جريمة النكبة
حاتم اسطنبولي – كاتب فلسطيني
9/6/2024
تم نشر المقال في مجلة الهدف العدد 59 (1533) أيار 2024
النكبة مصطلح لوصف حالة قائمة منذ ٧٦ عاماً!
لكن هل هذا المصطلح يتلاءم مع الحالة؟
أظن أن الاقتلاع والتشريد والاضطهاد والإلغاء والإلحاق والقتل المستمر ومصادرة الممتلكات وإلغاء الهوية الوطنية والتمييز وطمس التاريخ الثقافي والذاكرة المعرفية لملايين البشر، جميعها اختصرت بمصطلح النكبة.
ان كل عنوان من هذه العناوين يصلح لأن يكون عنوانا بحد ذاته لِجريمة متعددة الأشكال والوسائل والأساليب القانونية والأخلاقية والسياسية والحقوقية والثقافية ارتكبت علنا، وبتواطؤ جمعي صهيوني قادته حكومات لندن وواشنطن وباريس مع أعوانهم.
لم يرى التاريخ الإنساني بأن اجتمعت كل هذه الجرائم والمصطلحات الجرمية في قضية ابادة جماعية واحدة الا في ثلاث حالات، الهنود الحمر في أمريكا، والسكان الأصليين في أستراليا، والشعب الفلسطيني.
٧٦ عاما مرت على جريمة النكبة، هذه الجريمة التي ارتكبت بحق شعب كامل من حيث الشكل والمضمون وهي جريمة موصوفة بكل عناصرها من حيث مرتكبيها وخلفياتها ودوافعها وأدواتها ووسائلها السياسية والاقتصادية والقانونية والثقافية وآثارها الاجتماعية الإنسانية التي طالت شعب كامل بكل فئاته العمرية الذي عانى ويعاني وسوف يعاني من تداعياتها حتى زوال أسبابها.
تعتبر هذه الجريمة المستمرة منذ ٧٦ عاما من أبشع الجرائم الارهابية التي مرت على التاريخ الإنساني المعاصر، استخدمت فيها الأفكار الدينية لإعطاء غطاء أخلاقي ديني من أجل ارتكابها، ولجعل معارضتها هي خطيئة ترتكب لكونها تتعارض مع الرغبة الإلهية، واعطاء قدسية لمرتكبيها وداعميها من أجل إخراجهم من عملية المحاسبة على أساس القوانين الانسانية.
وفي هذا الصدد يجب الاجابة لماذا هي جريمة تحمل أبعاداً تاريخية وسياسية واقتصادية وقانونية وثقافية واجتماعية إنسانية.
مبررات تاريخية للجريمة: جريمة ارتكبت بتبريرات دينية تاريخية باعتبار ان الله اعطى اليهود هذه الأرض في تناقض مع المقولات الدينية، بما فيها اليهودية، أن الأرض والكون هو من خلق الخالق وليس هنالك ملكية حصرية محددة لفئة بشرية.
الملكية الخاصة جاءت في فترة التطور الاجتماعي الاقتصادي للمجموعات البشرية في مرحلة تحول الملكية المشاعية إلى ملكية خاصة، وفي ظل انتقال المجتمعات من مرحلة الاقطاع الى المرحلة الرأسمالية التي حددت حدودها القومية بناء على متطلبات السوق الرأسمالية. ولهذا فإن جريمة النكبة كانت ضرورة رأسمالية صهيونية لتحقيق مصالحها في منطقة حيوية وضرورية لاستمرار التدفقات الرأسمالية من حيث الموارد الأساسية، ومن حيث تصريف منتجاتها السلعية والسيطرة على عقدة لقاء القارات.
جريمة سياسية: جريمة النكبة استخدم فيها التضليل السياسي من قبل مرتكبيها الذين تبنوا فكرة الوطن القومي اليهودي لتضليل الرأي العام العالمي، وفي ذات الوقت عملت بريطانيا صاحبة الفكرة الرأسمالية الصهيونية من أجل تحويل الوطن القومي إلى دولة يهودية ذات طابع ديني لتزرع تناقض بين المجتمعات، تستخدم فيه التناقض في الإرث الديني التاريخي لتفتيت مجتمعاتها، وتحويل الصراع من صراع مع الاستعمار إلى صراع بين الفئات الدينية في المنطقة، تغذّيه حسب متطلبات المصلحة الاستعمارية.
جريمة النكبة كانت ضرورة من أجل الغاء الهوية السياسية للشعب الفلسطيني التي أُلحِقَت بِكيانات اتفاقية سايكس بيكو، التي كانت ضرورة رأسمالية غربية لتحقيق وعد بلفور.
جريمة حقوقية قانونية: تم قوننة الجريمة، من ناحية القانون الدولي، باستصدار قرار التقسيم الخبيث الذي حَمَلَ إشارة دينية لإقامة دولة يهودية، في تناقض مع ميثاقه، في حين أعطى هوية قومية للدولة العربية، الذي شَكَّلَ مدخلاً لإلغاء الهوية الفلسطينية واضفى مدلولا أن الدولة العربية التي نتجت عن قرار التقسيم هي الأردن، الذي يشير إليها المفاوضون الاسرائيليون واليمين تحت عنوان الخيار الأردني.
هذا القرار الخبيث نُفِّذَ جزء منه بما يخص إقامة دولة إسرائيل على جزء من فلسطين، وإلحاق الجزء الآخر بكل من امارة شرق الاردن ومصر.
بذات الوقت تم استحداث هيئة أممية خاصة من أجل إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في خطوة تؤشر لعدم بذل جهد أممي لعودة اللاجئين وإنما اغاثتهم وتشغيلهم في أماكن إنتشارِهِم.
