كييف تسيطر على عمق روسيا وتعلن حرب تدمير اللوجستيات الاستراتيجية

كييف تسيطر على عمق روسيا وتعلن حرب تدمير اللوجستيات الاستراتيجية

كييف تسيطر على عمق روسيا وتعلن حرب تدمير اللوجستيات الاستراتيجية

(عمليات 30 أكتوبر – 6 نوفمبر 2025)

وحدة الدراسات العسكرية – مركز فيجن للدراسات الاستراتيجية

7\11\2025

إعلان السيادة الاستراتيجية على العمق الروسي

لم تكن الهجمات الأوكرانية على العمق الروسي، التي شهدتها نهاية أكتوبر وبداية نوفمبر 2025، مجرد ردود فعل تكتيكية عابرة على الغارات الروسية، بل شكلت إعلاناً واضحاً عن التحول الاستراتيجي العميق وغير المسبوق في مسار الحرب، مدفوعة بقرار كييف الانتقال الجذري من استراتيجية الصمود الدفاعي إلى استراتيجية الردع الهجومي الفعال. إن حملة “الليلة الجهنمية”، التي بلغت ذروتها في الثاني من نوفمبر، مثلت لحظة فارقة أثبتت فيها كييف قدرتها العملياتية على نقل جبهة القتال إلى العمق الروسي الواسع، مما يضع مفهوم الأمن الداخلي الروسي تحت ضغط غير محتمل وغير مسبوق. لقد كانت هذه العمليات بمثابة تأسيس لمرحلة جديدة من الحرب الشاملة، تهدف بشكل مباشر إلى إبطال مفعول الميزة الجغرافية الروسية الهائلة، والتحول إلى استراتيجية “الاستنزاف العكسي” الممنهج؛ هذه الاستراتيجية لا تسعى فقط للانتقام أو الرد، بل إلى تجفيف شريان التمويل واللوجستيات الأساسي الذي يدعم المجهود الحربي لموسكو، عبر الاستهداف الدقيق والموجع للأصول الحيوية للطاقة والبنية التحتية الدفاعية. هذا التحول النوعي، المدعوم بتكنولوجيا المسيّرات المتقدمة والذكاء الاستخباراتي المتكامل، لم يغير توازن القوى العملياتي والتكتيكي فحسب، بل دفع بالحرب إلى مستوى جديد من الاشتباك الجيوسياسي، مؤكداً أن أوكرانيا أصبحت قادرة على “ملء إيقاع الحرب” وفرض أجندتها الخاصة على الخصم، مما سيؤدي حتماً إلى إعادة توزيع قسري للموارد الدفاعية الروسية النادرة، حيث أصبحت القيادة في موسكو مُجبرة على سحب منظومات الدفاع الجوي المتقدمة من الجبهات الأمامية إلى عمق الدولة لحماية المواقع الاقتصادية الحيوية من الانهيار.

تدرج التصعيد والتراكم الهجومي: مراحل السيطرة التكتيكية على العمق

شهدت الفترة الممتدة من 30 أكتوبر حتى 6 نوفمبر تدرجاً محسوباً وذكياً في التصعيد، توج بالضربة الاستراتيجية الكبرى واستتبع بموجات متواصلة من الاستنزاف، مؤكداً أن الهدف لم يكن تدميراً عابراً بل استنزافاً منهجياً ومتراكماً يؤدي إلى شلل البنية التحتية الروسية.

أوكرانيا تعيد تعريف ساحة المعركة وتضرب العمق الروسي بعزم متزايد

المرحلة التمهيدية وترسيخ الردع (30 أكتوبر – 1 نوفمبر):

انطلق التصعيد كرد فعل مباشر ومنظم على الهجمات الروسية المكثفة التي استهدفت البنية التحتية الأوكرانية، لترسيخ مفهوم “حرب الطاقة المتبادلة” كقاعدة جديدة للاشتباك. بدأ هذا الرد بإعلان سلاح البحرية الأوكراني عن تنفيذ ضربة، بصواريخ “نبتون” الأوكرانية، استهدفت محطة “أوريول” الحرارية ومحطة “نوفوبريانسك” الفرعية ليلة 30-31 أكتوبر، مما أحدث إرباكاً في شبكة الطاقة المحلية. وفي اليوم ذاته، أفادت تقارير بأن مسيّرات أوكرانية استهدفت منشآت نفطية في “نوفوسباسكوي” و “ماريسكا” ومستودع وقود في “سيمفيروبول” المحتلة، وصولاً إلى استهداف محطة فرعية في “فلاديمير” ومصفاة “نوفو-ياروسلافسكي” في ياروسلافل. لقد حققت نتائج هذه المرحلة التمهيدية هدفين استراتيجيين بامتياز: أولاً، الإرباك اللوجستي المبدئي عبر تعطيل محطات الطاقة التي تمد المنشآت الصناعية العسكرية والمحاور اللوجستية الرئيسية، مما أظهر بوضوح أن المخطط الهجومي الأوكراني يهدف إلى تعطيل سلسلة الإمداد الروسية في مناطق بعيدة عن الجبهة. ثانياً، ترسيخ مبدأ الردع المتبادل في حرب الطاقة، بتقديم إثبات عملي لا لبس فيه على أن أي ضربة روسية للعمق الأوكراني ستُقابل برد فوري وموجع على العمق الروسي الحيوي.

