التداعيات القانونية والسياسية لقرار محكمة العدل الدولية الخاص بدعوى الابادة الجماعية الاسرائيلية في قطاع غزة

التداعيات القانونية والسياسية لقرار محكمة العدل الدولية

التداعيات القانونية والسياسية لقرار محكمة العدل الدولية

الخاص بدعوى الابادة الجماعية الاسرائيلية في قطاع غزة

أيمن أبو هاشم

31/1/2024

سبق أن تباينت التوقعات والتقديرات، بما سيكون عليه قرار محكمة العدل الدولية، بخصوص دعوى جنوب افريقيا في مواجهة إسرائيل. سرعان ما أثار القرار رقم /192/ بعد صدوره عن المحكمة بجلستها المنعقدة بتاريخ 26/1/2024، جدلاً واسعاً بشقيه القانوني والسياسي، لم يقتصر على أصحاب الاختصاص، والنخب المثقفة والسياسية، بل أصبح تقييم هذا القرار من حيث قيمته القانونية وآثاره العملية، مادة ساخنة للنقاش والسجال العام، مع ظهور تفسيرات متباينة لما ورد فيه، نَحتْ بعضها إلى اعتباره بلا جدوى من الناحية الواقعية، طالما لم يرد النص على “وقف فوري لإطلاق النار” ضمن التدابير الاحترازية الستة، التي وافقت عليها المحكمة. لعلَّ من استخلصوا موقفاً سلبياً من القرار، بناءً على هذا الفهم الاختزالي والتأويلي والتشاؤمي له، دون قراءة الطلبات والآثار القانونية بالغة الأهمية في محتويات القرار، ودوره في فتح أفق جديد للمعركة القانونية مع الاحتلال الإسرائيلي، ما يزيد من الدوافع المعرفية لتوضيح القيمة النوعية الكبيرة، التي ينطوي عليها القرار الصادر عن أعلى جهة قضائية في العالم، وتداعياته القانونية والسياسية على مسارات الصراع، بين الجبهة العالمية المناصرة للحق الفلسطيني، وجبهة داعمي وحلفاء إسرائيل المتهمة بما يرقى إلى ارتكاب جرائم إبادة جماعية في غزة.

أن يأتي القرار بعد مضي 112 يوماً من العدوان الإسرائيلي على غزة، وبعد أن وصل عدد ضحايا العدوان والمخاسر البشرية والمادية الناجمة عنه، حداً كارثياُ لا يمكن وصفه بلغة الأرقام والتقارير الإحصائية. ما يوجب علينا أن نقدر صعوبة رضى الغزيين الواقعين بين مطارق جحيم الإبادة ويومياتها الدموية، عن قرار من هذا النوع يدعو إلى وجوب حمايتهم إنسانياً، وتدارك خطر الإبادة قبل أن يصبح متعذراً إصلاحه بحق الأحياء منهم. لكنه بالنسبة إليهم لا يجيب عن سؤالهم الضاغط: حول ميعاد الوقف الفوري والشامل للعدوان الإبادي الذي يتعرضون له؟ وهو السؤال الطاغي على تفكيرهم دون منازع. وحيث أن القرار لا يجيب عليه بدقة ويقين، ما يصدهم عن الدخول بتفاصيله وتضميناته، التي تحمل إجابات معلقة على سيف الوقت الذي يقضُ مضاجعهم. مع ذلك لا بد من إظهار بشائر الأمل والمتاح التي يحملها القرار لجهة اشتراطه إيقاف أعمال الإبادة، التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي في غزة؛ بوجوب امتثاله لوقف اعتداءاته الحربية منذ لحظة صدور القرار.

ثمة ما يدعو إذاً إلى إزالة جوانب الخلط والالتباس، التي حافت بعض القراءات والآراء في تناولها مضمون القرار. وتبيان ما ينبغي البناء عليه من خلال القيام بخطوات لاحقة، تستكمل ما يتعلق بكيفية إلزام إسرائيل بتنفيذ القرار. إلى الوقوف على تداعياته السياسية وما يمكن أن يحدثه من تغييرات سواء في مواقف الدول الداعمة لإسرائيل من جهة، وفي المواقف والتحركات العالمية المساندة للقضية الفلسطينية من جهة أخرى.

