المرتزق الطموح

المرتزق الطموح

فراس بورزان*

25/3/2023

مقاتل قومي روسي وموسيقي قومي ألماني

فيلهيلم رتشاد فاغنز أصبح معروفاً لدى كثيرين من غير المهتمين بالموسيقى الكلاسيكية ليس بفضل نتاجه الموسيقي الذي اعتبر امتداداً لمدرسة بيتهوفن الرومانسية، بل بفضل إطلاق يفغيني بريغوجين اسمه على جيشه الخاص من المرتزقة.

المفارقة المثيرة للسخرية أن بريغوجين يقدم نفسه على أنه قومي روسي محافظ، إلا أنه فضل الموسيقي الألماني على كبار الموسيقيين الروس مثل تشايكوفسكي وجلينكا وكورساكوف، كذلك لم يمنعه احتفاء هتلر بفاغنر واعتباره أن أعمال فاغنر تجسيد موسيقي لفكرة التفوق العرقي الآري.

غالباً فكرة فاغنر نابعة من سياسة محاكاة ساخرة وعنيفة يغذيها الاستياء والغضب والخوف، هذه الفكرة يشير إليها إيفان كراستيف في أحد كتبه عن فشل التحول الديمقراطي في دول ما بعد الشيوعية على أنها شكل مفيد من أشكال التقليد للبقاء على قيد الحياة في بيئات معادية، النموذج الذي قلده الكرملين في حالة فاغنر كان نموذج بلاك ووتر للخدمات الأمنية الأميركية التي اشتهرت بسبب عملها في العراق.

المخيلة الروسية في التقليد لم تتوقف عند حدود النموذج الأميركي، توسعت في تطويره بشكل تجاوز حدود النموذج الأصلي لتصبح فاغنر ليست مجرد شركة للخدمات العسكرية والأمنية بل جزء من استراتيجية الحرب الهجينة.

التحول من الخارج إلى الداخل

خلال العقد الماضي طورت روسيا استراتيجية الحرب الهجينة، يمكن اعتبار احتلال القرم هو أول تطبيق ناجح لهذه الاستراتيجية، ضعف الرد الغربي على احتلال القرم أغرى الكرملين بالتوسع من خلال استخدام تكتيكات الحرب الهجينة في سوريا وليبيا وعدة دول إفريقية مثل جمهورية إفريقيا الوسطى ومالي.

تنطلق استراتيجية الحرب الهجينة من إدراكها لمحدودية قدرات وموارد روسيا في مواجهة الولايات المتحدة، وتركز على نهجين رئيسيين هما الدفاع الثابت والهجوم المحدود والنشط، بالنسبة للدفاع الثابت فهو ذو بعد إقليمي قريب معني باتخاذ إجراءات عسكرية وأمنية سريعة لحماية حدود روسيا ونفوذها في محيطها الجيوسياسي، أما الهجوم المحدود والنشط فهو ذو بعد دولي يستهدف دعم أهداف السياسة الدولية الروسية، ويتكون من مزيج من التكتيكات التي تشمل حملات التضليل المعلوماتية التي تستهدف إثارة الفوضى وإضعاف الثقة لدى الرأي العام في الدول الغربية باستخدام ترسانة متنوعة من وسائل الأعلام الموجهة مثل شبكة RT وسبوتنيك، الاختراق السيبراني، وإقامة العلاقات مع سياسيين ونشطاء غربيين من جماعات وأحزاب اليمين المتطرف.

فاغنر لدى تأسيسها كانت جزءا من تكتيكات الهجوم المحدود والنشط، فالكرملين وظفها كأداة فاعلة ومنخفضة التكلفة في السياسة الدولية، دورها الرئيسي تعزيز العلاقات الأمنية الروسية مع الأنظمة الاستبداية أو الحركات المتمردة في الدول الهشة، بالتالي يمكن اعتبارها الذراع الطويلة الخشنة للكرملين في نشاطاته الخارجية.