ذروة التصعيد – “الليلة الجهنمية” (2 نوفمبر):

وصل التدرج العملياتي إلى ذروته ليلة الثاني من نوفمبر مع تنفيذ عملية “الليلة الجهنمية”، التي جسدت التحول النوعي والكامل في الاستراتيجية الأوكرانية على أعلى مستوى. هذا الهجوم الكبير استهدف 12 هدفاً استراتيجياً في 8 مناطق واسعة، وتم التنسيق له بقيادة قائد قوات الأنظمة غير المأهولة (المُسيَّرات) روبرت “ماديار” بروفدي بالتعاون الوثيق مع المديرية الرئيسية للاستخبارات العسكرية وقوات العمليات الخاصة والقوات البحرية. هذا التكامل المذهل مكّن من الاعتماد على 320 طائرة مسيّرة و12 صاروخاً جوالاً، مدعومة بتكنولوجيا الاتصال عبر الأقمار الصناعية Starlink وخرائط القمر الصناعي Maxar لتحقيق دقة استهداف بلغت 75% في العمق الروسي.

لقد تركزت الأهداف على شلّ القدرات الحيوية، حيث تم استهداف ميناء توابسيه النفطي في كراسنودار، مما أدى إلى تسرب 96 ألف طن من النفط وإغلاق الميناء لمدة أسبوع كامل، وتدمير وحدة التكرير الأولي LO AVT-6 في مصفاة ساراتوف، مما تسبب في نقص فوري بلغ 32% في وقود الديزل المخصص للإمدادات العسكرية، إلى جانب ضرب محطة توليد الطاقة الحكومية في كوستروما. وعلى الصعيد العسكري والدفاعي، نجحت العملية في تدمير بطارية S-400 كاملة ومنظومة Pantsir-S1 في القرم، مما أدى إلى إعماء 48% من التغطية الدفاعية هناك وخلق ثغرة جوية بعمق 50 كم، بالإضافة إلى تدمير وتضرر 22 سفينة من الأسطول البحري. كما شملت الأهداف خمس محطات فرعية حيوية، ومنها محطة ليبيتسك ومحول الجر في سيرجيفكا (روستوف)، مما أدى إلى توقف 32 قطار إمداد وإعاقة 52% من الإمدادات اللوجستية المتجهة إلى دونباس. الأهمية التكتيكية لهذه الضربة تمثلت في قدرة كييف على تجاوز الدفاعات الروسية المعقدة عبر تقنية تنسيق الأسراب والضرب المتزامن للأهداف الحيوية على نطاق جغرافي غير مسبوق.

مرحلة الضغط المتواصل والاستنزاف المنهجي وكشف التناقض الرسمي (3 نوفمبر – 6 نوفمبر):

لم تتوقف الهجمات عند حد الضربة الكبرى، بل تحولت مباشرة إلى مرحلة الاستنزاف اليومي الممنهج، مؤكدةً استراتيجية الضغط المتواصل وتوسيع جبهة العمليات في العمق الروسي. هذا التكتيك كشف عن تناقض صارخ بين الرواية الروسية الرسمية المعلنة والنتائج الميدانية الموثقة. ففي هجمات يومي 3 و 4 نوفمبر، أعلنت موسكو رسمياً عن اعتراض 64 مسيّرة في 3 نوفمبر و26 مسيّرة أخرى في 4 نوفمبر. لكن، على النقيض من هذا الإعلان الرسمي، كشف التوثيق المدني عن تحقيق إصابات بالغة ومباشرة في العمق لم تُعلن عنها موسكو. هذا التباين الحاد يوضح حجم الإرباك والضغط التشغيلي الذي تسببت فيه الهجمات، ويشير إلى وجود عملية تضليل إعلامي منظمة لامتصاص الغضب الداخلي، بالإضافة إلى التلاعب المنهجي بالبيانات الموجهة نحو الخارج بهدف تقليل الأهمية الاستراتيجية للضربات الأوكرانية ومحاولة تقويض الدعم الغربي لكييف عبر الإيحاء بأن فعالية الهجمات محدودة. وقد تصاعدت وتيرة الهجمات بشكل لافت لتشمل الوصول إلى عمق غير مسبوق بين 4 و 5 نوفمبر، حيث استهدفت مصنع ستيرليتاماك للبتروكيماويات في باشكورتوستان على بعد تجاوز 1300 كيلومتر عن الحدود الأوكرانية، وتم تدمير نظام صواريخ إسكندر-إم في إقليم كورسك بضربة نوعية. نتائج هذه المرحلة كانت تهدف إلى إدامة التهديد وخلق الاستنزاف التراكمي والتأثير النفسي الأقصى عبر إثبات قدرة كييف على تجاوز أي خطوط حمراء جغرافية، ويهدف لإجبار القيادة في موسكو على إعادة توجيه أنظمة الدفاع الجوي المحدودة من الجبهات الأمامية إلى حماية عمقها الصناعي الحيوي.

الحرب  الروسية الهجينة: استراتيجية التضليل أداة لتفكيك الأمن الأوروبي

الأدوات التكنولوجية والخسائر الاقتصادية: تحليل التكلفة والفائدة الاستراتيجية

اعتمدت الحملة الأوكرانية على توظيف تكتيكي متقدم لمزيج من الأسلحة التكنولوجية، حيث كان ما يقارب 85% من المسيّرات يعمل بوضع FPV (من منظور الشخص الأول) لضمان الدقة المتناهية المطلوبة لاختراق الدفاعات المحصنة، ولتعزيز قوة الاختراق تم إطلاق 12 صاروخاً جوالاً من طرازات “نبتون” و Storm Shadow.

تمثل هذه الحملة نموذجاً متقدماً لاستراتيجية التكلفة غير المتكافئة، فبينما لم تتجاوز التكلفة الإجمالية لعمليات الإطلاق 150 مليون دولار أمريكي، قُدرت الخسائر المالية واللوجستية التراكمية الناتجة عن تدمير الأصول وتعطيل الشبكات بمبلغ هائل تجاوز 22 مليار دولار أمريكي.

الأهمية الاستراتيجية للضربة تتركز في تحقيقها شللاً هيكلياً مزدوجاً: أولاً، إفقار تمويل الحرب عبر ضرب صناعة الطاقة (كما في ميناء توابسيه الذي أفقده 32% من طاقته التصديرية النفطية)، وثانياً، خنق اللوجستيات العسكرية (كما في إعاقة 52% من الإمدادات المتجهة إلى دونباس). هذا التركيز يرسخ استراتيجية أوكرانيا الجديدة لـ “خنق المجهود الحربي الروسي” بدلاً من مجرد إضعافه، ويؤكد خبراء أن الضربات على منشآت مثل مصفاة فولغوغراد استهدفت وحدات مركزية مثل CDU-5 التي تعالج نحو 66,700 برميل يومياً، مما يرفع تكلفة التأمين عالمياً ويجبر موسكو على استيراد الوقود وتقليص صادراتها عالية الهامش. وعلى صعيد الدفاع الجوي، نجحت العملية في إعماء 48% من تغطية S-400 عبر تدمير ليس فقط قاذفات الصواريخ بل أيضاً الرادارات متعددة الوظائف مثل 92N6E، مما يؤكد عجز منظومات الدفاع الروسية أمام تقنية تنسيق الأسراب (Swarm coordination) التي اعتمدت عليها كييف.

التداعيات الجيوسياسية والنفسية: زعزعة اليقين الاستراتيجي للقيادة

أرست هذه الموجة الهجومية التزام أوكرانيا باستراتيجية هجومية جديدة قائمة على ضرب العمق، مما يعني أن الحرب دخلت مرحلة يكون فيها العمق اللوجستي والاقتصادي هو الجبهة الرئيسية. على المستوى النفسي والاستراتيجي للقيادات الروسية، لم تقتصر الهجمات على الأضرار المادية، بل شكلت ضربة نفسية واستراتيجية موجعة طالت بشكل مباشر معنويات صانعي القرار. لعبت الضربات دوراً محورياً في تحطيم وهم الأمن والسيطرة، مؤكدةً عدم وجود “عمق آمن” لأي موقع استراتيجي روسي، وهذا الإدراك يولد شعوراً بالعجز على المستوى القيادي. وقد كشف التناقض بين حجم الأضرار الموثقة وبين الرواية الرسمية عن حالة من الإرباك المزدوج، تشغيلي ودعائي.

كما أن الضغط الأوكراني المستمر يفرض على القيادة العسكرية اتخاذ قرارات صعبة حول تخصيص الموارد الدفاعية المحدودة، مما يخلق حالة من الاستنزاف المعنوي نتيجة الحصار بين خيارين مرّين: تعريض خطوط الجبهة الأمامية للخطر أو تعريض العمود الفقري الاقتصادي للدولة للانهيار. وفي المقابل، حفز نجاح هذه الضربات نقاشات لدى حلف الناتو حول ضرورة إعادة تقييم نقاط الضعف الدفاعية لأعضائه، مما يخدم الموقف الأوكراني في حشد المزيد من الدعم العسكري النوعي والمستدام.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *