شيفرة البوتينية
مراجعة لكتاب البوتينية: إيديولوجيا النظام الروسي ما بعد الاتحاد السوفيتي، ميخائيل سوسلوف
فراس بورزان – كاتب وباحث في الشؤون الروسية وشؤون أوراسيا
20\12\2024
المقدمة
أصبح من الشائع اختزال البوتينية في كونها مجرد عبادة شخصية حول فلاديمير بوتين أو نظام استبدادي يخدم مصالح نخبة سياسية ضيقة. إلا أن ميخائيل سوسلوف يقدم في كتابه “البوتينية: أيديولوجيا النظام الروسي ما بعد الحقبة السوفيتية مقاربة مختلفة تدعو للتأمل. يبدأ سوسلوف كتابه بتحدي الفرضية التي ترى في البوتينية مجرد نظام سلطوي كليبتوقراطي يفتقر إلى بنية فكرية.
يرى سوسلوف أن البوتينية ليست مجرد مجموعة ممارسات سياسية أو اقتصادية تُفرض من أعلى هرم السلطة، بل هي نظام أيديولوجي متكامل ومرن قادر على التكيف مع التحديات الداخلية والخارجية. يُبرز الكتاب كيف تطورت البوتينية لتصبح أداة فكرية تهدف إلى تقديم رؤية شاملة للمجتمع الروسي وموقعه في النظام الدولي.
يركز الكتاب على سؤال محوري: هل يمكن اعتبار البوتينية أيديولوجيا متماسكة؟ عبر هذا السؤال، يتجاوز سوسلوف السرديات التقليدية التي تقلل من أهمية الأيديولوجيا في الأنظمة السلطوية الحديثة. لا يكتفي الكتاب بوصف سمات البوتينية، بل يحلل الأسس الفلسفية والفكرية التي تستند إليها، ويبحث في دوافع النظام لصياغتها. هذا السؤال يتجاوز الإطار الأكاديمي، إذ يرتبط بفهم أحد أكثر الأنظمة السياسية تأثيرًا على الساحة الدولية اليوم، لا سيما في ظل التحولات الجيوسياسية التي عمّقها غزو أوكرانيا عام 2022.
اختيار توقيت إصدار الكتاب يحمل دلالة خاصة. ففي ظل تصاعد التوتر بين روسيا والغرب، والانتشار المتزايد للخطابات التي تصف روسيا بأنها نظام “غير ليبرالي” أو حتى “فاشي”، يسعى سوسلوف لتقديم قراءة أكثر تعقيدًا للبوتينية. يجادل بأن فهم هذه الأيديولوجيا يمثل مدخلًا ضروريًا لفهم دوافع النظام الروسي وسلوكه في السياسة الدولية. كما يشير إلى أن البوتينية هي نتاج تراكمي لجذور تاريخية وفكرية تعود إلى القرن التاسع عشر، متداخلة مع الإرث السوفيتي وتحولات ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
يدعو سوسلوف إلى التفكير في البوتينية ككيان أيديولوجي يستحق التحليل العميق. يقدم الكتاب ما يمكن وصفه بـ”تشريح الفلسفة السياسية للنظام” (ص 1)، ويبرز أهمية البوتينية في فهم الأنظمة السلطوية الحديثة. كما يسلط الضوء على دورها كأيديولوجيا مرنة تتحدى الليبرالية العالمية، مقدمة نموذجًا بديلًا للعديد من الدول غير الغربية (ص 4).
الجذور التاريخية والفكرية للبوتينية
يضع ميخائيل سوسلوف البوتينية في إطار تاريخي وفكري متماسك يمتد عبر قرون، مازجًا بين التأثيرات السلافوفية في القرن التاسع عشر، والماركسية اللينينية السوفيتية، والتحولات السياسية والاجتماعية ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. حجته الرئيسية أن البوتينية، رغم اعتمادها على خليط هجين من الأفكار المختلفة، تمثل نظامًا أيديولوجيًا مترابطًا ومرنًا يتجنب الجمود الأيديولوجي التقليدي. يعزو هذه المرونة إلى قدرة البوتينية على استيعاب التناقضات وإعادة تشكيل نفسها لخدمة أهداف النظام الروسي في سياقات متغيرة.