ساهمت الحرب في أوكرانيا في تغيرموقع فاغنر في استراتيجية الحرب الروسية، حيث غيرت موقعها من نهج الهجوم الدولي إلى نهج الدفاع الإقليمي القريب، وبالتالي انخرطت فاغنر تدريجياً في المعارك إلى جانب الجيش الروسي في الحرب على أوكرانيا، ما أدى إلى تضخم صفوفها واتساع عمليات التجنيد فيها التي أصبحت علنية، رغم مخالفتها القوانين الروسية ذاتها، هذا الانتقال جلب معه أيضاً تنافس غير معلن مع قيادة الجيش الروسي، ما لبثت أن فضحته تصريحات بريغوجين الناقدة لقادة الجيش الروسي ووزارة الدفاع والساخرة منهم أحياناً والمحرضة عليهم أحياناً أخرى.

البحث عن منصب شاغر

حتى الخريف الماضي نفى بريغوجين بإصرار صلته بفاغنر، ووصف وجودها ذاته بأنه مستحيل، مشيراً إلى حقيقة أن القانون الروسي يجرم وجود “شركة عسكرية خاصة” والارتزاق العسكري عموماً. هذا الإنكار تبخر عندما خاطب بريغوجين مجموعة من الصحفيين الروس بالقول “الآن إليكم اعتراف… هؤلاء الرجال الأبطال [مقاتلي فاغنر] … أصبحوا أحد ركائز أمتنا”. في شباط/فبراير الماضي أصدرت الخدمة الصحفية التابعة لبريغوجين بيان صحفي جاء فيه “لقد خططت له، وأنشأته، وكنت أديره لفترة طويلة”. هذا الاعتراف سبقه تاريخ من الإنكار الذي وصل إلى درجة مقاضاة وإدانة لجهات صحفية التي زعمت ارتباط بريغوجين بفاغنر.

اعتراف بريغوجين أخرجه من الظل، ليتزامن افتتاح مقر فخم لشركة فاغنر في مدينة سانت بطرسبرغ مع حضور مكثف له في الإعلام، كما ترددت أنباء عن زيارة له لأحد الأحزاب القومية الروسية، ما جعل البعض في روسيا يتحدث عن طموحات بريغوجين السياسية وفيما إذا كان لديه نية للترشح في الانتخابات القادمة، بعض التخمينات استندت إلى هجوم بريغوجين الشرس على ألكسندر بيغلوف حاكم سانت بطرسبرغ لدرجة اتهامه بالخيانة والمطالبة بمحاكمته.

الضجة التي أحدثها بريغوجين لم يكن صداها محبذاً لدى بوتين، ويؤكد هذا الظن ما نقله سيرجي ماركوف، المحلل السياسي المقرب من بوتين ومستشاره السابق، الذي قال إن المسؤولين كانوا ينقلون توجيهًا للإعلام الروسي الرسمي بأن “لا تروجوا بشكل مفرط لبريغوجين وفاغنر”.

التقط بريغوجين الرسالة وغير استراتيجيته مباشرة، فقام بإعلان أنه ليس لديه أي طموح سياسي، وبدأ يركز ظهوره الإعلامي من خطوط القتال الأولى، ولكنه لم يوقف حملته ضد وزارة الدفاع والقيادة العسكرية الروسية، لدرجة اتهامه القيادة العسكرية بأنها تعرقل تزويد مقاتليه بالذخيرة الكافية، هذا الاتهام ردت عليه وزارة الدفاع بالنفي القاطع، كما ظهر على الإعلام تناقض محرج بين البيانات العسكرية لفاغنر والمتحدث العسكري لوزارة الدفاع حول احتلال مدينة سوليدار.

بريغوجين لا يتصرف كقائد لشركة مرتزقة بل كسياسي، وهو يسعي للخروج من الدائرة غير الرسمية عبر الانضمام إلى النخبة السياسية الرسمية في موسكو، لكن سعيه يصطدم بأنه “لا توجد وظائف شاغرة في السياسة العامة في روسيا اليوم” وفقاً لتعبير ألكسندر كينيف أحد الخبراء في السياسية الروسية، أو بعبارة أخرى لن يقدم بوتين على إحداث تغير عالي المخاطر يخل بتوازن القوى الذي يدير عبره السلطة في روسيا.

 

*نشرت بالتنسيق مع الكاتب

 

Залишити відповідь

Ваша e-mail адреса не оприлюднюватиметься. Обов’язкові поля позначені *