تسليح الذاكرة: التعاون بين الصهيونية والنازية في كتاب جديد

تسليح الذاكرة: التعاون بين الصهيونية والنازية في كتاب جديد

أحمد مصطفى جابر
نقلا عن بوابة الهدف 
29/3/20232

في كتابه المنشور ذاتيا – وهذا متوقع لصعوبة بل لاستحالة إيجاد ناشر لهذا النوع من الكتب- والمعنون ” الصهيونية أثناء الهولوكوست: تسليح الذاكرة في خدمة الدولة والأمة، يقدم يقدم توني جرينشتاين تحليلاً شاملاً وحاسماً للعلاقة التي لا تنفصم بين معاداة السامية والصهيونية. ودرجة النفاق الأيدلوجي والتحالف المستتر ولكن المفضوح بشدة بين الصهيونية والنازية، في زمن “الهولوكوست”. هنا مراجعة عامة لهذا الكتاب وإضاءة تفصيلية –بمناسبته- على تاريخ العلاقات بين الحركة الصهيونية والنظام النازي.

بالطبع هناك الكثير من الدراسات الي جعلت هذه العلاقات مفضوحة بشدة، وقد تم الكشف عن هذا الارتباط في أبشع صوره خلال الهولوكوست. أشير بشكل خاص إلى جهود الباحثين العرب الذين تقصوا وتوصلوا إلى تلك المعلومات وقاموا بنشرها، وهي ذاتها تقريبا التي يتناولها جرينشتاين في كتابه، ولكن ما يميز هذا الكتاب، هو كاتبه بالذات، فعلى غرار شلومو ساند ونورمان فنكلشتاين و إيلان بابه، هذا رجل يهودي اختار الانحياز إلى الحقيقة وإلى صدق التاريخ ونزاهة الضمير والعقل، متخذا منذ البداية موقفا مناهضا للصهيونية رافضا لإغوائها الذي عم أغلب اليهود، وأيضا إن هذا المؤلف الذي يصنف كيهودي كاره لنفسه حسب الوصف الصهيوني، لايتمتع بالحماية التي يحظى بها كاتب عربي يعيش أصلا في بيئة معادية للصهيونية، ويقدم بداهة ما يفكر فيه المواطن العربي، وعلى العكس، يصفع جرنشتاين ورفاقه الإجماع اليهودي والتكميم الفكري الذي فرضته الصهيونية في حربها المستعرة للاستيلاء على اليهودية وعلى فلسطين في آن معا. مشكلا صفعة للصهيونية وداعميها الإمبرياليين والمغيبين الآخرين الذين استولت على أفكارهم لصالحها الخاص. لذلك فإن هذا الكتاب سيكون مرفوضا من قبلهم وليس قراءة محببة ولا مرغوبة،

ما عدا القسم الأول (العلاقات الصهيونية النازية: نظرة موسعة) الذي نستعرض فيه اسهاما الباحثين العرب وغيرهم، اعتمد هذا النص في أقسامه التالية على مراجعات مختلفة للكتاب أبرزها مراجعة آسا وينستلي في الانتفاضة الإلكترونية وقد ورد هنا تحت عنوان (في العمق) بترجمة معالجة للنص الأصلي.

العلاقات الصهيونية – النازية:

لطالما استغلت الحركة الصهيونية جرائم النظام النازي كاستثمار ناجح، ونفذت بهذه الطريقة وبسبب عداء العالم للنازية أبشع عملية ابتزاز عبر التاريخ مستمرة حتى اليوم إلا أن الوقائع تثبت أن الحركة الصهيونية تستخدم قيم الأخلاق وضحايا النازية فقط لمصلحتها، فحولت «الهولوكوست» إلى صناعة ناجحة ورابحة لجني الأموال والدعم السياسي كما أثبت نورمان فنكلشتين ( فنكلشتين) وما يثبت ذلك حقائق أثبتها البحث التاريخي الموثق بلا أدنى شك.

ولا شك أن أساس العلاقة كان المصلحة المشتركة التي سوغتها الجذور المشتركة للأيدلوجية الفاشية التي يعتنقها الطرفان، وبالتأكيد كان قادة الحركة الصهيونية شديدي الإعجاب بالتجربة الألمانية، وقد نقل عن ناحوم غولدمان قوله «ثمة هوية أساسية لدى الألمان واليهود هي مواجهة المصير المشترك كمهمة إلهية» (حياة الحويك).

