في تدمير طابور مدرع ضخم للقوات الروسية كان يتقدم ببطء وثقة نحو المدينة، هذه العملية الناجحة وتدمير الطابور مُثبتة بالكامل بالفيديو، مما يؤكد الفعالية القتالية والدقة التي تمت بها العملية. هذا الانجاز النوعي لم يتحقق بفضل النيران التقليدية وحدها، بل كان نتاجاً مباشراً للاعتماد على طائرات مسيرة انتحارية متقدمة تعمل بنظام تحكم ثوري يعتمد على الألياف البصرية. يمنح هذا التكتيك الأوكراني تفوقاً حاسماً لا يُضاهى في البيئات القتالية ذات التشويش الإلكتروني العالي؛ حيث يجعل المسيرة “محصنة بالكامل ضد التشويش الإلكتروني”، مما يُحيّد بشكل قاطع فعالية وقدرات الحرب الإلكترونية الروسية. هذه التقنية الثورية تستبدل الاتصال المعتاد بالترددات الراديوية بـكابل ألياف ضوئية خفيف الوزن للغاية، مما يضمن تدفق فيديو عالي الدقة، واتصالاً آمناً لا يمكن قطعه أو اختراقه، ويحول الطائرة الصغيرة إلى ما يُشبه “سلاح دمار شامل” تكتيكي فعال. هذا النجاح التكنولوجي المبتكر يؤكد بوضوح على قدرة القوات الأوكرانية على حماية مداخل التجمع، ويُحول الطريق إلى مقبرة للمدرعات الثقيلة، كما أنه يبرز الفارق الاقتصادي الهائل بين تكلفة المسيرة البصرية وتأثيرها المدمر، وبين تكلفة الدبابات والمركبات الروسية التي تُدمر بفعالية غير متكافئة. توازياً مع ذلك، نجحت القوات الخاصة التابعة لوحدة “تيمور” في فتح ممر بري آمن إلى وحدات المخابرات العسكرية، مما عزز وضع الدفاع الأوكراني من خلال ضمان وصول إمدادات حاسمة إلى النخبة المقاتلة، وتُشكل هذه العمليات المشتركة دليلاً قاطعاً على أن القيادة الأوكرانية تستخدم أفضل عناصرها لتأمين العمق اللوجستي.

الدعم الأوروبي لأوكرانيا بعد لقاء الرئيسين زيلينسكي وترامب

الآراء المتعارضة: معضلة الموازنة بين خسارة الجندي وخسارة الأرض

في قراءة معمقة للموقف العسكري، تتأرجح الآراء والتحليلات الاستراتيجية حول الوضع الحرج في تجمع بوكروفسك-ميرنوهراد، فهناك انقسام واضح بين القائلين بضرورة الصمود الأقصى وتحويل المدينة إلى قلعة استنزاف، وبين من يحذرون من خطر التطويق اللوجستي الوشيك.

الرأي الأول: استراتيجية الاستنزاف الممنهج (التفوق التكتيكي): يستند هذا التوجه بقوة إلى مبدأ عقيدة “الاستنزاف المُتعمَّد”، ويهدف إلى إجبار القوات الروسية على تكبد خسائر فائقة وغير مستدامة تفوق قدرة التجنيد والإنتاج على التعويض، مما يُحوّل التقدم الميداني البطيء إلى خسارة استراتيجية طويلة الأمد. تدعم هذا التحليل الأرقام الميدانية القاسية، التي تشير إلى خسارة القوات الروسية لأكثر من مائتين وخمسين جندياً في غضون ثلاثة أيام فقط على هذا المحور، مما يؤكد أن تكلفة الهجوم أصبحت باهظة جداً ولا يمكن تعويضها بالسرعة الكافية. كذلك يُشير المحللون إلى أن بطء التقدم الروسي يعد دليلاً قوياً على هشاشة قوة الجيش الروسي وضعف قدرته على اختراق الدفاعات الصلبة، وهذا يؤكد أن الإصرار على الدفاع يمنح أوكرانيا “تفوقاً تكتيكياً” رغم التفوق العددي الروسي الظاهري.

الرأي الثاني: خطر التطويق والرهان على النخبة (معضلة ميرنوهراد): يتبنى هذا الرأي الحذر موقفاً محذراً، مشيراً إلى أن عنق “جيب بوكروفسك-ميرنوهراد يضيق ببطء” بفعل الضغط الروسي، وأن الخطر الأكبر يتهدد مدينة ميرنوهراد التي تعتمد بشكل كامل على شريان إمداد واحد ووحيد. ويشدد هذا التحليل على أن خسارة السيطرة على الطريق الشمالي ستعني عملياً انقطاع الطريق الوحيد للانسحاب المنظم أو الإمداد الفعال، وهو سيناريو قد يحكم على حامية ميرنوهراد “بالقتال حتى الموت أو الاستسلام”. وفي إطار دلالات إدارة المخاطر، يثير هذا الرأي تساؤلات جدية حول الاستخدام العملياتي لقوات النخبة، وتحديداً قوات المخابرات العسكرية، في معارك الشوارع المباشرة، معتبراً أن إقحام هذه الوحدات عالية التخصص هو دليل واضح وقاطع على الضغط الهائل واستنزاف الألوية النظامية، مما يضطر القيادة إلى سد الفجوات التكتيكية بأغلى ما تملك. هذا الوضع يعكس مناورة استراتيجية خطيرة في الموازنة بين خسارة الجندي (عبر التطويق المحتمل) وخسارة الأرض (عبر التراجع الاستراتيجي).

بوكروفسك كمحدد للمرحلة القادمة

إن معركة بوكروفسك-ميرنوهراد هي اختبار حقيقي لقدرة القيادة الأوكرانية على الموازنة بين القرار السياسي الصعب بالصمود والواقع الميداني الحرج، مستفيدة من التفوق التكنولوجي التكتيكي، ومدركة تماماً لحجم الرهانات اللوجستية والمخاطر الوجودية في آن واحد. ي يشير الصمود الحالي إلى أن كييف فضلت تبني استراتيجية الاستنزاف شديد الكلفة على القوات الروسية، حيث يكمن الإسقاط المستقبلي لهذا الصمود في ربط قدرة أوكرانيا على منع الانهيار في هذه النقطة، بـ استمرار تدفق الدعم الغربي الحيوي، مما يجعل بوكروفسك حالياً ليست مجرد معركة حدودية، بل محدد رئيسي للمرحلة القادمة من الحرب في دونباس، ورهاناً على أن الجيش الروسي لن يستطيع تحمل تكلفة الاستمرار في هذا الضغط الباهظ.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *