نكبةٌ تلدُ أخرى.. ومقاومةٌ تلدُ أخرى
ابو علي حسن
نشر هذا المقال في العدد 50 من مجلة الهدف الإلكترونية
خمسةٌ وسبعون عامًا على النكبة الفلسطينيّة، تلك العبارةُ التي أطلقها المفكّر القوميّ الكبير قسطنطين زريق على أثر الكارثة التي حلّت بالشعب الفلسطيني، التي تجلّت في استلاب أرضه وتهجيره عنوةً وقسرًا، وتشريده في بقاع الأرض، وبقدر ما تشي هذه العبارةُ عن عمق المأساة في آنيّتها عام 1948، فإنّها في الواقع لا تعكس مفاعيل النكبة على مدار خمسة وسبعين عامًا من الكوارث والمآسي المتلاحقة التي كابدها الشعب الفلسطيني، فالنكبةُ – باعتبارها واقعةً طبيعيّةً أو سياسيّةً – هي حدثٌ عابرٌ في لحظةٍ زمنيّةٍ تاريخيّة، وينتهي مفعولها، بيد أنّ نكبة الشعب الفلسطيني اكتسبت صيرورةً تاريخيّةً وعلى مدار خمسة وسبعين عامًا؛ ما جعلها أعظم وأشد نكبّةٍ سياسيّةٍ متواصلةٍ على مدار قرنٍ من الزمان، وعلى الرغم من أنّ اصطلاح “النكبة” أصبح اصطلاحًا مستخدمًا لدى عموم الشعب الفلسطيني والعربي للتعبير عن حجم المأساة، ويجري العمل على إحياء ذكرى النكبة لتأكيد حقّ الشعب الفلسطيني، إلّا أنّ هذا الاصطلاح لا يعبّر عن استمرار “النكبة” فالنكبةُ لم تكن أو تختصر في زمنٍ تاريخيٍّ معلوم، إنّما هي عمليّةٌ مرافقةٌ للشعب الفلسطيني على أرضه من جهة، وعلى وجوده في أماكن اللجوء والشتات من جهةٍ أخرى…
وعدٌ وتطهيرٌ عرقيّ
لم تتوقّف مفاعيل النكبة عند حدود استلاب الأرض الفلسطينيّة وتشريد أهلها إلى مناطق الشتات، فالنكبةُ ابتدأت مع وعد بلفور، والهجرة اليهوديّة إلى فلسطين ولم تنتهِ فصولًا مع ما يسمّى بصفقة القرن، إنّما توالت فصولها تباعًا عبر استراتيجيّة التطهير العرقي التي مارستها الحركة الصهيونيّة وأدواتها بعصابات “الأرغون، الهاجاناة، اشتيرن، بلماح، بيتار” التي أمعنت في قتل الشعب الفلسطيني وارتكاب المجازر بحقّه، وضمن خطّةٍ وضعت اللمسات الأولى لها في اجتماعٍ رسميٍّ بحضور الإرهابي “بن غوريون” والعديد من قادة الحركة الصهيونيّة في 10/3/1948، في تل أبيب وفق الوثائق التي عرضها “آلان بابيه” في كتابه التطهير العرقي، أي أنّ التطهير العرقي كان استكمالًا للنكبة، وذلك بإثارة الرعب والفزع وعمليّات القتل لإجبار الأهالي للهجرة من مدنهم وقراهم، والإقدام على هدم البيوت، وتدمير أكثر من (531) قريةً من قرى فلسطين، وإعادة اختلاق مسمياتٍ يهوديّةٍ لهذه القرى، في محاولةٍ لمحو تاريخها في سياق اختراع “شعب إسرائيل” كما يقول الكاتب “شلومو ساندي” وفي سياق عمليّة النكبة الممنهجة، فقد تمَّ ارتكاب أكثر من (75 مجزرة) حتّى عام 1947، راح ضحيتها أكثر من خمسة آلاف شهيد، كان أبرزها (مجزرة الطنطورة…مجزرة دير ياسين…مجزرة حيفا…وبيت دارس…ومجزرة اللد…وتباعًا قلقيلية والسموع…وتاليًا مجازر في خانيونس وغزة وصبرا وشاتيلا)…إلخ…من المجازر التي استهدفت الشعب الفلسطيني في محاولة لإفقاده قوة الوجود…
لم ينتهِ هذا الفصل من النكبة عند هذه الحدود، فقد واصل الكيان الصهيوني تعميق النكبة باحتلاله الضفة والقطاع، وارتكاب مزيدٍ من المجازر، وتهجير مئات الآلاف من الشعب الفلسطيني مرّةً أخرى، وضم القدس عاصمةً للاحتلال، وإقامة مئات المستوطنات في الضفة، والقدس، وتوطين مليون مستوطن فيها في سياق عملية تهويدٍ ممنهجة، وقد لجأ الكيان إلى إصدار “القانون القومي اليهودي” الذي يعطي الكيان الصفة العنصرية في بقائه على أرض فلسطين، والتخطيط المسبق لترحيل الشعب الفلسطيني في مناطق 48 على قاعدة بقاء النقاء العرقي اليهودي…