يَعرفْ المختصون والناشطون في حقل القانون أكثر من غيرهم، مدى تأثير الضغوط والظروف السياسية على القضاة، لا سيما حين يكونوا أعضاءً في أعلى محكمة دولية، تتصدى لدعوى تتعلق بأكبر قضية تشغل الرأي العام العالمي كقضية فلسطين وشعبها، وفي مواجهة أعتى استثناء غير مشروع تمثله “القوة الإسرائيلية وأذرعها المهيمنة عالمياً”. مع ذلك فاجأ القرار أكثر اليائسين والمحبطين من أداء المؤسسات الدولية، بعد أن اتضح تمسك قضاة المحكمة، بالسير على هدى ضميرهم المهني، ورفض الانصياع للضغوط السياسية، التي حاولت ثنيهم عن التوصل إلى الصيغة التي خرج بها القرار، بأغلبية تصل إلى شبه الإجماع عليه. ما حدا بالكثيرين من فقهاء القانون الدولي، إلى اعتبار الدعوى التي قدمتها جنوب أفريقيا، بأنها أنجح دعوى لمحكمة العدل منذ نظرها في دعوى ألبانيا ضد المملكة المتحدة عام 1947.

القيمة القانونية للقرار

يمكننا تكثيف الأهمية النوعية والقانونية للقرار من النواحي التالية:

أولاً: إنَّ رفض المحكمة في قرارها الأخير، الطلبان المقدمان من فريق الدفاع الإسرائيلي في جلستها بتاريخ 12/1/2024، والمتعلقين بعدم قيام المحكمة باتخاذ التدابير الاحترازية التي طلبتها الجهة المدعية، وعدم نظر المحكمة في أساس القضية المرفوعة عليها من جنوب أفريقيا، وإزالتها من القائمة العامة. بالمقابل موافقة المحكمة على اختصاصها النظر في القضية، وذلك بموجب الأسانيد القانونية التي ذكرها القرار سواء ما يعود منها إلى (المادة 9) من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، أو (المادة 41 فقرة 1) حول حقها باتخاذ تدابير احترازية وطارئة. يترتب على ذلك نسف كل الرواية الصهيونية التي تبرر جرائم الجيش الإسرائيلي في غزة على أنها ضمن ” حق الدفاع عن النفس”، وتقويض مزاعم القيادات الإسرائيلية عن التزام جيشهم في غزة باتفاقيات “القانون الدولي الإنساني”. لم تتأخر تعبيرات الغضب والاستياء من رفض المحكمة لطلبات الفريق الإسرائيلي، حتى انهالت على لسان نتنياهو وحكومته، اتهامات مشينة بحق المحكمة، من عيار وصفها ب ” العداء للسامية، ودعم الإرهاب الحمساوي، والكذب والنفاق على حساب الشعب اليهودي الخ.. “.

ثانياً: تشمل التدابير الاحترازية الستة، التي وردت في منطوق قرار المحكمة المطالبات التالية:

  1. منع أي أعمال يمكن اعتبارها إبادة جماعية؛
  2. ضمان عدم قيام الجيش الإسرائيلي بأي أعمال إبادة؛
  3. منع ومعاقبة أي تصريحات، أو تعليقات عامة يمكن أن تحرض على ارتكاب إبادة جماعية في غزة؛
  4. اتخاذ جميع الإجراءات لضمان وصول المساعدات الإنسانية؛
  5. عدم التخلص من أي دليل يمكن أن يستخدم في القضية المرفوعة ضدها؛
  6. تقديم تقرير للمحكمة خلال شهر للتأكد من مدى تطبيق إسرائيل لهذه التدابير الطارئة.

وفق منطوق القرار يجب أن يتم “بأثر فوري” ضمان عدم قيام القوات الإسرائيلية بارتكاب أي من الأفعال المنصوص عليها في المادتين الثانية والثالثة من اتفاقية الإبادة الجماعية. أما عدم ذكر وقف إطلاق النار صراحةً من بين هذه التدابير، مع أنه من أول طلبات جنوب أفريقيا، ولو شمله القرار لكان ذلك أقوى وأكثر طمأنةً للمدنيين في غزة. لكن ذلك لا يقلل من قيمة القرار وآثاره العملية المباشرة. فمن الناحية الزمنية، على الجيش الإسرائيلي أن يتقيد بتنفيذ هذه التدابير منذ صدور القرار، ومهلة الشهر التي على إسرائيل أن تقدم بموجبها تقريراً عن مدى امتثالها بالبنود الستة، تعني بوضوح الوقف الفوري للانتهاكات كافة التي تقوم بها قواتها في غزة، ولا يمكن تصور قيامها بذلك دون وقف اعتداءاتها الحربية على غزة، ما يجعل مطالبة القرار بوقف الإبادة، مقترناً بصورة عملية بوقف إطلاق النار.

