قراءة أولية في التَحولّات “الإسرائيلية” – الجزء الأول

قراءة أولية في التَحولّات “الإسرائيلية”

الجزء الأول

حكومة جديدة واحتجاجات غير مسبوقة

بقلم الأسير: كميل أبو حنيش*

أسفرت المخاضات العسيرة للانتخابات “الاسرائيلية” الخمس المتعاقبة منذ العام 2019 وحتى العام 2022، عن ولادةِ حكومةٍ يمينيةٍ بالكامل، وبالرغم من أن نتيجة الانتخابات الأخيرة لم تكن مفاجئة للكثير من المراقبين، في ضوء تشرذم المعسكر الآخر المناوئ لمعسكر نتنياهو اليميني الذي كان أكثر تراصاً وتنظيمياً، إلا أن الأحداث الأخيرة وما أظهرته من احتجاجاتٍ واسعة النطاق على خطة الإصلاح القضائية، بدت مفاجئة تماماً، وكشفت عن عمق الأزمة الكامنة في بنية الدولة والمجتمع الصهيوني، دفعت العديد من القادة والخبراء والعسكريين للتحذير من إمكانية انهيار الدولة، واندلاع حرب أهلية طاحنة.

لقد نجح نتنياهو في تشكيل حكومته السادسة، بالتحالف مع ثلاثة أحزاب دينية، تحظى بـ64 مقعداً في “الكنيست” الحالية، ووجدت هذه الحكومة اليمينية الفرصة أمامها لإحداث انقلاب جذري في بنية الدولة تطال القضاء والإعلام والثقافة والتعليم والأمن والاقتصاد والتشريع بغية الهيمنة الكاملة على مؤسسات الدولة، وضمان بقاء اليمين في الحكم لسنواتٍ طويلة.

ولم تكد الحكومة الجديدة، أن تَتَشكّل حتى افتتحت عهدها بسلسلةٍ من الأزمات، بدءاً بتشكيل الحكومة ذاتها، وتوزيع الحقائب بين مكوناتها وأعضائها، ومروراً بعددٍ من المشاريع والقرارات الغريبة التي أعلنت عنها، وليس انتهاءً بالإعلان عن خطتها الإصلاحية القضائية التي أسمتها بـ”الثورة القضائية”، والتي أعلن عنها وزير العدل “يريف ليفين” الأمر الذي تسبب بانفجار الأزمة الحالية، ولم تتراجع الحكومة عن خطتها الإصلاحية إلا بعد تصاعد الاحتجاجات في الشارع، وإعلان المئات من الضباط والجنود عن استنكافهم عن أداء الخدمة العسكرية، ووصلت الأزمة إلى ذروتها بعد إقالة “وزير الدفاع”، والإعلان عن الإضراب الشامل الذي شَلّ اقتصاد الدولة ولو ليومٍ واحد.

كانت الحكومة قد حملت بذور أزمتها منذ بداية تشكيلها؛ فالحكومة وإن بدت تشكيلتها في الظاهر يمينية بالكاملة، ومتوافقة في الرؤى السياسية والخطاب والرؤية الأمنية والاستيطان والعلاقة مع الخارج، إلا أن تأخر تشكيلها كشف عن تناقضاتٍ كبيرةٍ بين مركباتها؛ فحزب الليكود الذي يقود الحكومة والذي حظي بـ33 مقعداً في “الكنيست” أي نصف عدد المقاعد الذي حظى بها الائتلاف الحاكم، وجد نفسه محاصراً بعشرات المطالب من جانب الأحزاب الدينية، ولم يجد نتنياهو أمامه إلا الرضوخ لهذه الأحزاب، وألحق هذا الرضوخ ضرراً بحزب الليكود الذي لم يحظَ الكثير من قادته بمناصبٍ وحقائبٍ ملائمة، وأصيب منهم بخيبة أملٍ، وهاجموا نتنياهو علانيةً. وقَبِل البعض بمبدأ تقاسم الحقائب الوزارية مع آخرين ( وزيران للقضاء – وزيران للدفاع – وزيران للمالية – وزيران للخارجية)، وقد حظيت الأحزاب الدينية بموازناتٍ كبيرة، وتولى “سمويترتش” عن الصهيونية الدينية وزارة المالية ووزيراً في وزارة الدفاع، و”بن جفير” وزارة الأمن الداخلي التي بات اسمها ” وزارة الأمن القومي” والذي أعلن عن خطةٍ شاملةٍ للأمن القومي أثارت قلق جهاز الشرطة ومصلحة السجون وسائر الأذرع الأمنية التابعة للوزارة. وتولى “أرييه درعي” زعيم حركة شاس وزارة الداخلية، فسارعت المحكمة لإبطال قرار تعيينه بسبب مخالفاتٍ جنائيةٍ سابقة، علاوةً على تولي “بنيامين نتنياهو” لرئاسة الحكومة، والمتهم بثلاث ملفات فساد على الأقل، من الممكن أن تؤدي به إلى السجن.

إذاً كانت الحكومة بتشكيلتها الغريبة وتوجهاتها ومواقفها، تثير قلقاً واسعاً في الشارع وفي العلاقة مع الفلسطينيين ودول الإقليم ومع العديد من دول العالم، التي أبدت علانيةً خشيتها من هذه الحكومة التي وُصفت باليمينية المتطرفة.

غير أن العامل الذي فجر الأزمة تَمثّل في إعلان وزير العدل “الإسرائيلي” “يريف ليفين”، عن خطته لإصلاح القضاء، والذريعة التي اتخذها الوزير وسائر أحزاب وقادة اليمين، تَتمّثل في اتهام السلطة القضائية بالاستئثار بحيزٍ كبيرٍ وأكثر مما تستحق، وأن هذه السلطة، يهيمن عليها تاريخياً قوىً يسارية وليبرالية لا تسمح لليمين أثناء وجوده في سدة الحكم، أن يُطبق سياساته، وتضع عراقيلاً مختلفةً تحول دون اتخاذ قرارات تخص اليمين وتصوراته وتوجهاته على كافة الأصعدة.

وبحسب الائتلاف الحاكم، فإن خطة الإصلاح القضائية من شأنها أن تعيد التوازن بين السلطات الثلاث.

وما أن أعلن الوزير عن بنود خطته الإصلاحية في يناير هذا العام حتى اندلعت موجة من الاحتجاجات والمواقف السياسية المناوئة للخطة، ولم تلبث أن أخذت بالتصاعد التدريجي، إلى أن وصلت ذروتها في الأسبوع الأخير من شهر آذار، بخروج مئات الآلاف من المتظاهرين إلى الشوارع بعد إقالة وزير الدفاع، إثر دعوته الحكومة بتجميد الخطة، علاوةً على إعلان “الهستدروت” الإضراب، وانضمام عشرات القطاعات الأخرى للإضراب، أثمرت في نهاية المطاف عن تجميد الخطة الإصلاحية.

وترى أحزاب المعارضة ومؤسسات القضاء، وعشرات الأطر المدنية والسياسية والثقافية وقطاعات واسعة من المجتمع، أن الخطة الإصلاحية ما هي إلا انقلاب قضائي يسعى لتكريس حكم اليمين، وإقصاء سلطة القضاء، وتمرير بعض القوانين الشخصية التي تسمح مثلاً “لأدريه درعي” بتولي حقيبة وزارية في مخالفةٍ واضحةٍ للقانون، وتحصين رئيس الحكومة “نتنياهو” من إمكانية العزل السياسي، وتخليصه من المحاكمة والسجن، والسماح له بتلقي الهدايا.

واعتبرت الخطة محاولة للانقضاض على الديمقراطية، وسلطة القانون، الأمر الذي سيترك تأثيره على الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والحريات، وسيتيح للأحزاب الدينية بالتغلغل في مؤسسات الدولة والتأثير على قراراتها، وتقليص مساحة الحياة المدنية والحريات العامة، وتغيير هوية الدولة، ووجهها العلماني، وهو ما سيؤثر في نهاية المطاف على علاقة “اسرائيل” بدول الغرب التي ترى “باسرائيل” الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط.