وهكذا ارتبطت أهداف الطرفين، رغبة النازية بالتخلص من اليهود، ورغبة الصهيونية بترحيل اليهود إلى فلسطين، فعملت الحركة الصهيونية بمثابرة على تهجير اليهود الألمان وحاربت بشدة اندماجهم وقد حصل هذا النشاط على تأييد هتلر شخصياً الذي عبر عن ذلك بقوله «لقد كانوا هم الصهاينة الذين أعلنوا تنظيف ألمانيا من يهودها» (نظام عباسي.).

في كتاب بعنوان un juif libre صادر عام 1976 قام ميشال راشلين بمقارنة مقتطفات من كتاب كفاحي لهتلر مع بعض مقاطع التوراة، وخلص الكاتب إلى مطابقتهما، وقام بيير غاريبالدي عام 1988 ليثبت هذه المطابقة، «شئنا أم أبينا، النصوص هنا واضحة تماما، إن قانون موسى هو قانون عرقي، بل انه –علينا ألا نتردد بالقول- القانون الكلاسيكي الأكبر من هذا النوع، النص الأقدم والأكثر عنفا، الذي يبشر بعرقية أيدلوجية، تبدأ من المقاربات الأولى وحتى أقصى حدودها، صحيح أن البشر لم ينظروا للتوراة ليقتلوا، ولكن ما من نص جعل المذابح فرضا دينيا بسبب عدم نقاء عرق آخر، فاليهودية هي حقا العنصرية ذات الحق الإلهي»(الحويك).

في السياق ذاته ألا يكون غريبا أن يلاحظ حاييم كوهين الذي كان قاضيا في المحكمة العليا “الإسرائيلية” أن سخرية القدر قد أرادت أن تكون الطروحات العرقية البيولوجية التي يتبناها النازيون، وراء قوانين نورنبرغ هي نفسها التي يبنى عليها تحديد صفة اليهودية في دولة “إسرائيل” ولكن الغرابة ستزول عندما نعلم أن المنظر العرقي جوليوس سترايشر عندا سئل في محكمة نورنبرغ عما إذا كان قد شارك في وضع القوانين التي وضعت في مؤتمر الحزب النازي عام 1935 أجاب «نعم، بمعنى أنني كنت أكتب منذ سنوات مطالبا بمنع اختلاط العرق اليهودي بالدم الآري، وقلت أن علينا أن نأخذ العرق اليهودي أو الشعب اليهودي نموذجاً فالقوانين اليهودية هي التي اتخذت نموذجاً لقوانين نورنبرغ، انه أصل اليهودية التي استطاعت بفضل قوانينها أن تستمر طوال قرون في حين انقرضت جميع الأعراق والحضارات الأخرى»( الحويك).

لقد نظرت النازية إلى اليهود المندمجين كأعداء لها، ونظرت في المقابل إلى اليهود الصهاينة كحلفاء ممكنين، ألم يكن الألمان التقدميون والشيوعيون المؤيدون للاندماج أعداء للحركة الصهيونية والنازية على حد سواء؟ ألم يكن النازيون المستعدون لإجبار اليهود على الرحيل بل وتصفية المندمجين هم أصدقاء الحركة الصهيونية؟

وقد كتب روبرت ويلتش رئيس تحرير المجلة اليهودية (جودش راندشو) في افتتاحية 4 نيسان 1933 «لقد قدمت النازية فرصة تاريخية لتأكيد الهوية اليهودية واستعادة الاحترام الذي فقده اليهود بالاندماج، إنهم مدينون لهتلر والنازية»( الحويك) أليس هذا هو الوجه المقابل لما قاله هتلر آنفاً؟.

