المحصلة المآساوية للحركة الوطنية الفلسطينية

المحصلة المآساوية للحركة الوطنية الفلسطينية

ماجد كيالي*

يوجد لدى الفلسطينيين نقاشات كثيرة وحامية ومريرة في شأن أوضاعهم، وخياراتهم ومصائرهم. وهم اعتادوا على ذلك منذ حوالي مئة عام. لكن مشكلتهم أن قليلا من النقاشات هذه واضح وصريح وواقعي، فيما تتحكم الفصائل، وخاصة “فتح” و”حماس”، وبدرجة أقل كثيرا فصائل “اليسار” (خاصة الشعبية والديمقراطية)، في معظم النقاش السائد وهو نقاش موارب، ولا يصل إلى أي نتيجة، إذ هو يتوخى، فقط، تغطية تجربة تلك الفصائل، بكل الثغرات والمشكلات والنواقص المتضمنة فيها، وتبرير اخفاقاتها، بدل كشفها ونقدها.

مثلا، يغفل ذلك النقاش مبرر وجود كل تلك الفصائل، لاسيما أن كثيرا منها لم يعد له مكانة تمثيلية لدى الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، ولا مكانة في الكفاح ضد إسرائيل، ولا في أي شكل، لا سلمي ولا عسكري، كما ان معظم الفصائل لم يعد لها هوية فكرية أو سياسية تميزها. أيضا، فإن الفصائل الموجودة بات لها من العمر أكثر من نصف قرن، أي إنها شاخت أو استُهلكت، أو لم يعد لديها ما تضيفه. بل إن القواعد أو المبادئ التي قامت عليها انتفت تماما، فالكفاح المسلح من الخارج لم تعد متاحا، وتم استبعاد اللاجئين من المعادلات السياسية. أما منظمة التحرير فباتت على الهامش، ثم إن أهم فصيلين تحولا إلى سلطة كل في إقليمه (حيث “فتح” في الضفة و”حماس” في غزة) برغم استمرار الاحتلال. وقد اختُزلت الحقوق الفلسطينية إلى إقامة دولة في جزء من أرض لجزء من شعب مع جزء من حقوق.

ما تقدم هو دلالة على أزمة العمل الوطني الفلسطيني، بيد إن تلك الأزمة لا تتعلق فقط بالشرعية أو بالاختلاف أو بالانقسام ولا حتى بتغيير شكل كفاحي لصالح شكل أخر. إنما هو دلالة على أزمة عميقة وشاملة تطال الخطابات والكيانات وأشكال العمل والعلاقات الداخلية.

والمعنى من ذلك أن أزمة العمل الوطني الفلسطيني لم تبدأ اليوم، ولا مع الانقسام بين “فتح” و”حماس”، ولا مع اتفاق أوسلو. فهذه كلها تجليات لتلك الأزمة التي بدأت مبكرا، مع إنجاز الحركة الوطنية الفلسطينية ما تستطيع، بإمكانياتها الذاتية، في سنواتها الأولى، من منتصف الستينيات إلى منتصف السبعينيات، وهو ما تمثل في استنهاض شعب فلسطين، وتوحيده في كيان سياسي هو منظمة التحرير، وفي فرض قضية فلسطين في الأجندة العربية والدولية، بدلالة أنه بعد ذلك لم يُضَف أي شيء يذكر، كإنجاز وطني، باستثناء حالة الانتفاضة الأولى (1987ـ1993)، لكن هذه وليدة تجربة الداخل، مع كل التقدير لتأثير الحركة الوطنية الفلسطينية في الخارج، إلا ان ذلك التأثير، أو الاستثمار، كان سلبيا، كما جرى في اتفاق أوسلو (1993).

وثمة ملاحظة مهمة هنا مفادها أن الحديث عن العودة إلى “الوطن”، هو حديث يحجب استلاب روح منظمة التحرير، أو تجويفها، بتحويلها إلى سلطة، وتحويل المناضلين إلى موظفين، في أجهزة مدنية أو أمنية، تحت هيمنة الاحتلال، والأهم من كل ذلك إن تلك “العودة”، إلى الضفة وقطاع غزة، تمت إلى أرض لم تكن محتلة لدى انشاء تلك الفصائل.

