مراهنات حرب روسيا الخاطئة في أوكرانيا في محصّلة سنة
ماجد كيالي*
مضى عام كامل على الغزو العسكري الروسي لأوكرانيا، بكل ما فيه من أهوال ومآس وكوارث بشرية وعمرانية، وضمن ذلك تشريد عشرة ملايين أوكراني، وكان يفترض أن يحقق هدفه في ظرف أيام أو أسابيع قليلة.
أيضاً، فإن هذا الغزو الذي شمل في البداية كل الجغرافيا الأوكرانية، في الشمال والجنوب والشرق والغرب، وضمن ذلك كييف وخاركيف وأوديسا، إذ به يتقلص أخيراً إلى هجوم في إقليم دونباس (شرق أوكرانيا)، وعلى تخوم مدينة باخموت، التي تعجز القوات الروسية، وقوات “فاغنر” المرتزقة، عن اقتحامها وإخضاعها منذ أشهر.
منذ البداية، فإن الحرب البوتينية في أوكرانيا، وهو الإسم الصحيح لها، باعتبار أن الرئيس هو الذي قررها، وحدد أبعادها، وتحكم بمساراتها، تأسست على فرضيات عدة لم تثبت ولا واحدة منها. مثلاً، تركز الرهان على أن تلك “العملية العسكرية الخاصة”، وهو الإسم التمويهي لتلك الحرب، ستكون سريعة وساحقة وحاسمة، بالنظر إلى جبروت الجيش الروسي قياساً بضآلة الجيش الأوكراني، لكن ذلك لم يحصل، إذ سرعان ما خسرت آلة الحرب الروسية، المتقادمة، والمتثاقلة، والمركزية، عدداً من المناطق التي أخذتها حول خاركيف وكييف وخيرسون، واستطاع الجيش الأوكراني امتصاص الهجمة الروسية واستيعابها، بل وردها على أعقابها في عدد من المناطق، بفضل ديناميته، وتصميمه، وبفضل الدعم الغربي الذي أغدق عليه بسخاء غير متوقع، أو لم يُحسب له حساب في خلد صانع القرار الروسي.
ضمن تلك الرهانات، وربما من أهمها، أن الدول الأوروبية مرتبطة بإمدادات الطاقة (النفط والغاز) من روسيا، وأنها لذلك لن تذهب بعيداً في معارضة الخطوة الروسية في أوكرانيا، ولا حتى في تقديم أي دعم عسكري للجيش الأوكراني، لأنها لا تستطيع تحمل تبعات ذلك. لكن سرعان ما تبين خطأ ذلك الرهان، بإعلان ألمانيا، أكثر دولة تعتمد على النفط والغاز الروسيين، قرارها وقف العمل بخط نورد ستريم 2 نهائياً، وبسعيها إلى التحرر من الاعتمادية على إمدادات الطاقة الروسية، وبوضع اعتمادات للجيش قدرها 100 مليار دولار في ثاني أيام الحرب على أوكرانيا، وهو ما فعلته كل الدول الأوروبية.
الرهانات الروسية الخطأ توالت، إذ إن صانع القرار الروسي بات يروّج لكون أوروبا لن تستطيع إيجاد مصادر طاقة بديلة، وأن ارتفاع أسعار الطاقة (البديلة) لن تحتملها اقتصادات الأوروبية، وأن التضخم، وارتفاع أسعار السلع، وندرة بعضها، ستؤدي إلى تفاقم الاضطرابات الاجتماعية في الدول الأوروبية، لكن كل ذلك لم يثبت تماماً، إذ إن أوروبا (وقد مر فصل الشتاء) لم تتعرض لضائقة في إمدادات الطاقة، كونها نوّعت مصادر إمدادات الطاقة (من هولندا والنروج والولايات المتحدة وأذربيجان والجزائر وقطر والإمارات ونيجيريا)، وتوجهت نحو تعزيز الاعتماد على الطاقة الخضراء، وعلى المفاعلات النووية.
أيضاً فإن قوة الاقتصادات الأوروبية، وقوة التضامن بين دول الاتحاد الأوروبي، غطت إلى حد كبير الزيادة في أسعار الطاقة، من خلال ضخ مئات مليارات الدولارات، بل إن تلك الدول استوعبت عشرة ملايين لاجئ من أوكرانيا (مليون في ألمانيا وحدها). أما الاضطرابات الاجتماعية فهي لم تحدث البتة على خلفية التذمر من دعم أوكرانيا، أو تعاطفاً مع خطابات بوتين، بل حدثت بسبب الضائقة الاقتصادية في الدول الأوروبية، وهي كانت ظاهرة قبل غزو أوكرانيا، كما أنها حدثت بسبب النظام السياسي ـ الاقتصادي لتلك الدول الرأسمالية، التي تعرف التعددية الحزبية، والنضالات المطلبية والنقابية، وهو أمر لا تعرفه روسيا في ظل نظام بوتين.