يرى سوسلوف أن البوتينية تستمد جذورها من الموروث السلافي-الأرثوذكسي، الذي ركّز على الهوية الثقافية والدينية لروسيا ككيان متميز عن الغرب. يُبرز التأثير العميق لأفكار السلافوفيين، مثل إيفان أكساكوف وأليكسي خومياكوف، الذين شددوا على “الوحدة العضوية” في المجتمع الروسي، حيث تتفوق القيم المجتمعية والدينية على الفردية (ص. 46). وفقًا لسوسلوف، يتجلى هذا الموروث في خطاب البوتينية الذي يمجد “القيم التقليدية” ويؤكد على هوية روسيا كحضارة ذات رسالة عالمية.
يفرد سوسلوف مساحة لمناقشة تأثير إيفان إيليين، الذي يُعتبر أحد المفكرين البارزين في تشكيل الأيديولوجيا البوتينية. يرى سوسلوف أن إيليين صاغ إطارًا فكريًا يدعم شرعية النظام من خلال طرح روسيا كحضارة تتمتع برسالة روحية فريدة. هذه الرسالة، وفقًا لإيليين، تمنح النظام شرعية أخلاقية لترسيخ السيطرة داخليًا والدفاع عن القيم التقليدية عالميًا. يعزو سوسلوف إعادة إحياء فكر إيليين في روسيا المعاصرة إلى محاولة النظام تأصيل هويته الأيديولوجية بعيدًا عن التأثيرات الغربية (ص. 63).
يشير سوسلوف إلى أن البوتينية، مقارنة بالأنظمة الشمولية السابقة مثل الماركسية السوفيتية، أقل ارتباطًا بالجمود الأيديولوجي. السمة البارزة للبوتينية هي مرونتها. يوضح سوسلوف أن النظام الروسي لا يسعى إلى تقديم رؤية شاملة للحياة البشرية، بل يركز على أيديولوجيا وظيفية قادرة على التكيف مع التغيرات. على سبيل المثال، يلفت إلى كيفية توظيف البوتينية لمفاهيم غربية مثل السيادة والتنمية المستدامة في سياقات تخدم مصالحها الجيوسياسية (ص. 10).
يصف سوسلوف هذا النهج بـ”الانتقائية الاستراتيجية”، حيث يستعير النظام عناصر من أيديولوجيات مختلفة ويعيد صياغتها بما يتلاءم مع احتياجاته. هذه الانتقائية تُتيح للنظام مرونة في التعامل مع القضايا المعاصرة، مثل تعزيز العلاقة بين الكنيسة والدولة لمواجهة التحديات الثقافية والاجتماعية، دون التقيد الصارم بأي مذهب فكري (ص. 94). ويرى سوسلوف أن هذه الانتقائية تُميز البوتينية كنظام أيديولوجي متماسك وقادر على الصمود.
على الرغم من هذه المرونة، يجادل سوسلوف بأن البوتينية ليست مجرد خليط من الأفكار، بل نظام أيديولوجي مترابط. يربط هذا التماسك بين القيم المركزية مثل الهوية الوطنية، السيادة، ومعاداة التغريب. تُستخدم هذه القيم كأساس لبناء سردية تبرر سياسات النظام داخليًا وخارجيًا. يبرز سوسلوف مفهوم “العالم الروسي” كمثال، وهو إطار أيديولوجي يُعزز الوحدة بين المجتمعات الروسية ويدعم الطموحات الإمبراطورية (ص. 151).
في معرض تحليله، يفكك سوسلوف حجج الباحثين الآخرين. على سبيل المثال، يتفق مع بريان تايلور في وصفه للبوتينية كمزيج من العادات والأفكار، لكنه يرفض اختزالها إلى “عقلية” فقط، ويؤكد أنها تتجاوز ذلك لتكون نظامًا أيديولوجيًا واضحًا (ص. 214). كما يناقش رؤية مارلين لارويل التي تصف البوتينية بأنها أيديولوجيا “ما بعد ليبرالية”، مشيرًا إلى أن هذا الوصف دقيق لكنه يحتاج إلى تفصيل أعمق لتأثير البوتينية خارج روسيا (ص. 12).