قلنا أن هذه الأزمة التي تمر بها الدولة العبرية، تعد أزمة غير مسبوقة، من عدة نواحٍ، أولها: حجم الاحتجاجات والتظاهرات الضخمة، وثانيها: الأصوات التي خرجت من بعض الشخصيات الأمنية والسياسية والعسكرية والقانونية المُحذرة من إمكانية اندلاع “حرب أهلية” و”خراب البيت الثالث” وانهيار الدولة، وثالثها: موجة الاحتجاجات التي وصلت إلى الجيش، وإعلان الآلاف من العسكريين الاستنكاف عن أداء الخدمة العسكرية، ورابعها: انكشاف الانقسام الحاد في المجتمع الصهيوني الذي أظهر وجود عدة “مجتمعات اسرائيلية” وليس مجتمعاً واحداً، وخامسها: الخشية من تَحوّل “اسرائيل” إلى دولةٍ فاشية وانسلاخ القشور الديمقراطية والليبرالية والحضارية التي تتباهى بها أمام العالم.

إن ما يجري اليوم من تصدعاتٍ في الدولة الصهيونية، إنما هو ناجم عن تفاقم أزمة الهوية التي تعاني منها الدولة منذ إقامتها، حيث تصارعت مختلف التيارات السياسية والأيديولوجية والطبقية تاريخياً على تشكيل هوية الدولة. ولعل جذر الأزمة يكمن في تعريف “اسرائيل” لذاتها بأنها دولة “يهودية وديمقراطية”، وهذا التعريف الشاذ يلخص جوهر إشكاليتها الوجودية. إذ أن ثمة تناقض صارخ بين المكونين: الديمقراطي واليهودي، أما صيغة التزاوج ما بين المكونين، إنما جاءت لإرضاء كافة الأطراف والمركبات المكونة للمجتمع الاستيطاني الصهيوني، وما تحمله من تناقضاتٍ جوهرية، بين من يسعى لتكريس الطابع العلماني الديمقراطي المدني الغربي للدولة، وبين من يهدف لتعزيز الهوية اليهودية بأشكالها: الدينية – القومية – المحافظة – والعنصرية.

وقد حاولت الحكومة اليمينية الحالية تعزيز الحيز اليهودي بما يحمله من مضامينٍ دينيةٍ وقومية، على حساب الحيز الديمقراطي من خلال تغيير البنية القانونية، وتحويل السلطة القضائية إلى أداة للسلطتين التشريعية والتنفيذية، وضمان حكم اليمين لسنواتٍ طويلةٍ قادمة.

ستحاول هذه السلسلة من الحلقات تحليل الواقع “الاسرائيلي” المتفجر، وقراءة التَحوّلات الجديدة جراء الأزمة الحالية. إن تلاشي ما يُسمى “اليسار الصهيوني” كان أحد الاسباب الدافعة للخطة الإصلاحية، وسنحاول كذلك تشخيص الخطة الإصلاحية إن كانت تُمثل “ثورة قضائية” كما تَدعّي الحكومة، أم “انقلاباً قضائياً” كما تدعي المعارضة. وسنفرد حيزاً لمعالجة جذر الأزمة المُتمّثل بمقولة “اسرائيل دولة يهودية وديمقراطية”، وما تنطوي عليه هذه الصيغة المركبة من تناقضاتٍ كامنةٍ.

وفي كل الأحوال، ورغم إعلان الحكومة عن تجميد خطتها الإصلاحية، فقد دخلت “اسرائيل” خط اللاعودة. كما قال الرئيس “الاسرائيلي” “اسحق هرتسوغ”، مما يعني ولادة مرحلة جديدة في حياة الدولة الصهيونية، مرحلة تنطوي على التخبط والفوضى وغياب الاستقرار وانفجار الأزمات الكامنة، ودخول الدولة مرحلة الانحطاط، ما يسمح بتقويض الدولة من الداخل، ويسهل عملية هزيمتها من الخارج.

 

* عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كاتب وأديب وشاعر، ومفكر فلسطيني

 

Залишити відповідь

Ваша e-mail адреса не оприлюднюватиметься. Обов’язкові поля позначені *