والملاحظ أن مشاعر الحبور التي ظهرت في وسائل الإعلام الروسية إزاء بعض تغيرات سياسية في بلدان أوروبية (إيطاليا والسويد مثلاً) والمتمثلة بصعود اليمين إلى السلطة لم تدم، لأن ذلك اليمين لم يقل في مناهضته لسياسة روسيا عن اليسار الذي كان في السلطة.
الأهم من كل ذلك أن الدعاية الروسية ظلت تروج لنظرية أن تقدم الدول الأوروبية ورفاهيتها (ومن ضمنها ألمانيا وفرنسا وبريطانيا) ناتجان من رخص إمدادات الطاقة الروسية، أي أن أوروبا مدينة لروسيا، من دون الانتباه إلى أن ذلك يؤخذ على روسيا، فإذا كانت هي تملك مفاتيح تقدم أوروبا ورفاهيتها فلمَ هي على تلك الدرجة من التخلف الاقتصادي؟ إذ إن اقتصاد ألمانيا وحدها (4.2 تريليونات دولار)، مثلاً، هو ثلاثة أضعاف اقتصاد روسيا (1,6 تريليون دولار)، علماً أن مساحة روسيا أكبر بنحو خمسين مرة من مساحة ألمانيا، وهي دولة غنية بالثروات المعدنية المتنوعة، لكنها مع ذلك ليست من الدول العشر الأقوى اقتصادياً في العالم، إذ إن إيطاليا، أو كوريا الجنوبية أقوى منها اقتصادياً، مع تريليوني دولار لكل منهما.
على الصعيدين السياسي والعسكري كانت المراهنات خاطئة وبائسة أيضاً، فبدل أن تفكك روسيا العلاقة بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة، إذا بعكس ذلك يحدث، إذ لم تكن العلاقة وطيدة بهذا القدر بين الطرفين، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً.
وبدل أن تبعد روسيا الناتو من حدودها، إذا بها تستنهض هذا الحلف من كبوته، وتعزز عصبيته، وتأتي به إلى حدودها، أكثر من ذي قبل. وفي المحصلة، فإن الغزو الروسي لأوكرانيا أدى إلى تحول أوروبا نحو العسكرة، بعدما كانت تعوّل على الاقتصاد والتكنولوجيا، والقوة الناعمة، تماماً مثلما أن فكرة شطب أوكرانيا من الوجود على الخريطة، أدت إلى عكسها، أي إلى ظهور الشعب الأوكراني، أو القومية الأوكرانية، إلى درجة يصح القول معها بأن بوتين هو صانع القومية الأوكرانية الحديثة، من حيث لم يكن يتوقع، علماً أن روسيا أكبر بثلاثين مرة من أوكرانيا، أي أن ضم أجزاء من أوكرانيا لن يضيف شيئاً إلى مساحة روسيا (17 مليون كلم2).
أما في ما يخصّ ادعاءات بوتين أن تلك الحرب تتوخّى إنهاء النظام الدولي القديم الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة، فإنه لم ينتبه إلى أن ثمة نظاماً متعدد الأقطاب، لكن مشكلة روسيا أنها غير قادرة على التموضع فيه، أسوة بالصين واليابان وبعض الدول الأوروبية، بسبب ضعفها الاقتصادي، وتخلفها في مجال العلوم والتكنولوجيا، قياساً بالدول الأخرى، وبسبب أنها لا تصدّر شيئاً للعالم سوى النفط والغاز والقمح، وبعض السلاح الذي لم يثبت في ميدان المعركة إزاء السلاح الغربي، ولا على أي صعيد.
يبقى أن روسيا تنكر أثر العقوبات الاقتصادية الدولية فيها، لكن لنلاحظ أن ناتجها الإجمالي عام 2013، أي قبل احتلال شبه جزيرة القرم وأجزاء من أوكرانيا، بلغ 2.3 تريليون دولار، لكنه تراجع تراجعاً حاداً إلى 1.3 تريليون دولار عام 2015 (بسبب العقوبات التي أعقبت تلك الحرب)، وما زال إلى الآن عند حدود 1.7 تريليون دولار، أي أنه جامد، مع ملاحظة أخرى مفادها أن الاتحاد السوفياتي انهار من تلقاء ذاته بسبب الثغرات والنواقص التي نخرت به.
باختصار، ثمة إنكار للواقع، وثمة مراهنات خاطئة وخاسرة أدت إلى خسارة روسيا بعض ما كان، أو ما تبقى، لها من مكانة.