يسلط سوسلوف الضوء أيضًا على تأثير نظريات كارل شميت، خاصة مفهوم السيادة، على البوتينية. يرى شميت أن السيادة تتمثل في قدرة الدولة على اتخاذ القرارات في الأوقات الاستثنائية، وهو ما يُجسده الخطاب البوتيني من خلال تأكيد قدرة الدولة الروسية على حماية سيادتها بمعزل عن الضغوط الدولية. يوضح سوسلوف أن البوتينية تُعيد تفسير مفهوم شميت، مضيفة إليه بُعدًا ثقافيًا وروحيًا يعزز صورة روسيا كحامية للقيم التقليدية (ص. 214).
يشير الكتاب أيضًا إلى التمايز بين البوتينية والماركسية السوفيتية. فبينما سعت الماركسية إلى بناء مجتمع اشتراكي شامل، تعتمد البوتينية على تحقيق توازن بين السيادة الوطنية والاستقرار الداخلي دون مطالب أيديولوجية صارمة (ص. 117).
بهذا التحليل، يقدم سوسلوف البوتينية كأيديولوجيا مترابطة ومرنة. من خلال استعراض التأثيرات التاريخية والمناقشات الفكرية، يُظهر الكتاب البوتينية كنظام سياسي وأيديولوجي معقد، لكنه متماسك. هذا التحليل يجعل الكتاب مساهمة مهمة في فهم أحد أبرز الأنظمة السياسية في المشهد الدولي الراهن.
تفكيك البوتينية
يقدم سوسلوف تفكيكًا دقيقًا لأيديولوجيا البوتينية، كاشفًا عن تعقيداتها ومرونتها في استيعاب عناصر متعددة ومتناقضة. يفترض أن البوتينية، رغم اعتمادها على أدوات أيديولوجية مختلفة، تمثل نظامًا مترابطًا. لكنه يعترف في الوقت ذاته بأن هذا الترابط يقوم على التوفيق بين تناقضات أساسية تُستغل لخدمة أهداف سياسية محددة. يركز تحليله على كيفية توظيف البوتينية للأرثوذكسية المسيحية، والقيم التقليدية، والخطاب المناهض للغرب لتعزيز سلطة النخب والحفاظ على حالة السلبية العامة في المجتمع.
يرى سوسلوف أن البوتينية تعيد تشكيل القيم التقليدية لتصبح جزءًا من خطاب أيديولوجي جديد يخدم النظام. الدين، خاصة الأرثوذكسية المسيحية، يُستخدم كعنصر مركزي يمنح شرعية روحية للنظام. الكنيسة الأرثوذكسية، التي عزز النظام علاقته بها، تُقدَّم كحارس للقيم التقليدية ومصدر للهوية الوطنية الروسية. يشير سوسلوف إلى أن الكنيسة ليست مجرد شريك بل أداة لإضفاء طابع أخلاقي على السياسات السلطوية (ص. 234). من خلال هذا، تُصوّر روسيا كحضارة ذات رسالة عالمية لحماية “القيم التقليدية” في مواجهة الليبرالية الغربية.
القيم التقليدية، مثل الأسرة والدين والولاء للدولة، تُستخدم لتعزيز الهوية الوطنية وخلق سردية تبرر سياسات النظام. لكن سوسلوف يشير إلى أن هذه القيم لا تعكس بالضرورة أولويات المجتمع الروسي الحالي، بل يتم ابتكارها لتلبية الاحتياجات السياسية. على سبيل المثال، يُقدَّم الغرب كعدو حضاري يسعى لتقويض الهوية الروسية، مما يعزز الموقف المناهض للغرب ويبرر سياسات الانعزال الجيوسياسي (ص. 151).
يجادل سوسلوف بأن البوتينية تعتمد على تصوير روسيا كحضارة فريدة ذات طابع أخلاقي مميز. هذه السردية ليست مجرد انعكاس للتقاليد السلافوفية، بل تُستخدم كأداة أيديولوجية تمنح النظام مبررًا أخلاقيًا لتحدي النظام العالمي الليبرالي. يُقدَّم النظام كبديل للنموذج الغربي، مما يُتيح له رفض الضغوط الدولية وتعزيز سلطته داخليًا. هذه السردية تُدعَّم بفكرة “السيادة الروحية”، التي تمنح النظام شرعية لتبرير تدخله في شؤون الدول الأخرى كجزء من مهمة أوسع لمقاومة الهيمنة الغربية وحماية القيم التقليدية (ص. 214).
