كوبيانسك: مأزق الإمداد واستراتيجية التدمير الممنهج..
الرهان الروسي على شلل البنية التحتية والانهيار اللوجستي

وحدة الدراسات العسكرية – مركز فيجن للدراسات الاستراتيجية
6\11\2025
يمثل محور كوبيانسك حالياً أحد أشد المحاور اشتعالاً وأكثرها أهمية استراتيجياً في إقليم خاركيف، وتُعَد المدينة، كعقدة لوجستية حاسمة في المنطقة الشمالية الشرقية، نقطة محورية لا يمكن تجاهلها في سياق الغزو الروسي لأوكرانيا. إن الضغط الروسي المتزايد على المدينة ليس مجرد محاولة لتحقيق مكاسب ميدانية فحسب، بل هو جزء من خطة استراتيجية أوسع تهدف إلى إنشاء “منطقة عازلة” في عمق الأراضي الأوكرانية لتهديد العمق الإداري، وفي الوقت ذاته، السيطرة على عقدة نقل وسكك حديدية محورية لتعزيز إمدادات القوات الروسية في الشرق. يشهد الوضع تصعيداً دراماتيكياً في أوائل نوفمبر 2025، حيث وصلت المعركة إلى “مرحلة حرجة للغاية” تهدد بانهيار الدفاع الأوكراني، في ظل معارك عنيفة ومحاولات روسية مكثفة للحصار الكامل، مقابل دفاع أوكراني يعتمد على “التطهير” والهجمات المضادة، وهذه التطورات تضع القيادة السياسية والعسكرية الأوكرانية أمام خيارات مصيرية.
الإطار الاستراتيجي والوضع الميداني: حرب السكك الحديدية وحرب الادعاءات
تكمن الأهمية القصوى لمدينة كوبيانسك في موقعها كمركز اتصالات ونقل رئيسي وكونها عقدة سكك حديدية محورية تربط الشرق بالشمال الشرقي الأوكراني، وتمثل نقطة لوجستية لا غنى عنها لتدفق التعزيزات والمؤن العسكرية الحيوية. لذلك، فإن احتلالها مرة أخرى يخدم أهدافاً روسية متعددة الأوجه وبعيدة المدى؛ أولاً، تحقيق نصر رمزي كبير لرفع معنويات القوات الروسية وتعزيز الرواية الداخلية بعد إخفاقات استراتيجية سابقة، وثانياً، توفير نقطة إمداد ودعم لوجستي ثابت وفعال للقوات الروسية التي تعمل في عمق شرق أوكرانيا، مما يخفف الضغط اللوجستي الهائل على مسارات الإمداد البعيدة والهشة. كما أن الهدف الاستراتيجي الأعمق للعملية هو تهديد “العمق الإداري” الأوكراني في خاركيف بشكل مستمر، مما يجبر كييف على نشر المزيد من قواتها للدفاع عن هذه الجبهة الحيوية بدلاً من استخدامها للقوات الهجومية في محاور أخرى، والتحضير لتحويل المنطقة إلى “جبهة قتال ثانوية” خاضعة للسيطرة الروسية الدائمة. وقد أكدت القوات الروسية مؤخراً، في ادعاءات لم تُؤكَّد بعد من مصادر غير روسية موثوقة، أنها أحكمت السيطرة النارية الفعالة على محطتي سكة حديد مهمتين، وهما كوبيانسك-يوجني (الجنوبية) وزاوسكوليه، مما يضع أهم العقد اللوجستية الأوكرانية تحت تهديد مباشر وحاسم ويشل خطوط الإمداد الحيوية التي تعتمد على هذه المسارات في نقل الذخيرة والتعزيزات إلى الجبهة.
تشهد المدينة حالياً محاولات روسية متسارعة للتقدم داخل المربعات السكنية وحصارها بالكامل، مقابل دفاع أوكراني عنيف ومكلف، حيث يتركز القتال بشراسة على الضفة الغربية لنهر أوسكول الاستراتيجي الذي يمثل خط دفاع طبيعياً بالغ الأهمية، حيث تحتفظ القوات الأوكرانية بسيطرة جزئية على هذه الضفة بينما تسيطر القوات الروسية كلياً على الضفة الشرقية. وقد أصبحت الأجواء مشحونة بتناقض الادعاءات بشكل غير مسبوق؛ فبينما تدعي مصادر روسية (كوزارة الدفاع وحسابات عسكرية روسية) سيطرتها على ما بين 50% إلى 80% من المدينة و“تطهير 130 مبنى متبقياً فيها” في إشارة إلى انهيار وشيك للدفاعات، تحدث الرئيس زيلينسكي في 3 نوفمبر عن “60 جندياً روسياً فقط” و”تطهير كامل قريب”، وهو ما يعكس حرباً إعلامية موازية ومحاولات كل طرف لتثبيت روايته أمام الرأي العام الداخلي والخارجي، رغم الاشتباكات المباشرة التي تتركز داخل المربعات السكنية، حيث تؤكد تقارير أوكرانية تقدماً روسياً ملموساً بنسبة 10% إلى 15% أسبوعياً في مناطق محددة. وقد وصلت المعركة إلى “مرحلة الانهيار” للدفاع الأوكراني، مع تقدم روسي واضح وملموس في الضواحي الشمالية والغربية للمدينة، على الرغم من الهجمات المضادة الأوكرانية التي شُنت بين 3 و5 نوفمبر والتي جعلت الوضع “ديناميكياً ومتوتراً” وأسهمت في استعادة بعض الأراضي بشكل مؤقت، وذلك رغم فشل محاولات إنزال أوكرانية خاصة في 4 نوفمبر مما يؤكد أن القتال ما زال يدور على وتيرة متقلبة وغير محسومة نهائياً، ويشير إلى أن القوات الأوكرانية تواجه ضغطاً كبيراً في تثبيت خطوطها الدفاعية في مواجهة التفوق الناري واللوجستي الروسي.