كانت المصالح متبادلة إذن، فبصدد المذبحة التي نفذتها النازية ليس فقط ضد اليهود، نجد الحركة الصهيونية متورطة ببشاعة في هذه الجريمة، ومن الثابت أن صلات عميقة انعقدت بين قادة الحركة الصهيونية والنظام النازي، ففي عام 1933 عقد الزعيم الصهيوني الاشتراكي أرلوزوف مع الهتلريين اتفاقية بصدد صفقة تحويل الألمان اليهود النازحين إلى فلسطين بشكل بضائع، مما قوض المقاطعة الاقتصادية الدولية لألمانيا الهتلرية وأمن لها جمع مبلغ 5.5 مليون جنيه (دادياني ص 178)، وهذا لم يكن مجرد اتفاق هامشي بل كان في صلب السياسة العامة للحركة الصهيونية، فحينما أعلن يهود أمريكا مقاطعتهم للبضائع الألمانية رفضت الحركة الصهيونية القرار بشدة، واتخذ المؤتمر الصهيوني الثامن عشر في براغ 21 آب 1933 قرارا برفض المقاطعة لأن هذا القرار ليس صهيونيا، وليس له أية علاقة مع الحركة الصهيونية وبعد ذلك في المؤتمر الصهيوني التاسع عشر، الذي عقد في الفترة ما بين 20 آب -3 أيلول 1935 وقف الصهاينة ضد أي إجراء يتخذه اليهود ضد الرايخ الثالث( yahya.faris p23) وقبل نهاية الحرب الثانية عقدت اتفاقية أخرى في بودابست عام 1944 بين زعيم الصهاينة المجريين الدكتور رودولف كاستنر، وكان حينها رئيس جمعية المساعدة الصهيونية المعروفة باسم (عصبة إنقاذ يهود بودابست) مع أيخمان الشهير تنص على السماح لممثلي النخبة الصهيونية وعددهم 1648 شخصا بالنوح عن المجر إلى فلسطين مقابل العون في إرسال زهاء 500 ألف يهودي (غير صالح) إلى المعتقلات، في أوتشفيتز، عبر إقناعهم بأنها مجرد رحلة تنطوي على تغيير مكان الإقامة. وكان أيخمان في ذلك الوقت رئيس القسم اليهودي في فرق العاصفة starm staffel (s.s) التي كان أحد مؤسسيها، وكانت علاقته مع الحركة الصهيونية تعود إلى عام 1937 عندما دعي في أيار/ مايو من ذلك العام لزيارة فلسطين من قبل منظمة الهاجاناة(عباسي. ص44)، والمعروف أن كاستنر أصبح فيما بعد عضوا في ماباي، وقد عتمت حكومة “إسرائيل” أثناء محاكمة أيخمان عام 1961 على نشر أو إذاعة وقائع التعاون، وقد قامت فضيحة كبرى قبل تلك المحاكمة حين طالب القاضي بمحاكمة كاستنر لأنه تدخل في محاكمات نورنبرغ بشهادة كاذبة لإنقاذ أحد محاوريه النازيين وأخفى أن تدخله كان باسم الوكالة اليهودية والمجلس اليهودي العالمي، وقد كتب موشي كاربت في 4-7-1955 في هآرتس مطالبا بتجريم كاستنر لكن يديعوت أحرونوت أوضحت «إذا حوكم كاستنر فان الحكومة كلها ستتعرض للانهيار نتيجة لما ستكشف عنه المحاكمة» وانتهى الأمر باغتيال كاستنر على سلم قصر العدل ثم صدر حكم ببراءته.

إن ذلك كله مرتبط بأن الوكالة اليهودية لم تكن مهتمة بالوضع الصعب لليهود الألمان وإنما تركز اهتمامها على إمكانياتهم وقدرتهم على المساهمة في المشروع الصهيوني، ويشير توم سيغف في (المليون السابع) أن المنظمة أرسلت عام 1935 إلى برلين قائمة بأسماء (أو مواصفات) من لا يجب السماح لهم بالهجرة، كما كشف إن مسؤولة العمل الاجتماعي في الوكالة هنريتا سترولد طلبت عدة مرات إعادة حالات من المرضى والمحتاجين إلى ألمانيا النازية كي لا يصبحوا عالة على اليشوفيم، وعامي 1933-1935 رفضت المنظمة الصهيونية ثلثي طلبات الهجرة من يهود ألمانيا مفضلة إعطاء الأولوية للشباب العازبين وبدلا من إنقاذ اليهود المعرضين للإبادة استقدمت ستة آلف شاب مدرب من الولايات المتحدة وبريطانيا ودول أخرى ليس فيها أي خطر(الحويك).

