كيف ستنفّذ روسيا استراتيجيتها الجديدة؟

كيف ستنفّذ روسيا استراتيجيتها الجديدة؟

ماجد كيالي*

11/5/2023

ظلّت فكرة إيجاد نظام دولي متعدّد الأقطاب يزيح الهيمنة الأميركية، بمثابة الفكرة الملهمة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، منذ تسلمه السلطة في روسيا (2002)، وهي على الأرجح الفكرة الدافعة لغزوه أوكرانيا، في محاولته الهيمنة عليها لمرتين (2014 و2022) والتي شجعته أيضا، على التدخل العسكري في سوريا (2015) وإنشاء قواعد عسكرية فيها لتحويلها، في ظل نظام الأسد، إلى منطقة نفوذ لروسيا على البحر الأبيض المتوسط.

فكرة بناء عالم متعدد الأقطاب مشروعة طبعا. بيد أن مشكلتها- في طرحها من قبل الرئيس الروسي- تكمن في روح الغطرسة التي تتملّكه. في انفصامه عن الواقع. بإلحاحه على استعادة أمجاد الإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفياتي السابق. وبالنظر لعدم إدراكه الضعف البنيوي لروسيا من كل النواحي (عدا مساحتها الشاسعة وتمتعها بثروات طبيعية هائلة)، إضافة إلى عدم توفر الإمكانيات، أو المعطيات، التي تمكّنه من تحقيق تلك الفكرة.

يساهم في عدم إدراك ذلك، أيضا، أن روسيا ما زالت تعيش الزمن الإمبراطوري، بخلاف دول الإمبراطوريات السابقة، التي تفكّكت (البريطانية والإسبانية والألمانية والمجرية)، وتحولت إلى دول وطنية. ذلك أن التطورات التاريخية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية في روسيا، عوقت ما كان يمكن أن يحصل مع انهيار إمبراطورية آل رومانوف، إذ حل الاتحاد السوفياتي محلها، باسم الأممية الاشتراكية، ودكتاتورية البروليتاريا، والحزب الواحد.

فكرة بناء عالم متعدد الأقطاب مشروعة، بيد أن مشكلتها- في طرحها من قبل الرئيس الروسي- تكمن في روح الغطرسة التي تتملّكه، في انفصامه عن الواقع، بإلحاحه على استعادة أمجاد الإمبراطورية الروسية، والاتحاد السوفياتي السابق

يضاف الى ذلك ان مشكلة تلك الفكرة تكمن في تجاهل بوتين أن العالم متعدد الأقطاب فعلا وأن الولايات المتحدة لم تعد تستطيع فرض خياراتها أو أولوياتها بمعزل عن الأطراف الأخرى، وضمنهم أوروبا واليابان والصين، وبدرجة أقل روسيا. وتاليا فإن الرئيس الروسي لا يدرك، أو لا يريد أن يدرك، انحسار مكانة روسيا على الصعيد الدولي، وأيضا تراجع مكانتها في الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا، بالقياس للأقطاب الأخرى، إذ لا يمكن المساواة، حتى في عالم متعدد الأقطاب، بين أقطاب غير متساوين، حيث إن حصة كل قطب تتحدد تبعا لقدراته وإمكانياته ومنتجاته، وما يصدره للبشرية.

في المحصلة لا يوجد في جعبة الرئيس بوتين ما يؤيد مسعاه سوى واقع أن روسيا تمتلك القوة النووية الأكبر في العالم وهو ما فتئت تلوّح به أمام الجميع، منذ غزوها أوكرانيا. أما استحواذها على مخزونات هائلة من النفط والغاز، فهذه لم تعد ميزة، مع نجاح أوروبا بتفويت التهديد الروسي بالطاقة، وفك ارتباطها بها، بإيجادها مصادر بديلة، وبتحفيز التحول نحو الاعتماد على الطاقة الخضراء، وتوسيع الاستثمار فيها.

هكذا، ثمة عدد من المسائل تلفت الانتباه في منطلقات “استراتيجية السياسة الخارجية الروسية”، التي أُعلنت مؤخرا (سبوتنيك عربي- 31/3/2023)، لعل أهمها يكمن في:
أولاً، اعتبار الولايات المتحدة المصدر الرئيس للمخاطر على أمن روسيا، و”أن روسيا تعتزم إعطاء الأولوية للقضاء على بقايا هيمنة الولايات المتحدة وغيرها من الدول غير الصديقة على الشؤون العالمية”. أي إنها قسمت العالم إلى قسمين، بناء على الموقف من غزوها أوكرانيا، علما أن ثمة دولا قليلة ساندتها في ذلك، هي: بيلاروسيا وسوريا وكوريا الشمالية وإريتريا. في حين فضلت دول أخرى عدم تأييد الغزو، من دون إدانة روسيا، بمعنى النأي بالنفس، وهذا يشمل الصين، وحتى إيران، في حين أدانت الغالبية العظمى روسيا.