التكتيكات الروسية: الإخضاع عبر التدمير الممنهج واستغلال العوامل الجوية
يتميز الضغط الروسي المتواصل على كوبيانسك بتبني تكتيك قاسٍ وعنيف يعكس مدى الوحشية المفرطة في التعامل مع البنية التحتية المدنية. هذا التكتيك هو جزء أساسي من استراتيجية الإرغام بالإخضاع عبر التدمير الممنهج، التي تهدف إلى شل قدرة المدينة على الحياة والدفاع. هذه الاستراتيجية بدورها تندرج بوضوح تحت عقيدة “النصر البطيء” الروسية الأوسع، وهي عقيدة لا تستهدف تحقيق اختراق عسكري سريع ومفاجئ، بل تهدف إلى استنزاف الخصم وحلفائه على المدى الطويل. يتم ذلك عبر إثبات أن النصر العسكري السريع لأوكرانيا أمر مستحيل، مما يؤدي بالضرورة إلى إرهاق حلفاء كييف وإضعاف عزيمتهم تدريجياً، وبالتالي التأثير بشكل حاسم على قرارات الدعم العسكري والمالي الغربي المستمر. وقد أدى القصف المتواصل والهجمات الجوية الممنهجة، خاصة باستخدام القنابل الجوية الموجهة عالية القوة والتدمير (التي تشكل نسبة ضخمة تصل إلى 50% من الاستخدام الجوي في هذا الاتجاه)، إلى تدمير حوالي 85% من بنية المدينة التحتية الحيوية، وهو ما يمثل انهياراً شبه تام للخدمات الأساسية كالكهرباء والماء والغاز، وقد توقف إمداد المياه بالكامل بعد استهداف مباشر. هذا التدمير لا يهدف إلى إضعاف القدرة القتالية مباشرة فحسب، بل يسعى إلى ترهيب السكان المدنيين ومنع عودة الخدمات على المدى القريب والبعيد؛ حيث يُصعّب التهديد المستمر من الطائرات المسيرة الروسية إدخال المعدات الثقيلة اللازمة للإصلاح، مما يحوّل أي مركبة إصلاح أو عامل صيانة إلى هدف فوري، جاعلاً إعادة بناء ما يتم تدميره في المدينة أمراً مستحيلاً في ظل القتال. كما أن هذا التدمير الممنهج يهدف إلى خلق موجة نزوح جديدة وكبيرة نحو الغرب، مما يزيد الضغط الاقتصادي والاجتماعي على أوكرانيا وحلفائها في الاتحاد الأوروبي.
أما على الصعيد الميداني، فتعمد القوات الروسية (التابعة لمجموعة “الغرب”) إلى استخدام تكتيك التسلل والحصار عبر مجموعات صغيرة مدعومة بقوة من درونات FPV، مع تركيز حاسم على قطع طرق الإمداد عبر نهر أوسكول الاستراتيجي، وقد تم استغلال الطقس الضبابي الأخير بكفاءة عالية، كما عزز الروس هجماتهم باستخدام منظومة Tornado-S (راجمة الصواريخ المطورة)، التي تتيح استهداف مساحات واسعة بدقة أعلى من المدفعية التقليدية، مما يضاعف الخسائر الأوكرانية ويزيد من صعوبة تجمعات الإمداد.