لا شك أن ما يعرف باسم رحلة (منغلستين) تعكس ضوءا أكبر على عمق العلاقات، ففي ربيع 1933 قام أربعة أشخاص، نازيان مرسلان من قبل الأجهزة النازية وصهيونيان من آل تتشلر مرسلان من قبل الاتحاد الصهيوني في ألمانيا، برحلة إلى فلسطين، استمرت 6 أشهر، وهدفت لإجراء تحقيق كامل حول إمكانية توطين اليهود الألمان في فلسطين، والبارون ليوبولد منغلستين أحد القائمين بالرحلة لم يكن شخصا هامشيا بل كان عضوا في حزب العمال الوطني الاشتراكي الألماني nsdap وضابطا كبيرا في الأجهزة السرية، وللسخرية الشكلية انه كان قد التحق بصفوف المخابرات كصهيوني متحمس ونابغة في الشؤون اليهودية، وقد كتب سلسلة من 12 مقالا موقعة تحت عنوان (نازي يتجول في فلسطين) في الصحيفة البرلينية der angriff التي يشرف عليها د. غوبلز وخلص إلى استنتاج «أن الوطن القومي لليهود في فلسطين سيكون علامة على وسيلة لشفاء جرح قديم يعود إلى عدة عصور هو المسألة اليهودية» وبعد ذلك عين في قسم الشؤون اليهودية في وزارة الأمن ليقوم بدعم الجهود الصهيونية المتعلقة بالهجرة، وهكذا صارت أجهزة الاستخبارات الجزء الأكثر صهيونية في الحزب النازي، الجدير بالذكر أن منغلستين هو الذي عين أيخمان في قسم الشؤون اليهودية في وزارة الأمن. واثر الرحلة الشهيرة أعلنت صحيفة الأجهزة السرية das schwarze korps رسميا دعمها للصهيونية وجاء هذا التطور للعلاقة في ظل تفاقم الحصار الاقتصادي، مما ولد فكرة مقايضة كسر الحصار بتفعيل وتنظيم الهجرة إلى فلسطين، ما نتج عنه اتفاق (الهافارا) أو (الترانسفير) حين عرض سام كوهين مدير شركة المستوطنات (حانوتا) في فلسطين، على قنصل ألمانيا هنريتش وولف فائدة مزدوجة للطرفين بقيام الشركة بكسر الحصار مقابل تنظيم ألمانيا هجرة اليهود إلى فلسطين، وليس إلى أي مكان آخر، والآلية أن يقوم اليهود بإيداع أموالهم لدى ألمانيا لتشتري بها (حانوتا) بضائع ومعدات زراعية، وقد تم التوقيع الرسمي يوم 7 آب عام 1933 في وزارة الاقتصاد الألمانية من قبل ممثلي الوكالة اليهودية وممثل الصهيونية العالمية أرثور روبين ومسؤول كبير في الرايخ الثالث، وهكذا أنشئت شركتين (بالترو) في برلين و(هافارا كومباني) في تل أبيب وأنشأ خط بحري مباشر بين هامبرغ وحيفا بإشراف حاخامية هامبرغ، وبحلول عام 1939 تم تهجير ستين ألف يهودي أي ما يعادل 10% من الطائفة حيث 73% كانوا يفضلون أوربا الشرقية لغاية 1938 (الحويك).

ويمكن فهم أهمية الاتفاق للجهتين إذا عرفنا أن على كل مهاجر أن يودع مبلغ ألف ليرة إسترلينية على الأقل في حساب خاص في برلين ما يساوي دخل أسرة برجوازية لمدة ثلاث سنوات ويسمح له بإرسال بضاعة قيمتها 20 ألف فرنك، وقد صادق المؤتمر الصهيوني التاسع عشر في لوزان 1935 على الاتفاقية متخذاً قرارا بنقل ملكية الهافارا إلى الوكالة اليهودية، وتم نقل نظام الهافارا إلى رقابة اللجنة التنفيذية الصهيونية في المؤتمر، وبناء على الاتفاق سمح الجهاز النازي للمنظمة إقامة مركز مراكز تدريب لإيصال الخطاب الصهيوني إلى الأسر والمنازل وقد قامت عدة دول بتقليد نظام الهافارا مثل بولونيا عام 1937 وتشيكوسلوفاكيا وهنغاريا وايطاليا عام 1939(لمزيد من المعلومات حول نظام الهافارا راجع: yahya، عباسي، الحويك.).

وفي 26 أيلول أصدرت دار شواراز كوربس جريدة الأجهزة السرية إن «الاعتراف بالمجموعة اليهودية كجماعة عرقية تقوم على الدم لا على الدين تقود الحكومة الألمانية إلى ضمان الوحدة العرقية لهذه الجماعة، وتجد الحكومة نفسها على اتفاق تام مع الحركة الكبيرة لهذه الجماعة التي تسمى الصهيونية والتي تعترف بتضامن جميع يهود العالم ورفضها لأي مفهوم اندماج، وعلى هذا الأساس تتخذ ألمانيا المبادرة إلى تدابير ستلعب بكل تأكيد دوراً ذا دلالة في حل المسألة اليهودية في العالم».

ونجد ردود فعل الصهاينة الألمان أكثر حماساً فقد نشرت جريدتهم (جودش راندشو) في 17 أيلول افتتاحية حماسية «إن ألمانيا تستجيب لمطالب المؤتمر الصهيوني العالمي إذ تعلن أن اليهود المقيمين في ألمانيا حاليا هم أقلية قومية» وقد أيدت مجلة اليهود الأرثوذكس الموقف ذاته وعبرت عن تأييدها المطلق لمنع الزيجات المختلطة في 19 أيلول 1935، وبعد شهرين كتب هيريتش رئيس الأجهزة السرية بفرعيها sos وغستابو في صحيفة داز شواراز كوربس الخاصة بالأجهزة يقول «يدعو الصهاينة إلى مفهوم عرقي تماما ويساعدون عبر الهجرة على بناء دولتهم اليهودية الخاصة، إن تمنياتنا الخاصة والرسمية معهم»، كذلك عبر ألفرد روزنبرغ المنظر العرقي عن دعمه الكامل للصهيونية في حوار مع صحيفة l’echo de paris عدد 30 أيار 1935.