ما ترتب على الجريمة هو إلغاء الحق المدني السياسي من خلال إلغاء الهوية السياسية الفلسطينية وإلحاق القسم الأكبر من المقيمين والمهجرين في الضفة الغربية إلى إمارة شرق الأردن، التي اعترف بها في ديسمبر ١٩٥٥ من قبل الأمم المتحدة. وتمت محاصرة وإنهاء حكومة فلسطين ومقاومتها في غزة بضغوط عربية اعتبرت أن استمرار الحكومة الفلسطينية هو تقويض مشروع دولتها المستقبلية.
جريمة اقتصادية: ما قبل جريمة النكبة كان الانتداب البريطاني يعمل بشكل منهجي من أجل إفقار الفلسطينيين من خلال رفع الضرائب وتخفيض الرسوم الجمركية على السلع المنافسة للمنتجات الزراعية الفلسطينية ورفع ضريبة الأراضي والاستيلاء عليها والضغط على الفلاحين الفلسطينيين لدفعهم لبيع أراضيهم وعدم إعطاء حقوق قانونية للعمال الفلسطينيين، في حين كانت تقدم كافة التسهيلات للمهاجرين اليهود وتسهيل استيطانهم.
أما قُبَيل جريمة النكبة الكبرى فقد استولت الدولة المستحدثة على كافة أملاك الفلسطينيين العامة والخاصة، وطُرِدَ الفلسطينيين من مدنهم وقراهم واستولى الصهاينة المستوطنون على المدن الفلسطينية بكافة امكانياتها المادية والإدارية وبنيتها التحتية بمساعدة قوات الانتداب البريطاني، التي اعتبرت أن وعد بلفور تم إنجازه. بالمختصر تم ارتكاب أكبر وأوسع جريمة في العصر الحديث من خلال عملية سطو مسلح معلن من قبل المستوطنين الصهاينة ومنظماتهم الإرهابية (شتيرن وهاجاناه وأراغون) القادمين من الدول الأوروبية بدعم معلن من قوة الانتداب البريطانية على الجزء الأكبر من فلسطين بكل موارده وبنيته التحتية بعد ارتكابها مجموعة من الجرائم والمذابح بحق الفلسطينيين التي أدت إلى طردهم وتهجيرهم القسري.
جريمة ثقافية: الهوية الثقافية تتشكل في المكان عبر الزمان. وإلغاء هوية المكان ادى الى الحاق الهوية الثقافية الفلسطينية إلى هويات مغتربة عن المكان من حيث الشكل، لكنها في الجوهر دخلت في صراع حاد مع محاولات إنهائها، واستنبطت ثقافة المخيم الفلسطيني الذي شكل عاملا في كشف محاولات طمس الثقافة الفلسطينية التي كانت سائدة ما قبل جريمة النكبة والتي كانت تشكل عاملا محوريا للثقافة العربية من خلال كتّابها وصحفييها وصحفهم التي كانت تنتشر في المدن الفلسطينية.
الثقافة الفلسطينية بكل جوانبها وتراثها الفني والمجتمعي ساهمت في تطور الثقافة العربية عبر انتشارها نتيجة جريمة النكبة.
المحاولات الجمعية لطمس الثقافة الفلسطينية لم تنجح. فقد تمسك المثقفين الفلسطينيين بِتاريخهم الثقافي وإنتاجهم الأدبي والشعري والفني واحياء التراث الشعبي الفلسطيني بكل جوانبه كل هذا كان له اثرا كبيرا في مواجهة حملات الإلغاء والالحاق. لكنهم بذات الوقت نجحوا في وضع حواجز لتطورها وإبراز هويتها المدنية القانونية.
جريمة إنسانية اجتماعية:
أما عن الآثار الاجتماعية لجريمة النكبة فقد كانت عميقة أدت إلى تفتيت النسيج الاجتماعي وتناثره وتدمر مستقبل العائلات الفلسطينية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، مما أعاق عملية التطور الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي والقانوني ووضعهم على هامش المجتمعات المضيفة وجعلهم في تحدي يومي معها، مما أدى في كثير من الاحيان الى تصادم وتعارض، كان في النهاية الإنسان الفلسطيني يتحمل ويدفع اثمان جسيمة نتيجة هذا التعارض.
من كل ما ورد يؤكد أن النكبة هي جريمة ابادة مكتملة العناصر، وهي ما زالت مستمرة بشكل فج وواضح وبوعي منهجي في غزة والضفة، تُستخدم فيها كل الوسائل العسكرية وتُمارس سياسة منهجية معلنة من تجويع ومنع للماء والدواء وتستهدف على مدار أكثر من٢٢٠ يوم النساء والأطفال والقطاع الصحي والبنية التحتية والتعليمية والدينية والثقافية والقانونية، في صورة توضح ما ارتكب من إبادة جماعية شاملة متنقلة للشعب الفلسطيني على مدار ٧٦ عاما.
ما تقوم به دولة الاحتلال الصهيوني الإحلالي الإرهابي في غزة بكل مؤسساته ومستوطنيه من تدمير شامل بغطاء أمريكي فرنسي بريطاني الماني ايطالي كندي، وبترويج لمقولات لاهوتية تبرر دينيا هذه المجازر والإبادة، كل هذا يوضح أن جريمة النكبة هي جريمة عالمية الشكل صهيونية الجوهر، أخذت أشكال وتعابير وممارسات متعددة، تداخلت في تنفيذها عناصر وقوى وشخصيات وزارية حكومية ورسمية صهيونية موزعة ومركبة، محلية واقليمية ودولية عبر الزمان في المكان (فلسطين).