الحرية المقبلة: تحطيم العبودية وتبييض السجون

الحرية المقبلة: تحطيم العبودية وتبييض السجون

خالدة جرّار

 الاسيرة المحررة والتي تم اعتقالها مرة اخرى خلال الحرب الاسرائيلية الحالية على قطاع غزة

18/1/2024

نبذة مختصرة

تتناول هذه المقالة هدف “تبييض السجون” الذي كان مقولة أقرب إلى الحلم والشعار قبل عبور 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، والذي شكَّل بارقة أمل لم تحدث في تاريخ الصراع العربي – الصهيوني فيما يتعلق بإمكان تحرير جميع الأسرى ضمن أكبر عملية تبادل على الإطلاق. كما تقرأ المقالة التقاطع بين المشروع الصهيوني وحاضنته الاستعمارية الغربية في ظل التحالف العدواني الحالي على غزة وفلسطين، إذ تبدو صورة “الحرية المقبلة” انتصاراً مزدوجاً على أنظمة العبودية الاستعمارية في العالم، وعلى المنظومة السجنية في فلسطين في آن معاً.

النص الكامل

“2023 هي السنة التي سيسجلها التاريخ بوصفها السنة التي وقف فيها المظلومون في فلسطين بشجاعة في وجه الفاشية الاستعمارية، وصرخوا دفاعاً عن بيوتهم وإنسانيتهم وحياتهم.”[1] 

 

السجن كأداة قمعية

لقد مارس الاستعمار الصهيوني الاستيطاني جرائم الإبادة المستمرة للفلسطينيين منذ أكثر من قرن، فالمشروع الصهيوني تأسس على فكرة إبادة الشعب الفلسطيني، وطوّر أدواته الاستعمارية كجزء بُنيوي في إطار مشروعه الاستعماري، واتخذ أشكالاً متعددة من البربرية والفاشية الاستعمارية الجديدة التي تسعى أيضاً لإسكات صوت المنتفضين، وإرغامهم على الصمت في وجه أدواته التدميرية.

وشكّل “نظام السجن” إحدى الأدوات القمعية التي مارسها الاستعمار على مدار التاريخ، ليس في العالم فحسب، بل في فلسطين أيضاً. فمنذ الاستعمار الانتدابي البريطاني، حتى الاستعمار الاستيطاني الصهيوني لفلسطين، كرّس الاستعمار المنظومة ذاتها التي دشّنها كثير من الدول الاستعمارية في العالم في حقّ الشعوب وحركات التحرر الوطني، ولا تزال تلك المنظومة السجنية مستمرة ضمن تواصل ملحوظ على مستويات الفكر والممارسة، وتخضع لمزيد من التطوير والمغالاة في القمع والقهر والتنكيل. وقد صُبغ العنف بـ “عقلانية” قائمة على قوننة العنف الاستعماري من خلال الأوامر العسكرية ونظام المحاكم الاستعماري، الأمر الذي جعل الاعتقال والأسر ظاهرة عامة جرى تطبيعها عبر تراكم الزمن الاستعماري. وتفيد إحصاءات “مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان” بأن نحو مليون فلسطيني وفلسطينية تعرضوا للاعتقال أو الاحتجاز أو التحقيق. وبحسب “نادي الأسير”، هناك ما يزيد على 17,000 أسيرة فلسطينية منذ سنة 1967 حتى اليوم، وأكثر من 50,000 طفل بحسب بيان “هيئة شؤون الأسرى” لسنة 2022، كما أن جثامين الشهداء التي ما زالت محتجزة فبلغ عددها ما يقارب 372 جثماناً.[2]

لا تهدف هذه المقالة إلى عرض تفصيل منظومة الأسر، وإنما إلى الإشارة إلى مدلول الأسر والسجن والظلم، والتوق إلى التحرر من داخل أسواره، وماهيّة الحرية التي ينشدها الشعب الفلسطيني، وخصوصاً أن الاحتلال الصهيوني حوّل غزة كلها إلى سجن كبير لأكثر من 17 عاماً، ممارساً عليها حصاراً وقتلاً وتدميراً وإبادة وتجويعاً، إلى ما سوى ذلك من الجرائم التي يصعب وصفها في عالمنا الحديث. وهذا جزء يسير من الصورة، أمّا الجزء الآخر فهو ثورة الأسرى الذين يتوقون إلى الحرية وتكسير جدران الزنزانات.

تبييض السجون

لقد ثار الأسرى في زنزانات العزل في غزة لتشهد فلسطين مرحلة تحرر جديدة في سياق نضال الفلسطينيين من أجل التحرير، وكان أحد شعارات هذه المرحلة هو: تحرير الأسرى والأسيرات من السجون. وشهد تاريخ نضالات الفلسطينيين وأسراهم عدة أشكال، كالتحرير والتحرر الذاتي وتجارب الهروب، من محاولة تحرير أسرى سجن عتليت (16 تموز / يوليو 1938)، حتى محاولة التحرر من سجن جلبوع (نفق الحرية في 6 أيلول / سبتمبر 2021). غير أن شعار تحرير الأسرى تطور بعد 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023 ليصبح “تبييض السجون” من الأسرى القدامى، والأطفال، والنساء، والشباب، والأسرى الإداريين، والمرضى، أي الأسرى كافة. وجاء هذا المطلب في ظل أسر نحو 250 من الجنود والضباط الصهيونيين في صباح يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، كامتداد لعمليات تبادل الأسرى في مختلف مراحل النضال الفلسطيني التي أدت إلى تحرير الآلاف منهم عبر عدة صفقات كان آخرها “صفقة شاليط” في سنة 2011.

يضاف إلى ذلك فشل محاولات سابقة لعقد صفقة تبادل محدودة بعد سنة 2014 تضمنت إطلاق سراح مَن أعيد اعتقالهم بعد تنفيذ “صفقة شاليط”، والأسرى القدماء ما قبل اتفاق أوسلو، والمرضى والنساء والأطفال، والجثامين المحتجزة، على الرغم من وجود 4 جنود صهيونيين أسرى لدى المقاومة في غزة. وكان مسؤول “حماس” في قطاع غزة يحيى السنوار قال في خطابه في الذكرى الخامسة والثلاثين لانطلاقة حركة المقاومة الإسلامية / “حماس” في غزة بتاريخ 14 كانون الأول / ديسمبر 2022: “إننا إزاء مماطلة الاحتلال في هذا الملف [التبادل]، نعلن أننا سنمهله وقتاً محدوداً لإتمام هذه الصفقة وإلّا سنغلق ملف أسرى العدو الأربعة [الموجودين لدى] المقاومة، إلى أبد الآبدين، وسنجد طريقة أُخرى لتحرير أسرانا.”[3] ويبدو أن السبيل الآخر هو ما حدث في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، ليتطور المطلب من صفقة تبادل محدودة إلى شعار “تبييض السجون” الذي أعلنه الناطق العسكري باسم كتائب القسّام أبو عبيدة في 28 تشرين الأول / أكتوبر 2023، بالقول: “العدد الكبير من الأسرى لدينا ثمنه تبييض السجون من الأسرى كافة”،[4] وتبعه السنوار في اليوم التالي، والذي أعلن الجهوزية لعقد صفقة تبادل تشمل الإفراج عن جميع الأسرى في سجون الاحتلال، في مقابل كل الأسرى لدى المقاومة.[5]

أولى مراحل تببض السجون بدأت مع النساء والأطفال في أثناء كتابة هذه المقالة، إذ أصرت المقاومة على تحرير جميع الأسيرات والعدد الأكبر من الأطفال، على سبع دفعات. وحتى الآن جرى تحرير 240 من الأسرى الأطفال تحت عمر 19، و71 منهم أسيرات من أصل 87 أسيرة. ولا يشمل هذا العدد أسيرات قطاع غزة اللواتي جرى اعتقالهن في أثناء الحرب، واللاتي بلغ عددهن 10 أسيرات.

وترافق السعي الدائم لتحرير الأسرى والأسيرات مع نضال الفلسطينيين الدائم والمتعدد الأشكال، ولذلك، فإن شعار “تبييض السجون” هو شعار مستقى من تاريخ النضال الفلسطيني عبر مختلف محطات النضال التاريخية. فمع بداية ثورة سنة 1936، استخدمت النسوة الفلسطينيات الأغنية المشفّرة كوسيلة لإخبار الأسرى أن الثوار سيحررونهم، وبالموعد الذي على الأسرى الاستعداد له. فمن خلال الأغنية، تم تبادل المعلومات عن طريق تغيير حروف كلمات الأغاني بطريقة تسمح للأسرى بفهم المعلومة من دون تدخّل الاحتلال وقمعه. فمثلاً، كانت النساء يقفن خارج سجن الانتداب البريطاني وهن يردّدن الأغنية المشفّرة الشهيرة:

يا طالعين عين للل الجبل،

يا مو للل الموقدين للنار،

بين للل يا مان يا مان،

عين للل هنا يا روح،

ما بدي منكي للل كم خلعة

ولا للل بدي ملبوس

بين للل يا مان يا مان

عين للل الهنا يا روح [6]

يُلاحظ هنا إضافة حرف اللام وتكراره في هذه الأغنية التي ابتُكرت مع بداية ثورة سنة 1936 لتوصيل الرسائل من الثوار وإليهم. وقد ارتبطت ثورة 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023 (طوفان الأقصى) بقضيتين مركزيتين، هما: الأسرى والقدس، ثم تطور الشعار المتعلق بالأسرى إلى شعار “تبييض السجون” الذي كان له انعكاس على ممارسات الاحتلال القمعية الجنونية. فكيف انعكس هذا الشعار على سلوك المستعمِر الاستيطاني الصهيوني الوحشي؟

فبمزيد من الإبادة لغزة ولفلسطين، ومزيد من أشكال الانتقام من الأسرى والأسيرات منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، اعتقلت قوات الاحتلال الصهيوني ما يزيد على “3500 أسير وأسيرة، وهذا الرقم لا يشمل مَن جرى اعتقالهم من على حدود غزة، أو عمال غزة المتواجدين في الأراضي المحتلة.”[7] ورافقت الاعتقال إجراءات انتقامية وحشية تمثلت في الضرب، وتدمير البيوت، وحتى القتل، إذ استشهد كل من: الأسير عمر دراغمة من طوباس بتاريخ 23 / 10 / 2023 في سجن مجدو بعد أسبوع من اعتقاله؛ الأسير عرفات حمدان من بيت سيرا بتاريخ 24 / 10 / 2023 في سجن عوفر بعد يومين من اعتقاله؛ أُعلن بتاريخ 6 / 11 / 2023 استشهاد ماجد أحمد زقول من عمال قطاع غزة في سجن عوفر؛[8] استشهد عامل آخر “لم يُعرف اسمة في معتقل ‘عنتوت’ “، بحسب ما أفاد “نادي الأسير الفلسطيني”. كما أُعلن في 13 / 11 / 2023 استشهاد الأسير عبد الرحمن أحمد مرعي (33 عاماً) من قراوة بني حسان، في سجن مجدو؛ وفي 18 / 11 / 2023 أعلن استشهاد الأسير ثاثر سميح أبو عصب (38 عاماً)، وهو معتقل منذ 27 / 5 / 2005 في سجن النقب، وذلك بحسب هيئة شؤون الأسرى والمحررين.

أمّا داخل السجون، فتجلّت السياسة الصهيونية الانتقامية بإجراءات عنيفة تعبّر عن حالة انتقامية مبيّتة، إذ جرى عزل جميع الأسرى والأسيرات في الزنزانات بعد إفراغها من مستلزمات الحياة اليومية كلها، ولم تُبقِ قوات الاحتلال فيها سوى بطانية وغيار لكل أسير، فضلاً عن الاعتداء بالضرب على الأسرى، ورشّهم بالغاز في العديد من أقسام السجون.

وبطبيعة الحال، لم يُستثنَ من ذلك سجن الدامون، في أعالي جبل الكرمل، والذي تقبع فيه الأسيرات الفلسطينيات، وعددهن 87 أسيرة، علماً بأن عددهن قبل الحرب على غزة كان 38 أسيرة. وجرى قمع الأسيرات بالغاز والضرب ثلاث مرات منذ 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023: كانت المرة الأولى في اليوم ذاته الذي عبّرت الأسيرات عن الاحتفاء بقرب تحررهن من السجن، إذ رُشّت الغرف بالغاز وعُزلت الأسيرات، ومُنعن من الخروج إلى ساحة السجن أو التوجُّه إلى أماكن الاستحمام الموجودة خارج الزنزانات، كما نُقلت ممثلة الأسيرات مرح باكير إلى عزل سجن الجلمة؛ المرة الثانية كانت بتاريخ 19 تشرين الأول / أكتوبر 2023، إذ رُشّت غرف الأسيرات بالغاز وخراطيم المياه، واعتُدي بالضرب الشديد على 4 أسيرات، واقتُحمت الزنزانات، ومُزّقت الصور العائلية والشخصية للأسيرات، فضلاً عن مصادرة ما تبقَّى من مقتنياتهن؛ المرة الثالثة كانت في صباح 30 تشرين الأول / أكتوبر 2023. وحدث هذا كله ضمن سياسة ممنهجة وانتقامية في حقّ الأسيرات.

وفي هذا السياق، كتب المحامي حسن عبادي في صفحته في موقع “فيسبوك”، تحت عنوان “ولادة سلطان”: “زرت صباح اليوم سجن الدامون والتقيت بداية بالأسيرة فاطمة عمارنة؛ أطلّت مبتسمة، بعكس اللقاء السابق، بخطى واثقة، ونسيت لحظة الاعتقال ووحشيته التي رافقتها في حينه (اعتُقلت في 4 / 9 / 2023 بطريقها من المسجد الأقصى المبارك، وصور اعتقالها انتشرت عبر كل شاشات العالم، وهذا اعتقالها الأول)، وحدثتني عن تفتيش الصباح الصارم وأخذ الطناجر والجلي والسكر والعدس، وعن الاكتظاظ في السجن (87 أسيرة)، والعزل الجماعي داخل الزنازين، وساديّة السجّان ‘اِنقمعنا عدة مرات مع غاز [….] خايفين منا وبحاولوا يذلونا. فشرت عينيهم، معنوياتنا عالية، ومش قلقانين، كرامتنا فوق كل شيء’.”[9] ونقل المحامي العبادي عن الأسيرة لمى خاطر المعتقلة منذ 26 / 10 / 2023، خلال زيارته لها في سجن الدامون في 5 / 11 / 2023، عن تعرضها للتفتيش العاري، وتهديد ضباط الاستخبارات في مركز توقيف عتصيون لها بالاغتصاب، والإبعاد مع عائلتها إلى قطاع غزة.[10] وفي 29 / 11 / 2023 صرحت الأسيرة المحررة ضمن الدفعة السادسة لتبادل الأسرى، لمى خاطر، لوسائل الإعلام عن وجود نحو 10 أسيرات من قطاع غزة اعتُقلن قبل الهدنة بأيام، وأنه “تم نزع الحجاب عن الأسيرات المختطفات من قطاع غزة وتقييد أقدامهن وأيديهن وتعصيب أعينهن وإلباسهن ملابس أسرى الحرب.”[11]

هكذا انعكس شعار “تبييض السجون” على سلوك السجانين تجاه الأسرى الفلسطينيين، وهو سلوك طغت عليه محاولات انتقامية استهدفت كسر إرادة الأسرى ومعنوياتهم، وإظهار قدرة السجانين وممارساتهم الاستعلائية، وهي خصائص مرتبطة بطبيعة دور المستعمِر، أكان سجاناً أم سجّانة، والذي لا يرى نفسه إلّا متفوقاً وقامعاً ومتعجرفاً يستطيع امتهان كرامة الأسرى الأسيرات.

تضامن أُممي

تجدر الإشارة في هذا السياق، إلى أن الاستهداف بالاعتقال لم يقتصر على فلسطين وحدها، بل إن عشرات الناشطين والمتضامنين معها والمقاتلين في صفوف الحركة الوطنية الفلسطينية حول العالم جرى اعتقالهم أيضاً بسبب نضالهم مع فلسطين في كل من الولايات المتحدة، وكندا، وفرنسا، وألمانيا، وبريطانيا، وغيرها. ولا يزال عدد من المناضلين الأُمميين والعرب، ومنذ أعوام طويلة، في سجون الاستعمار الإمبريالي في فرنسا وأميركا على خلفية مشاركتهم في نضال حركة التحرر الفلسطينية، أمثال كارلوس الفنزويلي، وجورج عبد الله اللبناني المعتقل منذ 40 عام في السجون الفرنسية، وكذلك غسان العشي وشكري أبو بكر وعبد القادر مشعل المعتقلَين في أميركا.

وفي 27 تشرين الأول / أكتوبر 2023، أعلن عشرون أسيراً من سجناء الباسك السياسيين إضرابهم عن الطعام تحت عنوان: “الإضراب عن الطعام من أجل الكرامة” (Hunger Strike For Dignity) للتضامن مع فلسطين، وعبّروا عن ذلك في رسالة من داخل السجن تتضمن أسماء 20 معتقلاً في السجون الباسكية، جاء فيها: “كل من الرجال والنساء الفلسطينيين تحمّلوا عقوداً من المعاناة بسبب العنف الناتج عن الاحتلال الصهيوني. لقد تم نفيهم بالقوة من منازلهم، وتدمير مدنهم وقراهم، وتعريضهم للسجن والتعذيب والاغتصاب والقتل. تُعتبر الفظائع والمجازر الأخيرة في غزة، والتي ارتكبتها الدولة الصهيونية الإرهابية، مثالاً واضحاً على سياسة الإبادة هذه. تضامناً مع الشعب الفلسطيني، ودفاعاً عن الحقوق الشرعية للأفراد والمظلومين، سيقوم المعتقلون الباسكيون الذين وقّعوا على هذا البيان بالإضراب عن الطعام يوم الجمعة 27 أكتوبر [تشرين الأول 2023].”[12]