وكتب هانرل ريدنثال رئيس اتحاد الصهاينة الألمان «كان الغستابو يعمل كل ما في وسعه لتشجيع الهجرة وخاصة باتجاه فلسطين وغالبا ما كنا نتلقى مساعدة عندما كنا نحتاجها لدى الحكومات الأخرى بهدف تشجيع الهجرة».

عودة إلى كتاب جرنشتاين

وصف صانع الأفلام اليساري المناهض للصهيونية كين لوتش هذا الكتاب بأنه “قراءة أساسية” حيث أن “فهم سياسات الثلاثينيات والأربعينيات ضروري إذا أردنا ضمان عدم تكرار أهوال الحرب العالمية الثانية مرة أخرى” مؤكدا أن إشارة توني جرينشتاين التفصيلية إلى المصادر الأصلية لكتابه تؤدي إلى استنتاجات لا يمكن تجاهلها.” ومن جانبه قال ريتشارد فولك، أستاذ القانون الدولي الفخري، جامعة برينستون ورئيس القانون العالمي، جامعة كوين ماري بلندن أن “هذا الجدل الأكاديمي الذي جاء في الوقت المناسب، حيث يزيل توني غرينشتاين بشكل رسمي الغموض عن الصهيونية، ويصف بشكل مقنع صلاتها الغامضة التي أسيء فهمها مع معاداة السامية، خاصة خلال ذروتها المروعة في الهولوكوست. القراءة الأساسية لأي شخص يريد أن يفهم إسرائيل كدولة مبنية على الفرضية للتفوق اليهودي ودعمه نظام فصل عنصري قاسي لحرمان الشعب الفلسطيني من الحقوق الأساسية في بلده “. وأضاف الأستاذ الفخري موشيه ماتشوفر، كينجز كوليدج، جامعة لندن أن “الكتاب الحالي يدور حول التاريخ الكامل لهذه العلاقة بين الصهيونية ومعاداة السامية. معرفة توني الموسوعية بالمطبوعات المتفرقة ذات الصلة وإنجازه في ترتيب المواد الهائلة في سرد ​​متماسك لا يعلى عليه”. وقالت الدكتورة سوزان بلاكويل، قسم اللغات والأدب والاتصال، جامعة أوتريخت إن “كتاب جرينشتاين، الذي تم بحثه بدقة وتخلله بحرية مع اقتباسات من مصادر أصلية، سيجعل القراءة غير مريحة لأي شخص يشعر بالتعاطف المتسلل مع الصهيونية”.

وفي تعليقه على الكتاب، أكد البروفيسور حاييم بريشث، كلية الدراسات الشرقية والأفريقية، جامعة لندن، أن العلاقة التاريخية للصهيونية بالأنظمة والحركات المعادية للسامية والعنصرية كانت مجالًا أهملته الأبحاث المعيارية لفترة طويلة، وتأثرت كما هي بالافتراضات الصهيونية، “وهذا هو السبب في أن كتاب توني جرينشتاين مهم للغاية، مما أدى إلى زيادة تطوير العمل الرائد ليني برينر. عمل جرينشتاين ملحمي من حيث النطاق، يسلط الضوء على الزوايا المظلمة، ويغطي ساحة تاريخية وجغرافية وسياسية واستطرادية هائلة ؛ ويوفر حسابًا وتقييمًا محدثًا وشاملًا للعلاقة المعقدة للصهيونية مع استخداماتها وانتهاكاتها من الهولوكوست”.

ويرى باتريك ويليامز، أستاذ فخري، جامعة نوتنغهام ترنت أنه “”في هذا الحساب الجوهري والمفصل والمرجع بدقة، يتم فحص تاريخ السياسات والممارسات الصهيونية قبل وأثناء وبعد المحرقة النازية بكل فظاعتها. ولا شك أن غرينشتاين سوف يتم تشويهه من قبل المعارضين المتوقعين، لكنه يقدم بديلاً قويًا عن الطريقة التي قد يفكر بها معظم الناس في الصهيونية، بالنظر إلى وضعها الحالي على أنها لا تنتقد، تحت وطأة اتهامات بمعاداة السامية “.

