غزة عرت الرواية الإسرائيلية وأسقطت ورقة التوت الأخيرة لها أمام شعوب العالم
السردية والرواية الفلسطينية تنتصر بالكفاح الوطني!
وديع أبو هاني – اعلامي فلسطيني
تم نشر المقال في مجلة الهدف العدد 59 (1533) أيار 2024
7/6/2024
العودة والحنين الى الوطن ما انفك يساور تفكير ووجدان اللاجئين الفلسطينيين، عبروا عن ذلك من خلال تمسكهم بالأرض والاحتفاظ بمفاتيح العودة والكواشين. وعاش حلم العودة في وجدان الشعب الفلسطيني على مدار الصراع الدامي مع المشروع الصهيوني من خلال تمسكهم بالتراث والفلكلور وبالأغاني والأهازيج الوطنية ودبكتهم الشعبية، بحفاظهم على التقاليد والأمثال الشعبية ومنها المأكولات الشعبية الفلسطينية.
توارثت الأجيال الفلسطينية ذلك ولعبت الجبهة الثقافية دوراً في مواجهة تعسف وتكتيكات المستوى السياسي الرسمي.
كان للمثقفين الثوريين الذين كتبوا بالدم لفلسطين دور هام في مواجهة محاولات المساومة والتفريط بالحلم والحق الفلسطيني خلال العقود السابقة.
لقد اسهمت أوسلو باتفاقاتها السياسية والاقتصادية والأمنية دور في إضعاف الرواية والرؤية الوطنية من خلال تجزئة الحل والمغامرة والتفريط بالحقوق الوطنية، التي وصلت الى سراب وطريق مسدود.
فكانت الرواية والسردية الفلسطينية حاضرة وعصية على النسيان رغم محاولات تغييبها وإضعافها.
طوفان الأقصى واحرار العالم والاحتجاجات الطلابية جدَّدَ الأمل والتفاؤل بحتمية تاريخية لنضال وانتصار شعبنا، واعاد الاعتبار والمصداقية للرواية وللحق الفلسطيني في أذهان العالم.
أريد للنكبة الفلسطينية الكبرى عام 1948 أن تتأبد وان يطويها النسيان، بإحلال نموذج الهنود الحمر في امريكا الذين قاوموا لأربعة قرون وانتهت بإبادتهم. وكانت المعركة الفاصلة “مذبحة الركبه الجريحة” عام 1890، التي انتهت بمصير مواطنين الهنود الحمر الذين كانوا يعيشون في البراري جراء حرب المواجهة مع الاستعمار الأنجلوسكسوني الأبيض. حيث عمل الاحتلال الامريكي على تغيير التركيبة السكانية والهوية الثقافية لأمريكا الجنوبية.
فالشبه التاريخي قائم بين الاحتلالين الأنجلوسكسوني للبيض بحق الهنود الحمر، وبين ما جرى ويجري في فلسطين على يد جيش الاحتلال ومستوطنيه من ممارسات عنصرية. الاستعمارين اللذان مارسا التطهير العرقي بحق الهنود الحمر والفلسطينيين.
حيث سعى نظام الأبرتهايد العنصري الكولونيالي الاستيطاني الصهيوني في فلسطين على تجسيد مقولته: شعب بلا أرض، لأرض بلا شعب. مستفيدين من اختلال موازين القوة العالمي في حينه لصالح المجمع الاستيطاني الصهيوني المصطنع.
جراء ذلك اعتمدت الرواية الصهيونية المزورة في الأمم المتحدة بقرار أممي أدى للاعتراف “باسرائيل” وبقبولها في الأمم المتحدة شريطة تنفيذها للقرارين ١٨١ والقرار ١٩٤، واللذين لم ينفذا حتى الآن، رغم إجحافهما بالحقوق الوطنية الفلسطينية.
