الارتدادات العكسيّة للغزو الرّوسي لأوكرانيا، ألمانيا نموذجاً

الارتدادات العكسيّة للغزو الرّوسي لأوكرانيا، ألمانيا نموذجاً

ماجد كيالي

 ٢١-٥-٢٠٢٢م

يمكن اعتبار التحول الحاصل في السياسة الألمانية أبلغ مثال على الارتدادات العكسية للغزو الروسي لأوكرانيا، كما على التقدير الخاطئ للموقف الذي قاد الرئيس فلاديمير بوتين لاتخاذ قرار الغزو لذلك البلد، بذرائع مختلفة.

إن أي مراجع لتلك الذرائع، أو الادعاءات، قد يصاب بالحيرة، فهي تشمل الدفاع عن الأقلية الروسية المضطهدة في إقليم دونباس (حيث ثمة إقليمان منفصلان منذ عام 2014)، والقضاء على القوى النازية المتحكمة بأوكرانيا، والحؤول دون انضمامها إلى الناتو، أو دفع الناتو بعيداً من الحدود الروسية، كما لمحاولة بناء نظام عالمي جديد، متعدد الأقطاب، يحفظ لروسيا مكانتها.

إزاء كل ذلك، يمكننا أن نلاحظ تطور الموقف الألماني أو تحوّله تحولاً ملحوظاً ومثيراً، إذ تعاطت ألمانيا، في البداية، بحذر بالغ مع احتمالات غزو أوكرانيا، التي كانت تؤكدها دوائر الاستخبارات الأميركية، والتي كانت روسيا ترد عليها، بادعاء أن جيشها يقوم بمجرد مناورات عسكرية روتينية على الحدود الروسية ـ الأوكرانية، والبيلاروسية ـ الأوكرانية.

ومعلوم أن المستشار الألماني ذاته ذهب للقاء بوتين في موسكو لاستكشاف الحقيقة بنفسه، في أواسط شباط (فبراير) الماضي (أي قبل الغزو بعشرة أيام)، ووقتها كانت ألمانيا قد اكتفت بإرسال خوذ وملابس ولوازم مدنية للجيش الأوكراني استجابة لمطالبات الولايات المتحدة الأميركية بضرورة تقديم الدعم لأوكرانيا، إلى جانب تحذيرها روسيا من مغبة غزو أوكرانيا.

هكذا، فبعد قيام روسيا بغزو أوكرانيا، تغير الموقف الألماني تماماً، وأضحت ألمانيا (مع فرنسا)، بمثابة رافعة للموقف الأوروبي المناهض والمدين للغزو. وفي ذلك، مثلاً، فقد اتجهت الحكومة الألمانية، الائتلافية، نحو اتخاذ قرار تاريخي، يقضي بزيادة موازنتها للإنفاق العسكري، بمقدار الضعف تقريباً لتصبح مئة مليار دولار في السنة (2 في المئة من ناتجها القومي وهو 5 آلاف مليار دولار سنوياً) بدلاً من 56 مليار دولار، وهو مبلغ يزيد عن الموازنة الروسية بمرة ونصف، والتي تقدر بـ65 مليار دولار، علماً أن موازنة الولايات المتحدة للإنفاق العسكري بلغت 800 مليار دولار لعام 2021، وهي 3.7 في المئة من ناتجها السنوي، والصين 293 مليار دولار، والهند 76 مليار دولار.

ويجدر التذكر هنا أن ألمانيا، قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، كانت ترفض المطالبات الأميركية بزيادة إنفاقها على الأمن والدفاع، بدلاً من الاتكاء على إلقاء عبء الدفاع عن الدول الأوروبية على حلف “الناتو”، الذي تتحمل الولايات المتحدة فيه العبء الرئيسي، وهذا تحول تاريخي في ألمانيا بالقياس إلى أنها اعتمدت منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية سياسة التقليل من العسكرة والتسلح، للتركيز على الاقتصاد والتكنولوجيا.

وكانت الخطوة الاستراتيجية التالية تجميد خط الغاز (نورد ستريم 2)، لتقليل الاعتماد على الغاز الروسي، وصولاً إلى الانتهاء من واردات الغاز من روسيا، كي تتحرر من أي ضغوط روسية في المستقبل، وهذه الخطوة اتُّخذت بشأن الانتهاء من واردات النفط على المستوى الأوروبي.

أما الخطوة الثالثة وهي المتمثلة بإرسال أسلحة متطورة إلى أوكرانيا فتمت بعد التصويت عليها في البوندستاغ الألماني، أواخر الشهر الماضي، إذ صوّت إلى جانب ذلك القرار 586 عضواً في البوندستاغ مقابل مئة عضو عارضوا تلك الخطوة، التي تضمنت إرسال مصفحات محملة بمضادات دروع، ومضادات طائرات.

من كل ذلك يمكن الاستنتاج أن الغزو الروسي لأوكرانيا، وتدفق ملايين اللاجئين الأوكرانيين إلى الدول الأوروبية، وضمن ذلك إلى ألمانيا، وتحمل الدول الأوروبية مسؤولية الدعم المالي والإغاثي والتسليحي للشعب الأوكراني، هي المسؤولة عن هذا التحول، وعن ذلك التخوف من احتمال نجاح الغزو، أي احتمال أن يكون ثمة ما بعد أوكرانيا، وهي مخاوف ناجمة عن الوعي المختزن في الذاكرة الألمانية، من ذكرى الحروب الماضية، لا سيما الحربين العالميتين.

والمعنى من ذلك أن الخوف من الغزو الروسي لأوكرانيا، هو خوف ألماني، وأوروبي، يطال الحكومات والمجتمعات، أكثر منه استجابة لمطالبات أميركية، على ما يصور البعض، لأن الخطر هو على الدول الأوروبية، وتلك الدول ترى أن روسيا هي مصدر الخطر، وهي المسؤولة، حتى ولو كانت الولايات المتحدة تستفيد من ذلك، أو توظفه لمصلحتها.

بالنتيجة، أي بسبب ذلك الغزو، وذلك التخوف، كان رد الفعل عكسياً، إذ بدلاً من أن يبعد الغزو حلف الناتو عن حدود روسيا، إذا به يجعله قرب الحدود الروسية، من الشرق، لا سيما مع انخراط الناتو بدعم الجيش الأوكراني، وصد الغزو الروسي، كما في مطالبات السويد وفنلندا الانخراط في حلف الناتو.

أيضاً، فإن تلك الحرب من الناحية الألمانية، تبعاً لكل ما تقدم، أيقظت الروح العسكرية الألمانية، للمرة الأولى منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، وفوق كل ذلك فهي عززت اعتمادية أوروبا وألمانيا على الولايات المتحدة، فيما قوّضت كل العلاقات التي كانت تربط الدول الأوروبية بروسيا.

 

 

Залишити відповідь

Ваша e-mail адреса не оприлюднюватиметься. Обов’язкові поля позначені *