يكتب غرينشتاين في مقدمته معلنا جوهر موقفه إن : “هذا الكتاب هو رد على تأريخ صهيوني حاول كتابة معاداة الصهيونية من التاريخ ونقلها إلى” حالة النسيان “. وقد جاء الكتاب الضخم في ثلاثة أجزاء، يؤرخ لتأثير الصهيونية قبل وأثناء وبعد الهولوكوست.

يشرح المؤلف كيف أنه بالنسبة للحركة الصهيونية كان اليهود في أوربا وضخحايا الهولوكوست بالتحديد ينقسمون إلى قسمين، قسم مؤهل ليأخذ دورا في المشروع الصهيوني وقسم آخر سيكون عائقا ولا بد من التخلص منه بأي ثمن. ولهذا الغرض كان التعاون مع النازيين وعقدوا صفقات لهذا مقابل الحفاظ على حياة النخبة من اليهود لغرض الهجرة الاستعمارية إلى فلسطين.

من الأمثلة الي ينقلها الكاتب عن ديفيد غوريون مثلا في هذا الإطار أنه قدم في عام 1933، ملاحظة مهمة حول عدم اهتمام الصهيونية بإنقاذ أرواح اليهود. وقد أوضح زعيم الحركة الصهيونية الذي كان يتنافس حينها مع وايزمان وجابوتنسكي أنه إذا كان هناك” على سبيل المثال، ادعاء الصهيونية بأن اليهود غير قادرين على الاندماج في أي مكان في العالم تبناه النازيون في اضطهادهم للشعب اليهودي. لذلك، كانت معاداة السامية مشتركة”. وهكذا فهم هتلر والنازيون مبكرا أن هناك فرقًا بين “اليهود والصهيونية” حيث هذه الأخيرة تصلح كحليف، وبينما حارب اليهود بنشاط ضد النازية، تعاون الصهاينة مع النازية والفاشية.

وكما هو الحال الآن خلط الصهاينة بين معاداة السامية ومعاداة المشروع الاستعماري حيث أن تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست (IHRA) لمعاداة السامية لا يسمح بانتقاد الكيان الصهيوني، لا سيما عند مقارنة سياساته بسياسات النازية. ومع ذلك، يلاحظ جرينشتاين أن “الإسرائيليين” أنفسهم لاحظوا التشابه. إلى جانب مذبحة كفر قاسم، التي قارنها الجناة الإسرائيليون بالتكتيكات النازية، يقتبس جرينشتاين مقولة إسرائيلي: “هناك تآلف أوسع مع النازيين في المجتمع الإسرائيلي”.

وفي ملاحظة أخرى عن بن غوريون في عام 1938، أخبر بن غوريون لجنة مباي المركزية “إذا علمت أنه سيكون من الممكن إنقاذ جميع الأطفال في ألمانيا من خلال إحضارهم إلى إنجلترا، ونصفهم فقط عن طريق نقلهم إلى أرض إسرائيل، فعندئذ سأختار البديل الثاني، فلا يجب أن نزن فقط حياة هؤلاء الأطفال، بل أيضًا تاريخ شعب إسرائيل “.

يكتب جرينشتاين أن القادة الصهاينة كانوا مهتمين أيضًا بما بمصير المشروع الاستعماري الصهيوني إذا تعاون العالم من أجل إنقاذ الشعب اليهودي. كتب بن غوريون في عام 1938: “إننا نجازف بوجود الصهيونية ذاته إذا سمحنا بفصل مشكلة اللاجئين اليهود عن مشكلة فلسطين”.

في العمق

يبدأ كتاب توني جرينشتاين الجديد بملاحظة شخصية: “منذ سن مبكرة، كانت لدي شكوك حول الصهيونية”.. كان جرينشتاين، وهو ابن حاخام يهودي أرثوذكسي، على مدى عقود ناشطًا دؤوبًا في التضامن مع فلسطين ومناهضًا لا هوادة فيه للصهيونية. ويشرح غرينشتاين بشكل مقنع كيف انتقل لرفض الأيديولوجية التي تأسست عليها “إسرائيل” : “لقد وجدت صعوبة في التوفيق بين الماركسية، وهي أيديولوجية سياسية عالمية تؤمن بوحدة المضطهدين والطبقة العاملة، مع الصهيونية، وهي أيديولوجية تفردية”. وفي في مناظرة مدرسية لعب دور “محامي الشيطان وأثناء ذلك اقتنع بالقضية ضد الصهيونية”. و لم ينظر إلى الوراء منذ ذلك الحين.