ثانيا، تمييز علاقاتها مع الصين أكثر من أي طرف دولي آخر، رغم أن هذه لم تبد تأييدا لروسيا. وبحسب فو كونغ، السفير الصيني في بروكسل (مقر الاتحاد الأوروبي) فإن “الصين لم تقدم مساعدة عسكرية لروسيا، ولم تعترف بعمليتها العسكرية لضم الأراضي الأوكرانية، بما في ذلك شبه جزيرة القرم ودونباس”، مشيرا إلى أن بلاده لم تدن العملية الروسية في أوكرانيا، لأنها فهمت مزاعم روسيا بشأن حربها الدفاعية ضد توسع الناتو”. بل إن السفير نفى وجود “صداقة بلا حدود”، معتبرا ذلك مجرد تعبير بلاغي. (“نيويورك تايمز”- 5/4/2023). وتفسير ذلك أن تجارة الصين مع روسيا تبلغ (200 مليار دولار)، في حين أنها أكبر بأربع مرات مع الولايات المتحدة (800 مليار دولار) وبثلاث مرات مع أوروبا (600 مليار دولار)، هذا عدا اعتماد الصين في التكنولوجيا المتقدمة على الغرب.

الصين لم تقدم مساعدة عسكرية لروسيا، ولم تعترف بعمليتها العسكرية لضم الأراضي الأوكرانية، بما في ذلك شبه جزيرة القرم ودونباس

أما فيما يخص الهند، فهي ترتبط بعدة منظومات اقتصادية وأمنية مع الولايات المتحدة، كما أن الرئيس الهندي أكد مرارا قلقه من تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا. ومعلوم أنه ليس لدى روسيا، بإمكانياتها المحدودة، ما تقدمه لتأكيد مكانتها كقطب دولي، لآسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، تبعا لاستراتيجيتها التي نصت باعتزامها “توفير الأمن لجميع البلدان على أساس المعاملة بالمثل. وأن روسيا ستساعد في توسيع مشاركة الدول النامية في الإدارة الاقتصادية العالمية”؛ إذ إن اقتصادها 3,08 في المئة فقط من الاقتصاد العالمي.

ثالثا، “مواجهة الغرب” في استخدامه ملف “الصراع على النموذج القائم على الحرية والديمقراطية… وحقوق الإنسان”، بـ”العمل على إبراز صورة مغايرة عن روسيا للرأي العام العالمي… مع الإشارة إلى أن تلك الدول تنتهج سياسات الكيل بمكيالين في ملف حقوق الإنسان واستخدامه كأداة للضغط الخارجي والتدخل في الشؤون الداخلية للدول”. وهذا يفيد مجددا بأن روسيا ليست بصدد تقديم نموذج أفضل فيما يتعلق بحقوق المواطن والحريات والديمقراطية التي تميز الغرب، أو تقوي ادعاءاته، رغم تناقضاته.

ما يفاقم من ذلك الحديث العمومي عن المجال الأوراسي والحضارة الروسية، وهو حديث طوباوي ومتخيل عن أوراسيا، أي لا يقدم شيئا، حتى إنه لا يوجد من يشاركها فيه في أوروبا أو آسيا حتى ولا الصين أو الهند.

رابعا، في مجال القوة الاقتصادية، تنطلق الاستراتيجية من المبالغة بقوة روسيا، كأنها قادرة على مصارعة الغرب، “لإيجاد عالم متوازن ومتعدد الأقطاب، مع ضمان الوصول العادل لجميع الدول إلى فوائد ومكاسب الاقتصاد العالمي والتكنولوجيا الحديثة، ومعالجة مشكلات الأمن الغذائي وأمن الطاقة، وتعزيز مشاركة البلدان النامية… وتحسين شروط دخول روسيا إلى الأسواق العالمية”. وفي الاستراتيجية هذه، تجاهل للفجوة الكبيرة بين روسيا والدول الأخرى، وضمنها الصين، في مجال العلوم والتكنولوجيا، التي باتت المحرك الأساسي للاقتصاد العالمي، ولتحديد قوة الدول، وأن روسيا ليست من الدول العشر الأقوى اقتصاديا في العالم، إذ إن اقتصادها 1.7 تريليون دولار، أي أقل من الناتج الإجمالي لكوريا الجنوبية أو إيطاليا، في حين أن الصين لديها ناتج اجمالي 17 تريليون دولار، واليابان 5 تريليونات دولار، وألمانيا قرابة 4.5 تريليون دولار، فما بالك بغيرها، رغم كبر حجم روسيا، وتمتعها بثروات أرضية هائلة.

خامسا، تتجاهل تلك الاستراتيجية عزلة روسيا، سيما بعد غزوها أوكرانيا، وعدم قدرتها على إيجاد تجمعات دولية أو إقليمية تشترك معها في الاستراتيجيات الاقتصادية والسياسية والأمنية (بالقياس للغرب)، وحقيقة رفض الدول والمجتمعات، التي كانت ضمن الإمبراطورية الروسية أو السوفياتية، الارتباط بالاتحاد الروسي، والاتجاه نحو الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، إذ لا يمكن تفسير ذلك فقط بجشع الغرب، أو تدخلاته، فالمشكلة تتعلق بطبيعية النظام السياسي في روسيا وطريقة تعامله مع الآخرين، وأيضا تخلفه بالمقارنة مع الغرب، في المفاضلة بينهما.

باختصار، فإن استراتيجية روسيا بوتين تشبه استراتيجية نظام الأسد (الأب) في الثمانينات والتسعينات، التي تمحورت حول “التوازن الاستراتيجي” مع إسرائيل، والمبالغة بدور سوريا الإقليمي، دون امتلاك إمكانيات أو معطيات مثل ذلك التوازن، ودون أن يوفر الأوضاع التي تجعل شعبه يمتلكهما، على ما شهدنا في مآلات سوريا بعده، وهو مصير لا يمكن استبعاده عن روسيا.

*Опубліковано за погодженням із письменником

Залишити відповідь

Ваша e-mail адреса не оприлюднюватиметься. Обов’язкові поля позначені *