هذه المعالم من التطهير العرقي، والسياسات العنصريّة، وعمليات القتل والاعتقال التي طالت أكثر من مليون فلسطيني منذ عام 1967، تؤكّد أن النكبة هي عمليةٌ متواصلةٌ من قبل الكيان الصهيوني وليست واقعةً بذاتها…
وأي حديثٍ عن النكبة دون تجلّياتها في محاولات محو الشخصية الفلسطينية، وإذابة الهوية الوطنية في الشخصية العربية، وصهر خصائصها الوطنية والتاريخية مع الخاصية العربية، هو تفسيرٌ تنقصه المعرفة الدقيقة للمؤامرة التاريخية لإزالة شعبٍ كان قائمًا ولا يزال، واختلاق شعبٍ آخر على أنقاضه…
فصلٌ عربيٌّ في نكبة الفلسطينيين
وإذا كان العدو الصهيوني قد أمعن بسياساته في قتل الشعب الفلسطيني وقمعه وحصاره، ومحاولات محو وجوده، وتهويد أرضه وآثاره التاريخيّة والدينيّة، فإنّ الفصل الآخر من النكبة جسّدته السياسات العربيّة قبيل وأثناء وبعد النكبة، حيث إنّ هذا الفصل لا يمكن تجاهله أو نسيانه تحت مبرراتٍ سياسيةٍ أو أيدويولوجية / قومية / براغماتية، وهو فصلٌ من النكبة تجلّى في الإنكار لوجود الشعب الفلسطيني ما بعد النكبة، حيث عملت الأنظمة العربية على تذويب الهوية الفلسطينية للشعب الفلسطيني، ومنعه من ممارسة نشاطه السياسي والوطني بعد النكبة، ومنعه من اختيار ممثله الوطني وتأسيسه خلال عقدين من الزمن، ما بعد 48، وفي هذا السياق تم اعتبار الشعب الفلسطيني ملحقًا لسياسات الأنظمة، عبر الإنكار لحقوقه الوطنيّة والمدنيّة والسياسيّة في أماكن وجوده في البلدان العربية، إلى حد حرمانه من الحقوق المدنية في أحد الدول العربية لأكثر من (72 مهنة) ممنوع عليه أن يمارسها…!!
ولم تقتصر عملية الإنكار عند حدود الحرمان، إنما تعدّت إلى عمليات المطاردة للوجود الفلسطيني في بلدان اللجوء والشتات العربي، وتصعيب السفر عبر المطارات والحدود، كما لو أن الإنسان الفلسطيني تحوّل إلى “إرهابي عالمي” ما أجبره مرّةً أخرى على الرحيل والهجرة إلى بلدانٍ غير عربيّةٍ للتخلّص من عذابات الأنظمة العربيّة، حيث تحوّلت النكبة إلى عمليّة مطاردةٍ للإنسان الفلسطيني أينما حلّ ورحل، وتأخذ بعدًا وجوديًّا وشاملًا يطال الأرض والشعب والتاريخ والانتماء…
وحين هزمت الأنظمة العربية عام 1967 واحتلت الضفة والقطاع وسيناء والجولان، تمرّد الشعب الفلسطيني على الهزيمة وعلى واقع الهزيمة وتداعياتها، أطلق ثورته الفلسطينية المعاصرة، التي أسهمت في إشعال ضوء الأمل من جديد، لدى الشعوب العربية المغلوبة على أمرها من أنظمتها العاجزة، ومنذ اللحظات الأولى لبزوغ العمل الفدائي، كانت الأنظمة تعد العدة لاحتوائه أو وقفه، ومطاردته، فكانت مجزرة أيلول عام 1970، ومعارك الجنوب اللبناني مع السلطة الحاكمة، وحصار المخيمات الفلسطينية التي دكّت ودمّرت في أكثر من واقعةٍ على مدار نصف قرن، وأقفلت البلدان العربية على الفلسطيني، ومثلت كامب ديفيد الفصل العربي الأهم في مسار النكبة السياسية، التي فتحت على فصولٍ عربيةٍ توالت لتعترف بالكيان الصهيوني على حساب الحق الفلسطيني، فكانت اتفاقية وادي عربة، واتفاق أسلو وما بعدها من تداعياتٍ عربيّةٍ تطبيعيّه…
مقاومـــةٌ تلـــدُ مقاومـــة