رغم تأكيد سوسلوف على الترابط الداخلي للبوتينية، إلا أنه يعترف بأن النظام يعتمد على التوفيق بين عناصر متناقضة. أحد أبرز هذه التناقضات هو المزج بين خطاب التحديث والابتكار من جهة، وخطاب الحنين إلى الماضي الإمبراطوري من جهة أخرى. يشير إلى أن هذا النهج يخدم أهدافًا سياسية قصيرة المدى لكنه قد يُضعف الأيديولوجيا على المدى الطويل إذا لم يتمكن النظام من إدارة هذه التناقضات بفعالية (ص. 94).
يشير سوسلوف إلى أن البوتينية تعتمد على الانتقائية الاستراتيجية، مما يمنحها مرونة كبيرة لكنها تجعلها أقل اتساقًا. يستعير النظام عناصر من أيديولوجيات مختلفة، مثل القومية، لكنه يضطر إلى قمع النزعات القومية المتطرفة التي قد تهدد الوحدة الوطنية (ص. 27). هذه الانتقائية، رغم فعاليتها السياسية، تُظهر غياب رؤية شاملة ومتسقة.
يجادل سوسلوف بأن البوتينية تمثل أيديولوجيا مترابطة، لكنه يعترف بعناصر انتهازية تُميزها. النظام لا يسعى إلى تقديم رؤية فلسفية شاملة، بل يعمل كأيديولوجيا وظيفية تستجيب للضغوط الداخلية والخارجية (ص. 10). هذا الطرح يثير جدلًا بين الباحثين. بريان تايلور يصف البوتينية بأنها “عقلية” تفتقر إلى الترابط الأيديولوجي الصارم، مشيرًا إلى أنها تعتمد على المرونة بدلاً من العمق الفكري. في المقابل، ترى ماريا ليبمان أن البوتينية لا تقدم رؤية متماسكة بل تستخدم خطابًا متناقضًا يخدم أهدافًا قصيرة المدى، محذرة من أن هذه الاستراتيجية قد تصبح نقطة ضعف إذا فقد النظام السيطرة على هذه التناقضات .
القوة الرئيسية للبوتينية تكمن في قدرتها على التكيف مع التحولات السياسية والاجتماعية. لكن سوسلوف يُحذّر من أن اعتماد النظام على تناقضات داخلية قد يُضعف قدرته على الحفاظ على تماسكه على المدى الطويل. التوتر بين السعي إلى الحداثة الاقتصادية والحنين إلى الماضي الإمبراطوري يُهدد بخلق فجوة بين النظام والشعب (ص. 117).
يقدم سوسلوف تحليلًا عميقًا يكشف تعقيدات البوتينية كنظام أيديولوجي مرن يُوظف أدوات متعددة لتحقيق أهدافه. لكنه يميل إلى المبالغة في تصوير تماسكها. بالنظر إلى الأدبيات الحالية، يمكن وصف البوتينية كنموذج مرن وفعّال في الوقت الراهن، لكنه يفتقر إلى العمق الفكري الذي يضمن استدامته. التحديات المستقبلية قد تُبرز حدود هذه الاستراتيجية، مما يضع مرونة البوتينية على المحك.
تُعد الخصوصية الثقافية والتاريخية حجر الزاوية في الخطاب الأيديولوجي البوتيني. يرى سوسلوف أن هذه الخصوصية ليست مجرد مكون ثانوي، بل هي العمود الفقري الذي يبني عليه النظام شرعيته داخليًا وخارجيًا. يعيد النظام إنتاج سردية حضارية تُبرز روسيا ككيان فريد ومتميز عن الغرب الليبرالي، ليس فقط على المستوى السياسي والاقتصادي، بل أيضًا على مستوى القيم الروحية والأخلاقيات الثقافية. تُستخدم هذه السردية لتبرير السياسات السلطوية داخليًا، وتعزيز صورة روسيا كقوة تصحيحية على الساحة الدولية.
