اقتحام مخيم جنين في الحسابات الاستراتيجية الإسرائيلية
أبو علي حسن
4/8/2023
منذ ان ظهرت كتيبة جنين إعلامياً وميدانياً بالصورة والصوت، وتتجمل بالسلاح وتتزنر بالرصاص، وتعلي من فكرة المقاومة، وتتوعد الاحتلال، وتفارق سياسة السلطة الفلسطينية الداعي إلى المقاومة الشعبية السلمية، التي لم تردع الاحتلال من ملاحقة المقاومين ولا وقف الاستيطان، باتت جنين ومخيمها في عين العاصفة بالنسبة للاحتلال، باعتبار أن مقاومتها تمثل نقلة نوعية في مستوى الوعي المقاوم، وظاهرة مفارقة للواقع المثالي في الضفة، الذي يتعايش معه الاحتلال كونه واقعاً مقتصراً على الاشتباك السلمي مع جنوده ومستوطنيه ومستوطني الاحتلال.
ومع ظهور مجموعة أو كتيبة عرين الأسود، وتصاعد عمليات الاشتباك مع مستوطني وجنود الاحتلال، أدرك الاحتلال أن الظاهرة قد امتدت، وأن ظاهرة الكتائب المقاوِمة في جنين ونابلس ليست ظاهرة معزولة أو محدودة، إنما هي ظاهرة مقاومة فاعلة، “ومؤسِّسَة لخيار المقاومة المفارقة تماماً لعجز السلطة الفلسطينية، ويعبر عن رأي عام جماهيري ملتف حول الكتيبة”، وإنها بنية عسكرية وسياسية وفكرية سوف تمتد إلى كل مناطق الضفة. وإذا ما تنامت فإنها ستخلق وضعاً مغايراً في الضفة، قد يشعل الضفة إلى انتفاضة شاملة لا تقل خطورة عن الانتفاضات السابقة.
وهنا فإن مجابهة هذا الوضع المستجد من قبل الاحتلال قد تداخلت فيه الأسباب المباشرة والاستراتيجية والداخلية التي أفضت إلى قرار اقتحام مخيم جنين.
ومع تصاعد عمليات هذه الكتائب واستهداف الجنود والمستوطنين، بات الأمر بالنسبة للاحتلال أكثر خطورة، وأكثر إلحاحيه في كيفية وأد هذا التشكيل العسكري المنظم، فأقدم الاحتلال مبكراً على وضع خطة أمنية قبل عام لاقتحام المخيم. وقام بأكثر من تعديل على هذه الخطة لتجنب الثغرات أو الخسائر. وفي كل مرة كان يجري تأجيل تنفيذ هذه الخطة بفعل التجاذبات والخلافات السياسية والأمنية لدى الكيان، إلا أن تدمير مركبة النمر المتطورة واستخدام العبوات الناسفة، وإطلاق صاروخ من المخيم، قد أجج الدعوات لاقتحام المخيم فوراً، باعتباره أصبح “بؤرة إرهاب”.
كما بدأت الأحاديث الإعلامية عن تآكل الردع لدى المؤسسة العسكرية. وأنها لم تعد قادرة على بسط الأمن ولا تحقيق الأهداف ذات الطابع السياسي أو الاستراتيجي. وكانت فرقة ما يسمى “يهودا والسامرة” قد طرحت فكرة اقتحام المخيم مبكراً في نيسان 2020، لكن هذه الفكرة المتطرفة وذات الأهداف الاستراتيجية لم يؤخذ بها لأسباب سياسية داخلية. وهنا استجمع الكيان الأسباب السياسية والداخلية والاستراتيجية للقيام بعمل نوعي هجومي لاستعادة حالة الردع المتآكلة ضمن رؤية استراتيجية للسيطرة على “يهودا والسامرة”، حيث شارك في هذا الاقتحام أكثر من ألف جندي من “الكوماندوس”، وعدد من القوات الجوية والمسيرات، ودور للاستخبارات والشاباك، وإشراف سياسي، في محاولة لإثبات قدرة الجيش على الردع وتحقيق الأهداف المتوخاة من العملية.
البعد السياسي الداخلي وأزمة الكيان في اقتحام المخيم:
من المسلمات أن الكيان الصهيوني يعيش منذ أكثر من أربعة سنوات في أزمة سياسية خانقة على وقع نتائج انتخابات الكنيست الأربعة التي لم تحسم أمر الحكومة لفريق واحد دون تعاون مع حلفاء آخرين، لديهم القدرة على تهديد ائتلاف الحكومة كلما تطور الخلاف الداخلي.