تم دعم شكوكه المبكرة بعد أن علم أن القادة الصهاينة الأمريكيين عارضوا دخول اللاجئين اليهود من أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية. لذلك بدأ مشروع مدى الحياة: البحث في تعاون الحركة الصهيونية مع الفاشية.

في الثمانينيات من القرن الماضي، تمت طباعة كتاب ليني برينر المهم حول نفس الموضوع، الصهيونية في عصر الديكتاتوريين، من قبل الناشر الاسكتلندي كريستوفر هيلم صاحب التفكير المستقل .وربما كان ذلك الكتاب الأخير حتى صدور كتاب جرينشتاين، وهي فترة طويلة جدا من الصمت، في المطبوعات. وقد تم الاستشهاد بكتاب برينر وانتقاده من قبل جرينشتاين.

بالإضافة إلى تحديث القصة، فإن كتاب جرينشتاين أكثر شمولاً من كتاب برينر. ويشرح كيف “نقلت القيادة النازية عن مصادر صهيونية لإثبات صحة مزاعمهم بأنه لا يمكن استيعاب اليهود”. و كتب غرينشتاين نقلاً عن المؤرخ المؤيد “لإسرائيل” إدوين بلاك، “كان من الصعب على اليهود الألمان دحض المزاعم النازية” عندما “نشرت مجموعة صاخبة وواضحة من لوائح اتهام متطابقة خاصة بهم باستمرار … أصبحت الصهيونية أداة لمعاداة السامية “.

بالإضافة إلى الأحداث المعروفة نسبيًا مثل اتفاقية هافارا – يوضح جرينشتاين أيضًا خيانة رودولف كاستنر الذي ذكرنا جوانب من قصته أعلاه، وهو زعيم صهيوني عمالي مجري .سلم الجالية اليهودية في المجر التي يبلغ قوامها نصف مليون يهودي إلى معسكرات الموت النازية مقابل المرور الآمن لنفسه ومجموعة صغيرة من “الأعيان” اليهود الآخرين الذين سُمح لهم بعد ذلك بأن يصبحوا مستوطنين في فلسطين. وكما ذكرنا أعلاه وعلى نحو يتناسب حكومة ماباي قُتل كاستر على يد مخبر في جهاز الأمن العام (الشاباك) قبل أن يواجه المحاكمة. حيث من الواضح، كان النظام غير راغب وغير قادر على تجريم نفسه.

خداع في أوشفيتز

غطى كتاب ليني برينر هذه الحلقة الدنيئة من التاريخ بشكل جيد. لكن انتقاد جرينشتاين الرئيسي للمؤلف الأمريكي هو أنه لم يأخذ في الاعتبار بروتوكولات أوشفيتز وكيف قام كاستنر بتغطيتها بفعالية.

كان هذا يعني أن يهود المجر قد تركوا في جهل بالطبيعة الحقيقية للإبادة “لمعسكرات العمل” النازية التي خدعهم كاشتنر ورفاقه بشأنها، وكما يوضح جرينشتاين، وصل كاشتنر “إلى سلوفاكيا في نهاية أبريل [1944] وأعطي على الفور نسخة” من شهادات شهود عيان الهاربين من أوشفيتز. . ومع ذلك، “كان رد كاستنر هو قمعهم”. كان يعرف بالضبط ما كان النازيون يفعلونه في معسكرات الإبادة. ومع ذلك فقد غطى الإبادة الجماعية بنشاط من أجل حماية مفاوضاته مع الزعيم النازي أدولف أيخمان. وسمحت تلك المفاوضات نفسها لكاستنر وعائلته ومجموعة صغيرة نسبيًا من “الوجهاء” اليهود بمغادرة البلاد دون أن يصابوا بأذى. وكجزء من هذه الصفقة، تم إرسال معظم يهود المجر إلى معسكرات الموت. استقلوا القطارات بناء على نصيحة كاستنر. لقد خدعهم قادتهم وقتلوا.ويوضح غرينشتاين: “لقد تم محو البروتوكولات من التأريخ الصهيوني”. حيث أن مذكرات Vrba لعام 1963 “نُشرت في كل لغة تقريبًا باستثناء اللغة العبرية.”

الجزء الثاني من كتاب جرينشتاين هو الفصل الذي يسميه “عرقلة الصهيونية للإنقاذ”:

مع اقتراب الهولوكوست، كانت القيادة الصهيونية (في كل من فلسطين والعالم) في أحسن الأحوال غير مبالية بالجهود المبذولة لإنقاذ يهود أوروبا من نهاية العالم النازية القادمة – وهي جهود رفضت بازدراء باعتبارهم “لاجئين”. وفي أسوأ الأحوال، عارض الصهاينة بشدة مثل هذه الجهود.حيث يجمع جرينشتاين بين بعض الاقتباسات المعاصرة المرعبة حقًا للقادة الصهاينة.