يشير سوسلوف إلى أن النظام الروسي يصور نفسه كوصي على قيم حضارية تواجه “الانحلال الأخلاقي” المنسوب إلى الغرب الليبرالي (ص. 151). هذا الخطاب لا يعكس الهوية الوطنية التقليدية فحسب، بل يعيد صياغة الماضي الثقافي والتاريخي لروسيا ليتماشى مع الأهداف السياسية الراهنة. من خلال مفهوم “السيادة الروحية”، يتجاوز الخطاب البوتيني فكرة الاستقلال السياسي ليطرح روسيا كحامل لقيم عالمية بديلة للنموذج الليبرالي الغربي.
ما يميز الخصوصية الثقافية في الخطاب البوتيني هو أنها ليست مجرد انعكاس للموروث الثقافي الروسي، بل تُعاد صياغتها باستمرار لتتناسب مع احتياجات النظام. يبرز ريتشارد ساكوا أن النظام يعيد تعريف التاريخ الروسي لإبراز قيم تخدم أجندته الحالية، مثل الطاعة للدولة، الولاء للقيادة، والتمسك بالهوية الأرثوذكسية. يُوضح ساكوا أن هذه القيم تُستخدم لإضفاء شرعية على السياسات القمعية داخليًا، وتقديم روسيا كدولة نموذجية تسعى للحفاظ على هويتها الثقافية وسط تحديات العولمة.
رغم الأهمية التي يمنحها النظام للخصوصية الثقافية، يجادل بعض الباحثين بأنها أداة مرنة تُخفي تناقضات داخلية. مارلين لارويل ترى أن الخصوصية الثقافية في الخطاب البوتيني ليست متجذرة أو ثابتة، بل تُعاد تشكيلها استجابة للضغوط السياسية والاجتماعية. تشير إلى أن النظام يبالغ في التركيز عليها لتبرير سياساته السلطوية، لكنها في الواقع تخدم كواجهة تخفي الطبيعة البراغماتية للحكم (ص. 234).
بريان تايلور يُضيف بعدًا آخر، حيث يرى أن الخصوصية الثقافية تُستخدم كأداة لصرف الانتباه عن الأزمات الداخلية. يُجادل بأن النظام يروج لفكرة “الاستثنائية الروسية” كوسيلة لإشغال الرأي العام بمسائل الهوية بدلاً من التركيز على القضايا الاقتصادية والسياسية الملحة (ص. 151).
النظام البوتيني يستغل الخصوصية الثقافية لإعادة صياغة علاقته مع الشعب الروسي ومع العالم. داخليًا، تُستخدم كآلية لإعادة بناء الهوية الوطنية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث تُبرز القيم الأرثوذكسية والتقاليد القومية لتعزيز مكانة الدولة كمحور للهوية الجماعية. خارجيًا، تُوظف الخصوصية كجزء من استراتيجية دبلوماسية تُصور روسيا كقوة مستقلة تقف في مواجهة الهيمنة الغربية.
رغم فعاليتها كخطاب تعبوي، يثير الاعتماد المفرط على الخصوصية الثقافية تساؤلات حول استدامة البوتينية. فالتركيز الزائد على الهوية الثقافية قد يؤدي إلى عزلة دولية ويُقوض التعاون مع القوى العالمية. يبرز هنا التحدي الرئيسي للنظام: كيفية الحفاظ على توازن بين تعزيز الخصوصية الثقافية والانخراط في النظام العالمي.
مثال ذلك يظهر في التوتر بين تقديم روسيا كنموذج مضاد للغرب من جهة، ومحاولة الحفاظ على علاقات دولية براغماتية من جهة أخرى. إذا لم يُدِر النظام هذا التوازن بحذر، قد تُصبح الخصوصية الثقافية عبئًا يُعيق مرونة البوتينية في التعامل مع التغيرات الدولية.
الخصوصية الثقافية في الخطاب البوتيني ليست مجرد انعكاس للماضي الروسي، بل هي أداة أيديولوجية مرنة تُعاد صياغتها لتلائم السياقات المتغيرة. رغم نجاحها في تعزيز شرعية النظام داخليًا وخارجيًا، إلا أن اعتماد النظام عليها بشكل مفرط قد يكشف عن نقاط ضعف على المدى الطويل، لا سيما في ظل الضغوط المتزايدة للتكيف مع نظام عالمي متغير.