ثالثاً: مطالبة المحكمة حركة حماس والفصائل الأخرى بإطلاق سراح الرهائن المحتجزين بصورة فورية، دون تجريم حماس بتهمة “الإرهاب” كما تكرر في طلبات الدفاع الإسرائيلي، يؤكد بوضوح على رفض المحكمة الانجرار إلى محاولات تسييس مفهوم الإرهاب، وإسقاطه على حركات المقاومة الفلسطينية. بل إن المحكمة التزمت باتفاقية نيويورك لمناهضة أخذ الرهائن لعام 1979. بنفس الوقت الذي لم تخالف فيه مقررات سابقة للجمعية العامة للأمم المتحدة (تعترف بشرعية نضال الشعوب من أجل الاستقلال والسلامة الإقليمية والوحدة الوطنية والتحرر من السيطرة الاستعمارية والأجنبية والاحتلال الأجنبي بجميع الوسائل المتاحة بما في ذلك “الكفاح المسلح”). واتساق قرار المحكمة، مع عدم جواز تذرع الاحتلال بحق الدفاع عن نفسه في الأراضي الخاضعة لسيطرته. علاوةً على ذلك يفتح القرار فرصة مهمة، لإعادة تعريف الوضع القانوني للفلسطينيين القابعين في سجون الاحتلال، ممن ينطبق عليهم وصف الرهائن المختطفين، أكثر من وصف الأسرى والمعتقلين، وهي من الجوانب التي تحتاج إلى جهود قانونية فلسطينية، لكشف انتهاكات الاحتلال، وممارساته بحق آلاف الفلسطينيين المهددين فعلياً بالتصفية والإبادة في السجون الإسرائيلية.

رابعا: تنفيذ التدابير الاحترازية الستة لا يتوقف على الطرف الإسرائيلي فحسب، وإنما هو التزام يقع على عاتق كافة الأطراف الموقعة، على اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، ما يعني وفقاً لذلك، أن الدولة المصرية على سبيل المثال وليس الحصر، باتت ملزمة بإدخال المساعدات المطلوبة لقطاع غزة من معبر رفح الذي تسيطر عليه، حتى لو رفضت إسرائيل هذا التصرف واحتجت عليه. ونص المادة التاسعة من الاتفاقية يؤكد على التزام كافة أطرافها المتعاقدة، بمنع الانتهاكات التي تخرق المادتين (2و3) من الاتفاقية. بناءً على ذلك فإن استمرار الدول الحليفة لإسرائيل بتقديم أي دعم عسكري وتسليحي للجيش الإسرائيلي، يعتبر انتهاكاً فاضحاً لتلك الاتفاقية، ويضع الدول التي تتحدى قرار المحكمة، أمام تهمة المشاركة في تسهيل أعمال الإبادة.