الصمود الأوكراني والتحديات اللوجستية وتوثيق الخسائر: معركة النخبة والرهان على القوات الخاصة
تواصل القوات الأوكرانية، وفي مقدمتها اللواء 14 (المسمّى الأمير رومان) واللواء 92، القتال بشراسة لا تلين، معززة بدعم نوعي ومهم من الوحدات الخاصة في المخابرات العسكرية الأوكرانية، مما يؤكد أن الدفاع عن كوبيانسك تحول إلى “معركة نخبة” تستخدم فيها كييف أفضل ما لديها من وحدات خاصة عالية التدريب والعتاد. وتركز القوات المدافعة بشكل مطلق على تكتيك “إلحاق الخسائر” عبر تكتيك الاستنزاف، حيث قدّرت الاستخبارات الأوكرانية الخسائر الروسية بأكثر من 249 قتيلاً وجريحاً في أسبوع واحد، في محاولة لإثبات عدم استدامة الهجوم الروسي وإبطاء وتيرته. ومع ذلك، لم تسلم هذه القوات النخبوية من النكسات؛ حيث تم تسجيل فشل في عمليات إنزال خاصة نفذتها الوحدات الخاصة، مما يشير إلى فعالية الكمائن الروسية وقدرتها على استهداف وتدمير الوحدات عالية القيمة التي تعتمد على التسلل، مما يرفع من التكلفة البشرية والمعنوية للدفاع. وفي المقابل، يواجه الدفاع الأوكراني تحديات لوجستية خطيرة ومتزايدة؛ حيث تُصعِّب الكمائن الروسية المتنقلة عملية الإمداد بالذخيرة والمؤن الحيوية، كما يواجه المدافعون نقصاً حاداً ومزمناً في ذخيرة المدفعية الثقيلة مقارنة بالروس (غالباً ما تكون المعادلة 1:5 لصالح روسيا في كثافة النيران)، مما يفسر سبب الاعتماد الكثيف على مسيرات FPV ووحدات الاستخبارات لتعويض النقص. ويتمثل التحدي الأكبر في الخسائر الأوكرانية المتراكمة في اللواءين 92 و151، وصعوبة الانسحاب التكتيكي دون خسارة معنوية كارثية قد تؤدي إلى “تأثير الدومينو” على المعنويات العامة والقرار السياسي الداخلي الأوكراني.
مسار تفاوضي ملغوم.. حسابات ترامب وبوتين تعقّد سيناريوهات إنهاء حرب أوكرانيا
لقد دفع هذا الواقع العسكري الحرج القيادة في كييف إلى اتخاذ قرار بدء الإجلاء الإلزامي لنحو 5,000 ساكن، وهو إجراء وإن كان يهدف إلى تقليل الضغط الإنساني، إلا أنه في الوقت ذاته يُضعف المعنويات العامة لأنه يمثل اعترافاً ضمنياً بتفاقم الوضع الميداني وفقدان السيطرة على حماية تلك المناطق.
سباق بين الحصار والاستنزاف المتبادل شديد الكلفة
إن المعركة في كوبيانسك تقع حالياً في مرحلة حرجة للغاية وتاريخية، نظراً لحجم التدمير الهائل والتهديد اللوجستي المباشر والضغط المستمر على نقاط الإمداد الحيوية. ينجح الروس في تحقيق التقدم الميداني البطيء والممنهج عبر تكتيك الاستنزاف الشامل، الذي يعتمد على التفوق الناري وتدمير البنية التحتية، ولكن هذا التقدم يتم بتكلفة عالية جداً في الأرواح والعتاد، مما يثير تساؤلات حول استدامة هذا الهجوم.
وفي المقابل، تركز أوكرانيا بشكل مطلق على تكتيك “الاستنزاف” لتحقيق هدف سياسي استراتيجي، ولكن نقص القوى البشرية وشدة الضغط اللوجستي والناري قد يجبرانها على انسحاب تكتيكي مُخطط له للحفاظ على القوات والعتاد، بدلاً من المخاطرة بالتطويق والخسارة الكاملة.
يهدف الروس إلى فرض “حصار كامل” للمدينة، لإجبار القوات المدافعة على الاستسلام وتجنب الخسائر الفادحة التي قد يتكبدونها في حالة الدخول في قتال حضري مباشر ومكثف ومطول. القتال هنا يجسد سباقاً مصيرياً بين هدف روسيا بتحقيق الحصار الكامل وقطع جميع خطوط الإمداد الاستراتيجية، وبين استراتيجية أوكرانيا التي تركز على إلحاق خسائر فادحة بالقوات الروسية، تفوق قدرتها على تعويضها والاستمرار في الهجوم.
إن الصمود الأوكراني يعتمد بشكل كلي على قدرته على تحويل التقدم الروسي إلى تكلفة باهظة تستنزف القوة البشرية والآلية، مع المحافظة على سلامة الطرق المتبقية للإمداد شمالاً وغرباً لتفادي سيناريو الحصار الشامل. ولهذا، تُعَد كوبيانسك حالياً نقطة الارتكاز الأهم لتحديد موازين القوى في الشمال الشرقي، ونتيجتها ستحدد شكل المرحلة القادمة من الصراع في عمق الأراضي الأوكرانية.