البوتينية في سياق السلطوية العالمية
يجادل ميخائيل سوسلوف بأن البوتينية ليست مجرد ظاهرة سياسية داخل روسيا، بل هي جزء من تيار عالمي أوسع يتمثل في بروز أنظمة سلطوية تتحدى الإطار الليبرالي الديمقراطي السائد. يضع الكاتب البوتينية ضمن هذا السياق من خلال استعراض العناصر التي تجعلها نموذجًا فريدًا داخل هذه الظاهرة، مع تحليل نقاط التشابه والاختلاف بينها وبين الأنظمة السلطوية الأخرى. يُظهر سوسلوف كيف أن البوتينية، رغم جذورها المحلية، تحمل إمكانات للتأثير على الفكر السياسي العالمي، خاصة في الدول غير الغربية.
يشير سوسلوف إلى أن البوتينية تعتمد على براغماتية مرنة تتجنب الالتزام بأي أيديولوجيا متماسكة. هذه المرونة تُتيح للنظام التعامل بفعالية مع التحديات الداخلية والخارجية. يوضح الكاتب أن هذه البراغماتية ليست نقطة ضعف، بل أداة فعّالة مكّنت النظام من تعزيز سلطته في مواجهة أزمات متعددة (ص. 27). يرى سوسلوف أن هذه المرونة تجعل البوتينية جذابة للدول التي تسعى للحفاظ على استقلاليتها وإعادة تعريف هويتها الوطنية بعيدًا عن الضغوط الليبرالية الغربية.
يسلط سوسلوف الضوء على أوجه التشابه بين البوتينية والأنظمة السلطوية الأخرى، خاصة تلك المناهضة للغرب. يشير إلى أن البوتينية تتشارك مع الأنظمة الشعبوية الأوروبية، مثل نظام فيكتور أوربان في المجر، في استخدام القيم التقليدية ومعاداة الليبرالية كأساس للشرعية السياسية. لكنها تختلف عنها من حيث اعتمادها على تماسك النخب وسلبية الجمهور، بدلاً من الحشد الجماهيري الذي يميز الشعبوية الأوروبية (ص. 117).
البوتينية تشترك أيضًا مع الصين في رفضها للنموذج الليبرالي العالمي، لكنها تتميز بتركيزها على القيم الروحية والثقافية كركائز للهوية الوطنية. في المقابل، تعتمد الصين على سردية التحديث الاقتصادي والسيطرة الحزبية. يقدم النظام البوتيني روسيا كوصية على القيم التقليدية العالمية، في حين تركز الصين على نهج أكثر براغماتية اقتصاديًا.
يُثار نقاش واسع حول قدرة البوتينية على التأثير عالميًا. يتوزع هذا النقاش بين اتجاهين رئيسيين:
- ظاهرة محلية محدودة: يرى بعض الباحثين أن البوتينية تعتمد بشكل كبير على الخصوصيات التاريخية والثقافية لروسيا، مما يجعلها غير قابلة للتصدير كنموذج عالمي. يجادل بريان تايلور بأن البوتينية ليست أيديولوجيا شاملة بل مزيج من البراغماتية السياسية والقيم التقليدية المصطنعة المصممة للتعامل مع الظروف الداخلية الروسية. يصف تايلور النظام بأنه قائم على الحنين إلى الماضي الإمبراطوري واستخدام الخطاب الأرثوذكسي، وهي سمات يصعب استنساخها خارج السياق الروسي.
- نموذج ملهم عالميًا: على النقيض، يرى باحثون مثل ماريا ليبمان أن البوتينية تقدم إطارًا مرنًا يمكن أن يُلهم أنظمة سلطوية أخرى. تقول ليبمان إن البوتينية ليست مجرد أيديولوجيا روسية، بل هي رد على إخفاقات الليبرالية في تقديم نموذج عالمي شامل. تضيف أن أنظمة سلطوية أخرى يمكنها تبني عناصر البوتينية، مثل التركيز على القيم التقليدية والسيادة الوطنية، لتطوير نماذج خاصة بها.