وإذا كان نتنياهو قد استطاع أن يشكل حكومة للتحالف مع التيارات الدينية المتطرفة أمثال سموتريتش، زعيم “حزب الصهيونية الدينية”، وبن غفير، زعيم “حزب قوة يهودية”، وإعطاء الأخيرين صفة الوزراء مع صلاحيات جديدة تتعلق بدورهم في وزارة الدفاع والأمن الداخلي القومي، فإن إعطاء هذه الامتيازات لهذه القوى الأكثر تطرفا لم يفقدها الشهوة في المزيد من التطرف والعدوانية تجاه الفلسطينيين والطلب المستمر باقتحام المخيمات، ومحاربة ما يسمونه “الإرهاب الفلسطيني”، وهذا جزء من أزمة داخلية، بيد أن أزمة نتنياهو تتعلق أيضا بأزمة القضاء التي أحدثت تصدعاً عالياً في المجتمع الإسرائيلي، وخروج المظاهرات الألفية إلى الشوارع على نحو غير مسبوق، وصدور تصريحات تحذر من حرب أهلية، في ظل عملية استقطاب حادة في الشارع الإسرائيلي ودخول المؤسسة العسكرية على خط الإستقطابات، واستقالة القنصل العام الإسرائيلي في نيويورك، آسان زمير، احتجاجاً على ما يسمى إصلاحات القضاء.
كل ذلك، وغيرها من تداعي الأزمات، قد شكل خياراً لدى نتنياهو وفريقه بالهروب إلى الأمام عبر الإقدام على اقتحام وتدمير المخيم، في محاولة تسكين الحالة الشعبية والتجاذب السياسي والأيديولوجي، ومحاولة لإبعاد شبح انفراط الحكومة من جهة، وازدياد تفسخ المجتمع الإسرائيلي من جهة أخرى، معتقدا أن نتنياهو وفريقه “أن العداء والحرب على الفلسطينيين هو عامل وحدة المجتمع الإسرائيلي، وعامل بقاء الحكومة”.
البعد الاستراتيجي الرؤيوي في اقتحام المخيم:
تعددت الأسباب لدى الكيان، والهدف واحد. فلا يمكن تفسير اقتحام المخيم ببعد واحد، وبمعزل عن الرؤية الاستراتيجية التوراتية في تهويد وضم الضفة باعتبارها “يهودا والسامرة قلب إسرائيل التاريخية”. هذه الرؤية لا ينكرها الساسة الإسرائيليين، لا سيما الصهيونية الدينية والتوراتية، والتي هي اليوم الأكثر هيمنة وتأثيراً على المشهد السياسي الإسرائيلي الرسمي، وكذلك الحال لا ينكرها الساسة العلمانيون المتطرفون أمثال نتنياهو وغيره، لا سيما تصريحاته الأخيرة والواضحة والعلنية بقوله “بأن لا دولة فلسطينية يمكن أن تنشأ”!! وهو الرافض لاتفاق أوسلو مبكرا، والمقاوم لحل الدولتين.
وحين تُرفض كل الحلول المطروحة من قبل الكيان، فإن الحل المقبول لديه يتمظهر في “إسرائيل اليهودية” وقلبها يهودا والسامرة، أي كامل أرض فلسطين. وما معركة جنين إلا في سياق إخضاع الشعب الفلسطيني لهذا الأمر الواقع والقبول بالكيان الموحد.
هذه الرؤية يجري تطبيقها وفق الظروف المواتية السياسية والأمنية والدولية، وضمن مخططات. ومدايات زمنية، وفقا لنظرية “كل خطوة هي أمر واقع مع الزمن”. وفي هذا السياق تُقام مستوطنات الأمر الواقع على محيط وقلب المدن والقرى الفلسطينية … وفي هذا السياق أيضا يجري اقتحام وتدمير مخيم جنين لكسر إرادة الشعب الفلسطيني التي تتحدى هذه الرؤية.
عقدة المخيم وجنين:
لطالما شكلت المخيمات الفلسطينية معضلة أمنية وسياسية واجتماعية لدى الاحتلال على مدى عقود احتلاله لغزة والضفة، فمن جهة لا زالت المخيمات في الضفة والقطاع وفي الدول العربية تمثل من الزاوية السياسية، الشاهد الأكثر حضوراً وملموسية على مأساة الشعب الفلسطيني، وعلى حضور “قضية اللاجئين” الذي تأسس عليها قرار حق العودة رقم 194، بل إن قضية اللاجئين والمخيمات هي كوجود ظاهر وتأصيل في ذات الوقت لحق العودة سياسياً واجتماعياً. وهذا ما يخلق عملية عداء مستمرة لدى الكيان تجاه هذه الشواهد (المخيمات) على نبض القضية الفلسطينية، وتحول العداء إلى مضمون سيكولوجي عدائي تجاه كل مخيم، لأنه يذكر الكيان بحق العودة الفلسطيني والنقيض لقانون العودة لليهود إلى فلسطين.
وأما من الزاوية الأمنية فالكيان يعتبر أن المخيمات هي خزانات المقاومة في داخل الأرض المحتلة وخارجها، وهي المولدة لطاقات الشباب والأفكار الراديكالية والمقاومة، حيث شكلت ولا زالت هاجسا للأجهزة الأمنية الإسرائيلية، فالأزقة والحواري والشوارع الضيقة، وتراص البيوت لا تستجيب للحاجات الأمنية، مما يجعل الاحتلال معنياً دائماً بالتفكير بإعادة بناء هذه المخيمات وإفساح المجال لحركة مركباته ودباباته وجنوده، كما حصل في السبعينات لبعض مخيمات غزة، وبعدها جنين عام 2002.
