غزة فلتة التاريخ
أبو علي حسن
23\1\2025
كلما وقفت أمام هذه البانوراما الغزية التي تجسدت فعلياً على أرض غزة، أقف مدهوشاً أمام الصمود الأسطوري لمقاومة الإنسان الغزاوي في وجه أعتى استعمار عنصري إحلالي، إجلائي، إبادي لكل ما هو حي، مدعوما عالمياً بقوة بارود خيالية أميركية، ومسنوداً من الغرب الاستعماري سياسياً وإعلاميا قل نظيره في القرن الواحد والعشرين..
أقف مندهشا أمام صمود لا شبيه مثله في هذا القرن، حيث تتداعى الأسئلة التي تنتمي إلى الدهشة ذاتها… وأتساءل لماذا لا يستسلم المقاومون الغزيون أمام هذه المقتلة الغير مسبوقة… لماذا لا يرفع أهالي غزة الراية البيضاء…؟ فتجيب إم مالك بارود قبل ان استكمل اسئلة الدهشة “ما عنا قماش للرايات البيضاء، بس عنا قماش لأكفان الشهداء…”
كيف لهذا الانسان الغزاوي الفلسطيني أن يتحمل هذا القتل والإبادة الجماعية والتطهير والترحيل والتنقل اليومي من مكان مقتول فيه إلى مكان آخر مقتول فيه طيلة خمسة عشر شهراً… كيف لهذا الإنسان الغزاوي أن يصمد أمام هذا التجويع الممنهج من قبل الكيان السادي ولا مبالاة الغرب الإمبريالي الذي لم يستطع أو لم يُرِد أن يكسر هذه السادية لدى الكيان، ويضرب بعرض الحائط فرية شعاره وتلحفه بحقوق الإنسان؟ … فتجيب امرأة حرة “لقد ربطنا على بطوننا أحزمة من بقايا ملابسنا المهترئة فأسكتنا الجوع والمعدة…”!
كيف للإنسان الغزاوي أن يصمد مع انعدام وموت الحياة ولا يتبقى له إلا العيش بخيام بلاستيكية مهترئة لاتقى برداً ولا حراً، بدون ماء، بدون كهرباء، بدون غطاء، بدون فراش، خيام تُنصَب متراصة فوق مياه آسنه، وفوق ركام وبقايا ما دمره الاحتلال أو بقرب بحر هائج يطيح بعواميدها وحبالها، فتغمرها المياه والأوحال؟ … فيجيب غزاوي حر لصيق ببحره الثوري بأمواجه التي لا تعرف الهدوء ” إننا نستأنس الموت بجوار بحرنا وزرقة مياهه السماوية…”!

كيف لهذا الإنسان الغزاوي أن يتعايش مع زحف الموت المتنقل، وعادة دفن الموتى بالأكفان وبدونها على مدار الساعة… لا مستشفيات، ولا مدارس، ولا دور عبادة، صلواتهم لم تتوقف، جلها فجراً وظهراً وعصراً أمام جثامين الشهداء… مقابر جماعية بدون أسماء ولا ألقاب يتساوى في داخلها الصغير والكبير والفقير والغني والمعلم والأمي والمقاوم واللامقاوم، ملحمة الوحدة والتآخي في زمن الموت…؟!!
كيف لهذه المرأة الغزاوية أن تلد طفلاً، ويختلط صراخه مع دوي القنابل والمدافع داخل خيمة أعادتنا إلى الأيام الغابرة قبل ألف عام وطقوس الولادة بالخيمة.
وكيف لهذه الفتاة الغزاوية أن تقيم عرساً وزفافاً في زمن الموت بين جدران مدارس الأونروا المدمرة وسط جموع فرحة، ولا يلبث أن تُحول القنابل الفرح إلى رعب ومخاوف، وهكذا دواليك يتعايش الفرح مع الخوف على أرض غزة تحت سقف الامل وبناء المستقبل؟
وكيف لهذا الطفل الغزاوي أن يتحدث السياسة، ويفتي في الدين، ويحفظ القرآن، ويجيد الفصحى، ويحض على المقاومة ويرفع راية النصر ويراقص زملائه الاطفال بأغاني التحدي؟
كيف لهذه الإرادة الغزاوية أن تهش بعصاها طائرة مسيرة لرجل جريح اقعدته جراحه على أريكة وسط دمار مخيف متمثلا “إن الأبرار في نعيم على الأرائك ينظرون”…؟
من أين لهذا الغزاوي هذه الطاقة اللامحدودة التي أمدته في صبره وعنفوانه بقوة مضاعفة…؟!
د. سعيد سلّام: ترمب أكثر رئيس أميركي انحيازا لإسرائيل وهذه الأدلة
كيف لقطاع غزة، هذا الشريط الساحلي الضيق عرضاً بمتوسط تسع كيلومترات، أن يحوّل غزة وقراها ومخيماتها قلاع محصنة فقط من الإرادة والإيمان، دون الحجارة أو الحديد، ولا يستطيع الكيان بكل جبروته ونيرانه أن يوقف الغزاوي من مقاومته؟!
ما هذا المشهد البانورامي الشامل الذي يجسد الصمود ومعناه، والذي يشاهده اليوم كل العالم من بعيد، ومن علو، ويمعن مدهوشا النظر في احداثه وحرائقه، بانوراما حيه قد يعجز كل مصوري ورسامي العالم أن يعيدوا إحياءها، فقد تحتاج إلى مساحة غزة عرضاً وطولاً من الورق المقوى أو الجدران…!!
تلك الأسئلة الغارقة في الدهشة، قد نجد لها جواباً، وقد لا نجد، وتلك أسطورة أخرى تستدعي نبش التاريخ من بعيد وبعيد والإفصاح عن عبقرية المكان والانسان…
فما يحدث في غزة كوميديا سوداء فاقت تصورات شكسبير وحبكاته ومسرحياته، ولكنها كوميديا تفصح أحداثها عن أن في هذه الأرض ما يستحق الحياة، وأن غزة هي فلتة التاريخ وتبقى غريزة البقاء واستحقاقها هي الجواب الناقص لأسئلة الدهشة، ولكن ما هو مخفي فتلك رواية اخرى قيد المفكرين والادباء وعلماء الاجتماع لفك طلاسم الصمود والوجود الغزاوي.