وعلى الرغم من هول النكبة، وشموليّتها، واستمرارها، ومشاركة العديد من القوى المعادية في صناعتها، إلا أن الشعب الفلسطيني قد حقق استثنائيّةً في الصمود والمواجهة، ولم ييأس من هول ما عاناه على مدار سبعة عقود ونصف، فأطلق مشروعه الوطني السياسي، والتفّ حول ممثله الشرعي والوحيد (م.ت.ف) وأعلن أنّ المقاومة هي جسر العودة، ولم تتوقّف مسيرته من مرحلةٍ إلى أخرى، ومن انتفاضةٍ على أخرى، ومن جولة صراعٍ إلى أخرى، كما تجلّى الصمود الفلسطيني في رفض الوجود للكيان الصهيوني على أرضه، واكتنز حلم العودة، وتمسّك بأرضه، وسطعت هويته الوطنية بتجلياتها السياسية والفكرية والوطنية والثقافية، وغدت هويةً عابرةً للإقليم والعالم…
وشكّل حضور الهُويّة الوطنية الفلسطينية على أرض الواقع، وبلدان اللجوء والشتات، حضورًا للوطن في الوعي والعقل الفلسطيني والعربي، وهنا جذر الاستعصاء الذي يواجهه الكيان الصهيوني، بعد أن منّى نفسه عبر روايته الوهمية، وعبر تصريحات قياداته التاريخية بأن لا وجود للشعب الفلسطيني، وعليه فإنّ مراهنته على الزمن قد فشلت حين أوهم نفسه بأن الكبار يموتون والصغار ينسون، وبرهنت الأحداث ومسار التاريخ الوطني أن الصغار تحوّلوا اليوم إلى قياداتٍ تاريخيّة…
إنّ الكيان الصهيوني عبر قياداته التاريخية، وبعد انتصاراته في حروب (48/56/67) وبعد الانكسار العربي في كامب ديفيد، ووادي عربة وأوسلو، تصّور أنّه حقّق أحلامه في ترسيخ دولته، وطوى الملف الفلسطيني وأزاح عن كاهله العبء التاريخي المتمثل في الشعب الفلسطيني، لكن مرحلة الأوهام قد انتهت وكبارهم قد ماتوا وصغارهم اليوم يعيشون الوسواس القهري، ويواجهون لعنة العقد الثامن في قيام كيانهم…
وانتهى المنطق الإسرائيلي الذي تحدّث أنّ المسألة الفلسطينيّة، لم تعد هي الرقم الأهم والمقلق، ما دام العرب (الأنظمة العربية) قد انهارت أمام ” واقعية الوجود الإسرائيلي” وأنّها الآن في حالة قَبولٍ وتسويةٍ وتطبيعٍ مع “إسرائيل” وأن طي الملف الفلسطيني تحصيلٌ حاصل، بعد الانهيار العربي، هذا المنطق والوهم قد أنهته توالي جولات المعارك والصراع مع الكيان الصهيوني على مدار العقود العشرة الأخيرة، وكان آخرها معركة ثأر الأحرار وسيف القدس وانتفاضة الضفة في كل مدنها، ويعود رقم معادلة الصراع من جديدٍ إلى موقعه الطبيعي، بأنّ الفلسطيني هو الأساس وهو القاطرة التي تفرض حضورها في الواقع العربي والعالمي…
إدارةُ الصراع ومعركةُ الوعي مع الكيان
إنّ الدرس الأهم من التجربة مع الكيان، هي ألا تعطيه فرصة “تنفس الصعداء” أو “الاستقرار والهدوء” وألا تعطيه أي أمل، أو تحقّق له اليقين بأنه باقٍ إلى الأبد…وهنا قيمة أن تحدث خرقًا في بنية وعي المجاميع الصهيونيّة اليهوديّة والتوراتيّة، عبر ضرب يقينيّاتها السياسيّة والتوراتيّة، لتصل إلى ما وصل إليه الكثير من سياسييه ومفكريه وكتّابه من اهتزازٍ واضطرابٍ ووسواسٍ لا يتوقّف…
وحين يكتب (أبراهام بورغ) أحد أعمدة المؤسسة السياسية بالكيان في كتابه (لننتصر على هتلر) حول ما سمي بالمحرقة النازية (الهولوكوست) بأنها تحدد شكل السلوك السياسي ومضمونه للكيان، ليصل إلى الطلاق مع المنظومة السياسية الحاكمة، والنأي عما يسميه (صهيونية هرتزل) والتخلي عن (اليهودية الوراثية)، فإنه يعكس انكسارًا في وعيه، واهتزازًا في يقينياته الأولى، في محاولةٍ للهروب إلى الأمام عبر الدعوة إلى (مشروعٍ فكريٍّ جديدٍ يستندُ إلى الإسرائيليّة المشتهاة النظيفة…!!!)