منع اللاجئين اليهود

“هل نحن مرة أخرى … سنخلط بين الصهيونية واللاجئين، والتي من المرجح أن تهزم الصهيونية؟ قال أحدهم: “الصهيونية ليست حركة لاجئين”. وأعرب آخر عن قلقه من أنه “من الممكن أن يقوض الشتات الدولة اليهودية، لأن إلحاح قضية الإنقاذ قد يدفع العالم إلى قبول حل مؤقت. و يجب أن نركز بشكل متزايد على الإيديولوجية الصهيونية الأساسية “.

دافيد بن غوريون نفسه (الذي أصبح فيما بعد أول رئيس وزراء “لإسرائيل”) في عام 1938 كان قلقًا بالمثل من أن الأخلاق اليهودية ستؤدي إلى إنقاذ اللاجئين اليهود الأوروبيين وإيوائهم في بلدان أخرى غير مستعمرته الاستيطانية الناشئة في فلسطين: “إذا واجه اليهود الاختيار بين … إنقاذ اليهود من معسكرات الاعتقال من ناحية، وتقديم المساعدة للمتحف الوطني في فلسطين من ناحية أخرى، سيسود الشعور اليهودي بالشفقة … [و] ستختفي الصهيونية من جدول الأعمال. ” ومن الواضح أنه كان لا بد من القيام بشيء ما لمنع مثل هذه الكارثة.

وحدث شيء ما بالفعل. قام دبلوماسيو الصهيونية المؤثرون وجماعات الضغط واستعرضوا عضلاتهم، حيث ضغط حاييم وايزمان، زعيم المنظمة الصهيونية (أول رئيس “لإسرائيل” فيما بعد) على وزير الاستعمار البريطاني مالكولم ماكدونالد لرفض دخول الأطفال اليهود الألمان الفارين من الاضطهاد النازي في أعقاب مذابح ليلة الكريستال.

كتب ماكدونالد لاحقًا: “لقد صدمني موقف وايزمان”. أصر على ذهاب الأطفال إلى فلسطين ” بقدر ما كان يعنيه الأمر كانت فلسطين أو لا مكان “. في غضون ذلك، قام النشطاء الصهاينة في الولايات المتحدة، في الواقع، باعتصام أمام مكاتب مجموعة يهودية غير صهيونية كانت تنظم طرودًا غذائية لمساعدة أحياء اليهود الجائعة في بولندا. وهناك الكثير من هذه الأشياء الفاسدة التي يصعب فهمها حقًا.

أخيرا..

 يمثل هذا الكتاب إضافة مهمة في ترسانة محاربة الصهيونية والعمل على إسقاط فكرتها المشوهة عن العالم والإنسان، ويأتي الكتاب كدليل جديد على احتقار الصهيونية فعليا لليهود، واستخدامهم كأدوات لمصلحتها الاستعمارية الخاصة متحالفة في ذلك مع الشيطان إن اقتضى الأمر. ولكن يجب تنبيه القارئ إلى أن هذا (الشيطان) ليس هتلر لوحده، أو على وجه التحديد بل كل العالم الامبريالي الذي ساهم ودفع الفكرة الصهيونية وكان عاملا أساسيا في استعمار فلسطين وتطهيرها عرقيا. وإذا كان هتلر قد انتهى كشخص وحزب محدد، فإن أفكاره تشع حيث لا يجرؤ العالم على الاعتراف.. في قلب الكيان الصهيوني بالذات.

المراجع

  1. نورمان فنكلشتين. صناعة الهولوكوست: تأملات في استغلال المعاناة اليهودية. ترجمة سماح إدريس. وأيمن ح حداد. ط1(بيروت: دار الآداب2001) يعتبر هذا الكتاب بمجمله وثيقة هامة تخدم الكشف عما يراد الاشارة إليه في السياق.
  2. حياة الحويك عطية. العلاقة الصهيونية النازية 1933-1941.
  3. نظام عباسي. العلاقات الصهيونية النازية وأثرها على فلسطين وحركة التحرر العربي 1933-1945( الكويت: كاظمة للنشر والترجمة والتوزيع. 1984) ص 44
  4. دادياني. الصهيونية على حقيقتها. ترجمة الياس شاهين (موسكو: دار التقدم، 1989)
  5. yahya.faris. Zionist relation with nazi-germany.(Beirut 1978)

 

*تم النشر بالتنسيق مع الكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *