هل تواجه روسيا المصير السوفييتي في سباق التسلح؟
ماجد كيالي*
من بين أهم المتغيرات، أو الارتدادات العكسية، الناجمة عن الغزو الروسي لأوكرانيا، قبل عام، ما نشهده من صعود العسكرة في العالم، أي التسلح، وزيادة موازنات الانفاق العسكري، وإعادة هيكلة الجيوش، ربما أكثر من أي فترة في العصر الحديث؛ باستثناء سنوات الحربين العالميتين الأولى والثانية، في النصف الأول من القرن العشرين.
يمكن ملاحظة ذلك من توجه الدول الأوروبية الى تعزيز قوتها العسكرية وهي عاشت لعقود على فكرة “السلام العالمي”، بعد أن عانت من أهوال ومآسي الحربين المذكورتين، إذ ركزت اهتماماتها في تقوية اقتصادها، ورفاهية مجتمعاتها، وبالانخراط الفاعل في مسار العولمة، والاعتماد المتبادل في مجالات المناخ والبيئة والفضاء. إذ وجدت نفسها، مع الغزو الروسي، في عالم أخر، إذ هي مكشوفة عسكريا، ووجدت في الروح العسكرية الروسية الهجومية تهديدا لقيمها وسلامها ونمط عيشها، وفكرتها عن التعاون الدولي.
كان الدرس الذي تلقاه المستشار الألماني، والرئيس الفرنسي، لدى لقاء كل منهما، على حدة، بالرئيس الروسي (في موسكو)، قبل الغزو بعدة أيام (فبراير/ شباط 2022)، قاسيا وبليغا ومعبرا، إذ لم يتعامل معها الرئيس الروسي بما يليق بمكانتهما الدولية، منطلقا من اعتباره وايحاءاته، أن روسيا، بالقياس لألمانيا أو فرنسا، دولة كبيرة، وذات جبروت عسكري، وأقوى دولة نووية، علما أن روسيا أضعف من الاثنتين في مجال الاقتصاد، إذ ناتجها 1,6 ترليون دولار، في حين ألمانيا 4,2 ترليون دولار وفرنسا 3 ترليون دولار، مع فارق كبير، أيضا، لصالحهما في مجالي العلوم والتكنولوجيا.
نتيجة ذلك، فإن ألمانيا، وفي اليوم التالي لغزو روسيا لأوكرانيا، تحولت نحو العسكرة، بالقطع مع مسارها السابق، إذ خصصت مبلغا قدره 100 مليار يورو لإعادة تسليح جيشها، ثم بعد ذلك رفعت مخصصاتها السنوية للانفاق العسكري الى 2 بالمئة من ناتجها الإجمالي السنوي (4.2 ترليون دولار)، أي بمبلغ قدره 85 مليار دولار، علما إنها كانت ترفض في السابق التجاوب مع الدعوات الأميركية، ولاسيما مطالبات الرئيس السابق دونالد ترامب، برفع اعتماداتها العسكرية، لتحمل مسؤولية الدفاع عن نفسها، بدلا من الاعتماد على الولايات المتحدة؛ علما أن قرارها التخلي عن امدادات النفط والغاز، لا يقل أهمية عن ذلك، أيضا.
التطور الأخر الحاصل في المانيا تمثل بإعلانها تقديم سلاح نوعي، بمافيها صواريخ ومدرعات، للجيش الأوكراني، بموافقة البرلمان (البوندستاغ) بأغلبية كبيرة (فقط حوالي مئة عارضوا القرار من 736 عضو في البرلمان)، في أواخر أغسطس الماضي. وقد تطور هذا الأمر لاحقا إلى تقديم أسلحة هجومية متطورة، ولا سيما دبابات ليوبارد الثقيلة والمتطورة، مع السماح لدول ثالثة، من حلف ناتو، بتقديم مثل تلك الدبابات للجيش الأوكراني.
أيضا، فقد ترافق كل ماتقدم مع مسألتين متوازيتين، الأولى، إعادة هيكلة الجيش الألماني، وتحديث أسلحته، وعقد صفقات كبيرة مع شركات التسلح الاميركية خاصة (ضمنها طائرات اف- 35)، ومع شركات السلاح لديها، التي باتت تعمل بكل طاقتها، لتلبية الطلبات الداخلية والخارجية، لدول “الناتو”. أما الثانية، فهي توثيق العلاقات مع الولايات المتحدة الاميركية في ما يتعلق بالسياسة والأمن، والتوجه نحو بناء هيكل دفاع أوروبي، بالشراكة مع فرنسا، وزيادة التعاون العسكري في إطار حلف الناتو، الذي باتت دول أوروبية أخرى محايدة سابقا (مثل فنلندا والسويد) تتجه نحو الانخراط فيه لنيل الحماية من ما تعتبره تهديدا روسيا.
اليابان بدورها شهدت ذات التحول الذي حصل في ألمانيا، إذ قامت بتخصيص مبلغ 330 مليار دولار (يناير/ كانون الثاني 2023)، على مدى السنوات الخمس المقبلة، لتنمية قدراتها الدفاعية، كما تخلت عن السقف المحدد، منذ عقود، للانفاق العسكري، وقدره 1 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، إلى 2 بالمئة أيضا، ما يعني قرابة 100 مليار دولار سنويا (الموازنة السابقة 55 مليار دولار)، ما يمثل قطعا مع دستور اليابان، الذي تم صوغه في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية والذي وضع قيوداً على العسكرة فيها.
وتتجه اليابان نحو صوغ استراتيجية دفاعية جديدة، بالاستفادة من تطورها العلمي والتكنولوجي ودروس الحرب في أوكرانيا، لبناء “قوة دفاع متعددة المجالات”، في الفضاء والفضاء الإلكتروني والطيف الكهرومغناطيسي، بجانب قدرات في المجالين البحري والجوي، وقدرات دفاعية جوية وصاروخية شاملة (ضمنها طائرات اف -35 من الولايات المتحدة).
ومعلوم أن اليابان ليست عضوا رسميا في حلف “ناتو”، رغم مشاركتها في قمة الحلف السابقة (مدريد 2022) لكن لها اتفاقات دفاعية مع الولايات المتحدة وبريطانيا، وقد اشتركت مع بريطانيا وإيطاليا بتطوير طائرة «تمبست» المدعومة بالذكاء الصناعي والتي قد تتفوق على طائرات «إف – 35» الأميركية، إضافة إلى أن اليابان عضو في حلف رباعي، له طابع أمني، يسمى “كواد”، يضمها إلى جانب الولايات المتحدة، والهند، واوستراليا.
تعادل مخصصات التسلح والدفاع للولايات المتحدة الاميركية وحدها 40 بالمئة من الانفاق العالمي، وهي أعلى 12 مرة من مثيلتها الروسية، وأربع مرات من الصينية، مع التفوق الاميركي في تكنولوجيا السلاح، والاتصالات، في كل المجالات
حدث هذا أيضا في فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وكوريا الجنوبية، ومعظم الدول الغربية، إذ خصصت فرنسا مطلع هذا العام 413 مليار يورو للانفاق العسكري للسنوات السبع القادمة (2032ـ 2030)، بزيادة الثلث عن الاعتمادات السابقة، من 42 إلى 59 مليار يورو.
ما يفترض التذكير به هنا هو أن مخصصات التسلح والدفاع للولايات المتحدة الاميركية لوحدها تعادل 40 بالمئة من الانفاق العالمي، وهي أعلى 12 مرة من مثيلتها الروسية، وأربع مرات من الصينية، مع التفوق الاميركي في تكنولوجيا السلاح، والاتصالات، في كل المجالات.
وبحسب بيانات “معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام” (2022) ففي عام 2021، بلغ الإنفاق العسكري العالمي 2.1 تريليون دولار، بالترتيب الآتي: الولايات المتحدة 801 مليار دولار. الصين 293 مليار دولار، الهند 76 مليار دولار، المملكة المتحدة 68 مليار دولار، روسيا 66 مليار دولار، ألمانيا 56 مليار دولار، فرنسا 56 مليار دولار، اليابان 54 مليار دولار، كوريا الجنوبية 50 مليار دولار؛ علما إن الولايات المتحدة رفعت موازنتها العسكرية للعام 2023 إلى مبلغ 858 مليار دولار، وأن ألمانيا واليابان وفرنسا وبريطانيا، لدى كل واحدة منهم القدرة على رفع موازنتها العسكرية، وتحديث أسلحتها، أكثر بكثير مما تستطيعه روسيا.
اللوحة السابقة تذكّر بمرحلة الثمانينيات، حيث سباق التسلح، وحرب النجوم، والتدخل الروسي في أفغانستان، وكلها أدت، مع عوامل داخلية، إلى انهيار الاتحاد السوفييتي وتفككه.