يشير ستيفن كوتكين إلى أن الخصوصيات التاريخية والثقافية التي تمنح البوتينية قوتها الداخلية تُعد أيضًا قيدًا على انتشارها عالميًا. يقول كوتكين: “البوتينية ليست أيديولوجيا عالمية، بل رد فعل محلي على الانهيار السوفيتي والتحديات التي واجهتها روسيا”. يجادل بأن نجاح البوتينية يعتمد على استغلال الظروف الروسية الفريدة، مثل التقاليد الثقافية الأرثوذكسية والنظام السياسي المركزي، وهي عوامل لا تتوفر في معظم الدول.
مارلين لارويل تدعم هذا الطرح، حيث ترى أن البوتينية تسعى إلى استدامة النظام داخليًا أكثر من السعي إلى استنساخه عالميًا. تقول لارويل إن النظام يركز على تعزيز سيطرته من خلال المزج بين القيم التقليدية والبراغماتية السياسية، مما يقلل من قابليته للتصدير كنموذج شامل.
في المقابل، يرى ريتشارد ساكوا أن البوتينية قد تكون نموذجًا ملهمًا للدول التي تواجه ضغوطًا لتبني الديمقراطية الليبرالية. يقول ساكوا: “البوتينية تقدم بديلاً عمليًا للدول التي تسعى للحفاظ على استقلاليتها السياسية والثقافية”. يشير إلى أن عناصر مثل معاداة الغرب وإبراز السيادة الوطنية تُعتبر أدوات قابلة للتكييف محليًا لتلبية احتياجات الدول المختلفة.
رغم دقة التحليل الذي يقدمه سوسلوف، يبرز تحدٍ في وضع البوتينية ضمن سياق السلطوية العالمية دون المبالغة في أوجه التشابه مع الأنظمة الأخرى. الخصوصية الروسية القائمة على التاريخ والتراث الثقافي تجعل من الصعب تصنيف البوتينية كنموذج عالمي موحد. مع ذلك، تُبرز البوتينية عناصر يمكن أن تُلهم أنظمة أخرى، مثل مرونتها في التكيف مع الأزمات وقدرتها على تقديم بديل للنموذج الليبرالي
الخلاصة
ختامًا، يقدم ميخائيل سوسلوف في كتابه تحليلًا دقيقًا وشاملًا للبوتينية، يُظهرها كنظام أيديولوجي مرن يستمد قوته من قدرته على استيعاب التناقضات والتكيف مع التغيرات. يوضح الكتاب كيف أن البوتينية تعتمد على التراث الفكري والثقافي الروسي لبناء سردية متماسكة تبرر سياسات النظام داخليًا وخارجيًا. ومع ذلك، يبقى التساؤل حول تماسك هذا النظام على المدى البعيد قائمًا، خاصة مع اعتماد البوتينية على انتقائية استراتيجية قد تصبح نقطة ضعف إذا فشلت في التوفيق بين التناقضات التي تحملها.
الكتاب يدعونا لفهم البوتينية ليس فقط كأيديولوجيا محلية تخدم مصالح روسيا، بل كنموذج يمكن أن يلهم الأنظمة السلطوية عالميًا في إطار مواجهة الهيمنة الليبرالية. ورغم ذلك، يظل تأثير البوتينية محدودًا بالسياق الروسي، حيث تعتمد على خصوصية تاريخية وثقافية يصعب نقلها أو استنساخها خارج حدود روسيا. يبقى تحليل سوسلوف مساهمة محورية لفهم طبيعة هذا النظام وتعقيداته، لكنه يترك مساحة مفتوحة للنقاش حول حدود مرونة البوتينية واستدامتها في ظل التحديات المستقبلية.
المراجع :
- Suslov, Mikhail. Putinism: The Ideology of the Russian Post-Soviet Regime
- Sakwa, Richard. The Russian System in Historical and Cultural Context
- Taylor, Brian. Authoritarian Leadership: An Analysis of the Russian System
- Laruelle, Marlene. Post-Liberalism: A Study of Putinism
- Sakwa, Richard. Cultural Sovereignty and Anti-Western Sentiment: A Case Study of Putinism.
- Laruelle, Russian Nationalism
- Sakwa, Frontline Russia
- Kotkin, Stephen. The Russian Empire: Analyzing Its Roots and Impact on Putinism