أيضا، فإن الحركة الوطنية الفلسطينية التي انطلقت من فرضيات تتعلق باعتبار فلسطين هي القضية المركزية للأمة العربية، لكن تلك الفرضية لم تثبت، أو تفككت، في التجربة العملية، وإذا تجاوزنا إشكالية الأمة العربية، التي هي حالة افتراضية، وليس لها دلالة ملموسة في الواقع العربي، فإن الأنظمة العربية تعاملت مع قضية فلسطين بطريقة استخدامية، واستهلاكية، في حين إنها تعاملت مع الفلسطينيين بوصفهم مشكلة أمنية وسياسية وإنسانية، أي ميزت بين القضية واصحابها.

“الحديث عن العودة إلى “الوطن”، هو حديث يحجب استلاب روح منظمة التحرير، أو تجويفها، بتحويلها إلى سلطة، وتحويل المناضلين إلى موظفين، في أجهزة مدنية أو أمنية، تحت هيمنة الاحتلال، والأهم من كل ذلك إن تلك “العودة”، إلى الضفة وقطاع غزة، تمت إلى أرض لم تكن محتلة لدى انشاء تلك الفصائل”

وفيما بعد، انتقلت من التوظيف إلى اللامبالاة، ثم تجلى ذلك في ذهاب بعض الأنظمة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، بمستويات مختلفة، من دون أي مقابل إسرائيلي لصالح الفلسطينيين، بحيث تم تقويض فرضية فلسطينية أخرى، عن أن فلسطين هي بوابة السلام، أو هي بمثابة جسر، بين العالم العربي وإسرائيل.

على الصعيد الدولي لم يكن الوضع أفضل، إذ بعد انتهاء عالم القطبين، وانتهاء الحرب الباردة، وهيمنة الولايات المتحدة على النظام الدولي، تراجعت قضية فلسطين في سلم الأولويات الدولية، بل إن عديد من الدول التي كانت صديقة لفلسطين باتت ترتبط بعلاقات متميزة ووثيقة بإسرائيل، بفضل مكانتها، وتقدمها التكنولوجي، وهذا ينطبق على روسيا والصين والهند ودول أفريقية.

باختصار، فإن العمل الوطني الفلسطيني، بعد 58 عاما، وصل إلى حصيلة صفرية في صراعه مع إسرائيل، وعلى كافة الأصعدة، إن لم يكن أقل من ذلك، رغم كل المعاناة والتضحيات والبطولات التي بذلها الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده، وهذا يشمل الافتقاد إلى بيت وطني جامع، وتفكك مفهوم وحدة الشعب الفلسطيني، والانزياح عن السردية الجامعة المتأسسة على النكبة (1948).

لكن أخطر ما في تلك المحصلة أن الفلسطينيين لم يعد لديهم شيء يراهنوا عليه في ظل الفصائل السائدة، وسلطتي الضفة وغزة، بل والمشكلة أن القيادة الفلسطينية، والطبقة السياسية المهيمنة، في المنظمة والسلطة، باتت تقف حجر عثرة للحؤول دون تغيير هذا الواقع، وضمنه عمل كل شيء لإضعاف مجتمعات الفلسطينيين، في الداخل والخارج، وترسيخ حال البيروقراطية والفساد في الإطارات والمؤسسات الفلسطينية.

بل ان الرئيس ذاته، وعمره في أواخر الثمانينيات، وهو صاحب القرار، ورئيس السلطات الثلاث في المنظمة والسلطة وفتح، بات له 18 عاما في هذه المناصب أي بما يساوي ضعفي المدة التي قضاها الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (1994 ـ 2004) كرئيس لتلك الكيانات.
أخيرا، هذا مجرد توصيف للواقع الفلسطيني بدون مواربات، لكن الواقع أكثر مرارة من الحديث عنه، أما الحديث عن الامل فهذا قد يفيد لكن في حال تم القطع مع تلك التجربة، أو المرحلة.

*نشرت بالتنسيق مع الكاتب

Залишити відповідь

Ваша e-mail адреса не оприлюднюватиметься. Обов’язкові поля позначені *