لقد أنتجت النكبة عام ١٩٤٨ التغريبة الفلسطينية الممتدة منذ ٧٦ عاماً. وعملت الدول الاستعمارية على دعم وتسويق الرواية الصهيونية في المحافل الدولية. وتم دعم إسرائيل كوطن لليهود في فلسطين باعتبارهم ضحايا “الهولوكوست”، الذي جرى لهم في أوروبا على أيدي تلك الشعوب الأوروبية، على حساب سكان الأرض الأصليين.
تم توفير كافة مقومات الدعم والحياة للكيان المصطنع كقاعدة متقدمة للمشروع الامبريالي في منطقتنا.
أصدر الحاكم العسكري والحكومة الصهيونية عشرات القرارات العنصرية ومنها مصادرة أملاك الغائبين،
إضافة للسياسات العنصرية بحق الأرض والسكان ومحاولات محو الذاكرة وتغييب المعالم التاريخية. حيث عمد الاحتلال على تغيير اسماء المدن والقرى والشوارع والسيطرة على كل شيء في فلسطين.
ووصل تزوير التاريخ الى حد سرقة الثروات والتراث والفلكلور الفلسطيني.
كما جرى تدمير أكثر من 530 قرية فلسطينية اثناء النكبة، وارتكبت عشرات المجازر الدموية على يد عصابات هاغانا وشتيرن الصهيونيتين. كذلك تم تهجير حوالي 800 ألف فلسطيني بالقوة الى دول الطوق، في محاولة من الكيان الغاصب الاستيطاني لتفريغ الأرض من السكان. وعمل على عبرنة وأسرلة وتهويد كل شيء في فلسطين.
رغم كل ذلك عبر الشعب الفلسطيني عن تمسكه بأرضه وحقه بالعودة، ودافع عن روايته الوطنية بالدم والعرق، وحافظ على سرديته الوطنية التي لم يطويها النسيان نتيجة للمقاومة الشاملة التي خاضها الشعب الفلسطيني.
لقد عبر الشعب الفلسطيني وأبناء المخيمات واللاجئين عن دفاعهم عن الحق الفلسطيني من خلال المواجهات والانتفاضات المتعاقبة منذ عام ١٩١٩، ثم ثورة البراق وإضراب عام ١٩٣٦، وصولا الى انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة عام ١٩٦٥ وإمتشاق البندقية الفلسطينية في مواجهة الاحتلال الغاصب لفلسطين.
فكانت الانتفاضة الأولى والثانية، وما بينهما من محاولات للتصدي لمشاريع تصفيه الوجود الفلسطيني عام 1970 في الاردن، ثم في لبنان عام 1976، مرورا بالاحتلالين الاسرائيليين للبنان عام 1978 وعام 1982 كمحاولات محمومة لتصفية الوجود المادي والمعنوي ولمؤسسات الشعب الفلسطيني وثورته في دول الطوق.
ورغم ما خلقته اتفاقيات اوسلو وملاحقها الامنية والاقتصادية من تداعيات كارثية على الوحدة الوطنية والحقوق الوطنية، لم يستسلم الشعب الفلسطيني، واستمر بكفاحه وتضحياته داخل الوطن وخارجه، داخل المعتقلات وخارجها، وفي المخيمات الفلسطينية في دول اللجوء والشتات الفلسطيني.
قدم شعبنا الغالي والرخيص للدفاع عن حقوقه وحفظ وجوده وكيانه وهويته الوطنية. واجه مخطط تدمير المخيم الشاهد على النكبة، وانهاء دور وكاله الغوث للاجئين الفلسطينيين وما ترمز له من تعبير والتزام للمجتمع الدولي بقضية اللاجئين وتصدى شعبنا لمحاولات خلق البدائل، وكذلك لمحاولات شطب القرار 194 الخاص بحق العودة والتعويض. مشاريع جميعها كانت تهدف الى إضعاف العامل الذاتي الوطني الفلسطيني.
كذلك تصدى شعبنا في الأراضي المحتلة عام 1948 لمحاولات الفصل و الترانسفير ومصادرة الأراضي وهدم البيوت وإثارة الجريمة والفتن.