وحين يكتب شلومو ساند في كتابه (اختراع أرض اسرائيل) ثم (اختراع الشعب الاسرائيلي) فهو يشكّك في الرواية التاريخيّة التوراتيّة والرواية الصهيونيّة، وأن كل تلك الرواية هي زيف وتضليل…
وحين يكتب (آري شبيط) بأن إسرائيل تلفظ أنفاسها الأخيرة…!! وأن لا طعم للعيش في هذه البلاد، ولا طعم للكتابة أو القراءة في هآرتس، فإنه يعبّر عن حالة إحباطٍ عامةٍ وليس اهتزازًا معنويًّا لفردٍ بعينه…
وحين يطرح رئيس وزراء “إسرائيل” السابق قاتل المناضلين (إيهود باراك) تخوّفه من قرب زوال “إسرائيل” قبل أن يتعدّى عمرها ثمانين عامًا، في مقاربةٍ تاريخيّةٍ بين العمر الزمني لدولة “إسرائيل” الموهومة في الرواية العبريّة التي لم يتعدَّ عمرها (80 عامًا) وبين واقع دولة الكيان الصهيوني الراهن، فإنّه في الواقع يشعر بالفزع من تفكك دولة الكيان قبل مرور ثمانين عامًا، وهنا يتجلّى الوسواس السياسي القهري الذي يرافق اليوم معظم الساسة الإسرائيليّون…
ولا تقف الأمور عند هذا الكاتب أو الوزير، فإنّ نتنياهو في إحدى جلساته المغلقة قال (إنّ مملكة الحشمونائيم نجت فقط ثمانون عامًا، وأنّه يعمل على ضمان أن “إسرائيل” سوف تنجح هذه المرة في الوصول إلى مئة عام) ثمة قدر عالٍ من القلق والهواجس التي تنتاب هذا الإرهابي المتغطرس، والشك بأن كيانه قد لا يصل إلى ما وصلت إليه دولة “إسرائيل” المزعومة في التأريخ العبري، وما غطرسته إلا انعكاسًا لهلعٍ سياسيٍّ ونفسيٍّ وارتطام قناعاته السياسيّة والتوراتيّة بالواقع الفلسطينيّ …
إنّ جزءًا من استراتيجية صراعنا مع الوجود الصهيوني، تكمن في قصف الوعي الإسرائيلي، لإحداث تحوّلٍ في منظومة اليقينيات الفكريّة والدينيّة والسياسيّة لدى النخبة الإسرائيليّة والمجاميع اليهوديّة، كي تصل إلى الشكّ المطلق في استحالة بقاء الكيان، واستحالة هزيمة الإنسان الفلسطيني…
إنّ إحداث هذا التحوّل من غير الممكن تحقيقه إلا عبر المقاومة الشاملة، على كل أرض فلسطين، مقاومة فعّالة في سياق استراتيجيّةٍ لا تعطي الكيان أي فرصةٍ من تنفس الصعداء، وأي فرصةٍ من استثمار الهدوء، وما سمي “بالهدن القصيرة أو الطويلة” التي بدأت مع اتفاقيات رودس عام 1949، وتباعًا مع هبوط الأنظمة العربيّة في مقاومتها للكيان…
إنّ استدعاء “استراتيجيات التعويض” في مواجهة الكيان التي تنطوي على ابتداع أشكالٍ نضاليّةٍ مختلفة، تجعل من قوة الردع الإسرائيلي، آلةً متقادمةً ومتآكلة، وتفوّت عليه استخدام إمكانياته المتطوّرة وتكنولوجيا القوّة العسكريّة والسبرانيّة.