خطوات استكمال تطبيق القرار

 قوة القرار في استكمال إجراءات تطبيقه، ومن التفاؤل المفرط اعتباره نصراً قانونياً حاسماً بحد ذاته، لأن قيمته وقوته في أن يشكل سلاحاً ضاغطاً لإجبار إسرائيل على وقف نهجها الإبادي في غزة، سيتوقف على جملة من الإجراءات والترتيبات القانونية والدبلوماسية والسياسية. من أهمها تعزيز دعوى جنوب أفريقيا بانضمام عدد من الدول الراغبة إليها، بما يخدم تنظيم وتصعيد الجهود القانونية لإثبات إدانة إسرائيل في دعوى الأساس المرفوعة أمام المحكمة. فضلاً عن تفعيل المادة (8) من اتفاقية الإبادة لجماعية، التي تطالب الدول الموقعة عليها، اللجوء إلى أجهزة المجتمع الدولي ومؤسساته لتطبيق التدابير الاحترازية الواردة في القرار، في حال عدم قيام إسرائيل خلال مهلة الشهر الممنوحة لها، بوقف كل الأعمال التي تندرج في نطاق المشاركة والتحريض على الإبادة. بالتوازي مع البدء بالتحضيرات الدبلوماسية والقانونية، لعرض القضية على مجلس الأمن، وفي حال استخدام الفيتو من أمريكا، وهو المتوقع في كل وقت، الذهاب إلى الجمعية العامة وتفعيل القرار 377 الاتحاد من جل السلام، بهدف إنشاء قوات دولية وفق الفصل السابع، تقوم بتنفيذ التدابير الاحترازية بقرار دولي واضح. بالتلازم مع تلك الخطوات، الاستفادة من القرار لرفع دعاوى بحق القيادات الإسرائيلية المتورطة، أمام محكمة الجنايات الدولية، كما يسعى إليه اليوم مئات المحامين الأحرار من فرنسا وتشيلي. من المتوقع في ضوء ذلك تزايد مثل هذه الدعاوي، وتقديمها حتى في الدول التي تتبنى مبدأ الاختصاص القضائي العالمي، كما جرى مؤخراً في سويسرا، التي أقامت فيها منظمات حقوقية دعوى بمواجهة الرئيس الإسرائيلي، أثناء تواجده في قمة دافوس في سويسرا مؤخراً.

من ناحية التداعيات السياسية للقرار: يسهم بدوره في انكشاف صورة إسرائيل الحقيقة أمام العالم، وجعلها “دولة منبوذة”، ما يفرض على داعميها وحلفائها، تغييراً في سياساتهم الداعمة لها، كي لا تصيبهم وصمة عار إدانتها على الساحة الدولية. إذ كلما خسرت إسرائيل على الجبهة القانونية، سيتداعى عن ذلك تراجعها المضطرد على الساحة السياسية، وفي حقيقة الأمر أصبح الموقف من غزة وفلسطين، بمثابة المحك الأخلاقي وامتحان مصداقية، كل من يزعمون ثقتهم بالشرعية الدولية واحترام قراراتها. بدأنا نلحظ إثر صدور القرار تغيرات في مواقف بعض الدول المنحازة والداعمة لإسرائيل، ومن بينها ألمانيا التي طالبت بعد يوم من صدور القرار بإقامة هدنة لإدخال المساعدات الإنسانية العاجلة إلى غزة. ورغم أنه تغير طفيف في موقفها، غير أنه يعكس صعوبة إغلاق آذان حلفاء إسرائيل، عن صوت العدالة الدولية، خشية انفضاح ازدواجية مواقفهم السياسية.

 من مقلبٍ آخر يشكل القرار حافزاً معنوياً كبيراً لقوى التضامن العالمية مع فلسطين، لتصعيد أشكال حراكها بمختلف مستوياته وتعبيراته، وتنظيم جهودها لتشمل أشكال متعددة من مقاطعة البضائع والأنشطة الإسرائيلية، كالمقاطعة الفنية والرياضية. وفيما يشهد العالم على وقع حرب الإبادة في غزة، زخماً واسعاً في حملات التضامن والمناصرة مع فلسطين، فإن القرار الأخير من شأنه كذلك تأطير تلك الحملات في تكثيف الضغوطات السياسية على الحكومات الغربية، كي تتوقف عن مساندة السلوك الإسرائيلي، وتحميل كل من يدافع عن طبيعته العدوانية ثمناً باهظاً.

أخيراً: كيما تتفاعل تلك الجهود وتتكامل على المسرح الدولي، لا بد من توافق الجامعة العربية على رؤية سياسية وقانونية موحدة، تسهم في دعم جهود جنوب أفريقيا، واستكمال المعركة القانونية أمام محكمة العدل، وكافة المنصات القضائية والدبلوماسية الأخرى. ما يستوجب بالضرورة أيضاً، قيام كافة الأطر الفلسطينية الرسمية والفصائلية والمدنية، بالتوافق على خطة وطنية استراتيجية، تتقاطع وتتكامل مع الجهود العربية والدولية، وتؤطر الكفاءات القانونية والمدنية الفلسطينية، بما يخدم متطلبات ولوازم خوض المعركة القانونية بكل مسؤولية واقتدار.

Залишити відповідь

Ваша e-mail адреса не оприлюднюватиметься. Обов’язкові поля позначені *