الدفاع عن الرواية الفلسطينية تعمد بالدم.
استمر الشعب الفلسطيني في الدفاع عن روايته وسرديته الوطنية في مواجهة الرواية الصهيونية المزورة والمصطنعة التي حاول الاحتلال فرضها بالقتل والتدمير.
لقد أسس الدكتور الراحل قسطنطين زريق لمصطلح علم وأدب النكبة. فكانت مأساة النكبة حاضرة في عقل ووجدان الشعب الفلسطيني كما كان حاضرا أدب الأرض المحتلة وأدب السجون.
لعل ما قدمه ايلان بابيه الأكاديمي اليهودي في كتابه (التطهير العرقي) إلا دليل ملموس على الممارسة الصهيونية الدموية التي حاول ترويجها بالدم والحديد والنار والتدمير.
لقد أفشل الشعب الفلسطيني على مدار الصراع محاولات تركيعه واستسلامه، وتحويله لهنود حمر والى كتل سكانية متناثرة ومفصولة، وشكلت ملحمة وطوفان الأقصى الضربة القاضية للسردية الصهيونية أمام العالم.
فكانت ملحمة وطوفان 7 اكتوبر عام ٢٠٢٣ لحظة الحقيقة الساطعة للرواية الوطنية وعدالة القضية الفلسطينية في مواجهة سردية وممارسات الإبادة لجيش الاحتلال.
ثماني أشهر على ملحمة الشعب الفلسطيني لعبت دورا هاما في إعادة الاعتبار للسردية والرواية الوطنية الفلسطينية، رغم تضليل الحكومات الغربية ودعمها لإسرائيل باعتبارهم شركاء بالعدوان على غزة، ووصلت الحقيقة الفلسطينية الى كل أرجاء العالم منذ 7 أكتوبر، وكانت الرد على محاولة التصفية والتهجير.
ساهم الصمود الفلسطيني بطوفان الاقصى وانتفاضة الجامعات الامريكية والأوروبية وطوفان أحرار العالم وحركات التضامن ورفع العلم الفلسطيني والشعارات والهتافات دوراً بارزاً في نصرة الحق الفلسطيني.
وهي تأكيد على سطوع فجر السردية الوطنية الفلسطينية مقابل خفوت وتراجع وافتضاح الرواية الصهيونية المزعومة.
بعد ٧٦ عاماً على النكبة، تكشفت الجريمة المستمرة بحق الشعب الفلسطيني وحقوقه بشكل أكثر أمام العالم.
واثبت خيار المقاومة جدواه وكذلك التمسك بالحق الوطني الفلسطيني.
وسيكون لطوفان الأقصى مفاعيل وأهمية مستقبلية.
سيسهم طوفان العالم المؤيد لغزة في المسمار الأخير في نعش الكيان الغاصب على طريق هزيمته.
يبقى تجسيد الرواية والحلم والحق الفلسطيني استحقاق كفاحي.
الكفاح الوطني في الميدان الطريق الوحيد لإعادة الاعتبار للسردية الوطنية الفلسطينية التي لم يطويها الزمن رغم عمر النكبة ومحاولات التآمر عليها.
سيبقى معول المقاومة كفيل بدفن الرواية الصهيونية، وهزيمة مشروع الإبادة والتطهير العرقي الصهيوني في فلسطين على طريق إحلال السلم والسلام العالميين، من أجل عالم متعدد الأقطاب أكثر عدالة وإنسانية.
غزه معيار لانتصار الانسانية في العالم.
سيكون نجاح طوفان أحرار شعوب العالم الأثر الأكبر والطريق الأقصر المجدي لعالم إنساني بلا حدود، بلا حروب.
الحتمية التاريخية تؤكد أن روايتنا الوطنية ستنتصر كما انتصرت رواية الشعب الفيتنامي والجزائري وشعب جنوب افريقيا، على طريق تحرير العالم من أنظمة العبودية والاستغلال والتطهير العرقي والإبادة الجماعية.