إن مخيم جنين ليس بعيدا عن هذه الرؤية “الإزالية” فالاحتلال معنيٌ بتدمير وجرف المخيم أكثر من حرصه على قتل عدة مقاومين. فقتل المخيم، يعني قتل المقاومة وقتل الوعي المقاوم في نفوس أهل المخيم.
وإذا ما أضفنا أن الاحتلال له ثأر تاريخي على مخيم جنين، حيث أقدم مقاومي المخيم على قتل 13 جندي إسرائيلي عام 2002، وتدمير مركبة النمر في المعركة الأخيرة، وخلافه، لأدركنا كم من سبب يدعو الاحتلال لتدمير وتجريف المخيم الذي تحول إلى رمز المقاومة وعاصمة المقاومة، وإشعاع النصر القادم.
رسائل تحذير للسلطة، وتحدي شكلي لأمريكا:
وبقدر ما حملت معركة جنين من غايات سياسية واستراتيجية إسرائيلية فإنها في ذات الوقت حملت رسائل متعددة وواضحة ومباشرة إلى السلطة الفلسطينية مفادها بأن السلطة حين تفقد دورها في مواجهة ما يسمى بالإرهاب الفلسطيني فإن الجيش الإسرائيلي هو بديلها في محاربة ظواهر المقاومة، وأنه قادر على دخول كل المدن والقرى الفلسطينية دون حد أدنى من الاعتبار للسلطة، وليذكرها بأنها عاجزة عن القيام بدورها المناط بها، وعليها أن تختار بين تحمل مسؤولياتها في مقاومة “الإرهاب الفلسطيني”، أو تبقى سلطة ضعيفة وآيلة للسقوط، او أن وجودها سيبقى شكلياً، دون أي نوع من السيادة الأمنية.
وبالرغم من أن دور السلطة كان دوراً يفقدها شرعيتها الوطنية، كونها لم تسعى او تبادر بالدفاع عن المخيم عبر أجهزتها الأمنية التي يفوق تعدادها عن سبعين ألف شخص، واكتفت بالتصريحات والإدانات ونشرات الأخبار والإعلام المندد على شاشات الفضائية الفلسطينية، وهذا لا يلبي شرط الوطنية حين يتعرض المخيم للاقتحام والتجريف والإزالة. الأمر الذي وضع السلطة امام شعبها في الزوايا الحرجة والضيقة … والتي أدت على طرد قيادات السلطة من مشهد تشييع الشهداء. بالرغم من ذلك فإن هذا الدور الباهت والمتفرج لم يكن ليرضي الاحتلال.
أما الرسالة الثانية فهي الموجهة الى الولايات المتحدة الأمريكية، رسالة تحدي للضغوطات الأمريكية والانتقادات من بعض المسؤولين الأمريكيين. وإنها لا تكترث لهذه التصريحات الأمريكية ولن تتوقف عن مطارده الفلسطينيين وإقامه المستوطنات. ولعل ردود فعل بن غفير الأخيرة على تصريحات بايدن بالقول “بان اسرائيل دوله مستقله وأنها ليست نجمه في علم أمريكا وعلى بايدن أن يفهم ذلك”، وكذلك الحال قول نتنياهو “بان اسرائيل دوله ذات سيادة لا تتخذ القرارات بناء على الضغوطات من الخارج”، تجيب على شكلية التحدي للولايات المتحدة من المتطرفين الإسرائيليين، في حين أن الكيان بكل نخبه السياسية يدرك أن العلاقة مع امريكا هي “علاقة وجود” والخلافات لا تعدو الا سحابه صيف لا تسقط مطراً.
نتائج ومسؤوليات وطنية:
بمعزل عن كل الاحداث المباشرة والاستراتيجية في اقتحام المخيم كسياسه متبعه من الاحتلال، فإن هذه الغايات ليس بالضرورة أن تتحقق بمجرد إعلانها مباشره او أنها اهداف مضمرة … فقد أثبتت معركه مخيم جنين وصموده وشجاعة مقاوميه وعدم انتصار الجيش الإسرائيلي، على الاقل في تحقيق هدفه المباشر وهو “استعادة قوة الردع”، فإن حساب الحقلة لم يأتِ على حساب البيدر …!
وعليه فان صمود المخيم لا يمكن اعتباره الا انتصارا في سياق مقاومة مستمرة، وفي سياق معركة واحدة سوف تتعدد ما دام هناك احتلال.
ان هذه المعركة تضع كافة الفصائل أمام مسؤولياتها الوطنية في المقاومة، والتي تفرض عليها السعي الجاد نحو خلق “جبهة مقاومة ضد الاحتلال” وفق برنامج كفاحي يستهدف إحداث القلق الوجودي اليومي للاحتلال، بما لا يجعل الكيان يعيش أدنى حد من البحبوحة الأمنية … ومن جهة بما يعزز من إمكانيه طرد الاحتلال من الضفة والقطاع.