لقد وحّدت فلسطين عالم المناضلين والمناضلات في العالم مرة أُخرى، عالم النضال الرافض لجميع أشكال الإبادة الحربية العالمية الرأسمالية ضد الفقراء، فقراء غزة هذه المرة، مثلما كانوا فقراء العالم في الأوقات كافة. فـ “الأنا البيضاء” استيقظت لتمارس عمليات الإبادة من جديد كما مارسته في حقّ الشعوب الأصلانية في أميركا وكندا وأستراليا وغيرها. إن تاريخ الاستعمار هو تاريخ أسود بجرائمه كلها، ومنها الإبادة. وربما لا يدرك الاستعمار، أو لعله يدرك، لكن شعوره بالتفوق يعميه، فأساليبه الوحشية المتجسدة في قتل التوّاقين إلى الحرية والكرامة وإبادتهم وتدميرهم، سيوازيها ثورة جموع الفقراء والمقموعين في العالم، لا في فلسطين وحدها.

وشكّل التضامن الأُممي مع فلسطين في هذا الوقت محطة نوعية في إعادة الاعتبار إلى البعد الأُممي في نضال الشعوب المقهورة والمستعبدة، وفي مواجهتها لجميع أصناف الاضطهاد الاستعماري الرأسمالي، وفي النضال ضد أشكال الهيمنة العسكرية الإمبريالية في العالم كافة. وظهر بشكل جلي النضال الطبقي المتبلور ضد أشكال العبودية كلها التي لا يمكن التخلص منها ومن إفرازاتها إلّا بتحطيمها كمؤسسة ومنظومة. ونذكر في هذا المجال، على سبيل المثال، الندوة التي عقدتها مجموعة “المقاومة الجادة” (Critical Resistance) تحت عنوان” “الخلاص والتحرير لفلسطين” (Abolition and Liberation of Palestine) بتاريخ 1 تشرين الثاني / نوفيمبر 2023، وما قالته المناضلة والسجينة السابقة أنجيلا ديفيس (Angela Davis): “ليس للفلسطينيين غير الفعل، فهناك تضامن عالمي مع الفلسطينيين، ونضال من أجل العدالة، ومن أجل تغيير الواقع. وغزة تمثل نموذجاً لما يمارسه عنف المستعمر، [وتُعتبر كل من] إسرائيل وأميركا نموذجاً للنظام الرأسمالي العسكري القائم على الأيديولوجيا والفكرة العسكرية والحرب. كيف يمكننا العمل على تحطيم العبودية لدعم نضال الشعب الفلسطيني من أجل حريته؟ في غزة، هناك نظام ‘السجن المفتوح’، والرأسمالية العالمية هي المسؤولة، ذلك بأن إسرائيل جزء من القوة العسكرية العالمية. لقد تعلمنا من نموذج فلسطين أن تحطيم العبودية لا يكون إلّا بتحطيم المنظومة الرأسمالية الإمبريالية التي أنتجتها ولا تزال. ولهذا نحن المناضلين والمناضلات [نتّحد] مع بعض، ونعمل مع بعض من أجل حرية فلسطين.”[13] وهذا يذكّرنا بالسياق التاريخي للنضال المشترك الذي يعيدنا إلى التحالف المتجذر في الصراع العالمي ضد العنصرية والإمبريالية.

لقد شكلت فلسطين عامة، وغزة خاصة، رمزية للعالم كنموذج تطوِّر فيه الرأسمالية الاستعمارية أدواتها القمعية الوحشية لتصل إلى محاولات الإبادة لشعب بأكمله يتوق إلى الحرية، وإلى تحطيم قيود العبودية الاستعمارية الاستيطانية التي تمارَس عليه منذ أكثر من 100 عام.

بالعودة إلى شعار “تبييض السجون” الذي تحوّل بالممارسة من إمكان متخيَّل قبل 7 تشرين الأول / أكتوبر إلى واقع برسم التحقق بعده، فإن ذلك يوحي بأن الإمكانات المتخيلة لتحطيم أشكال العبودية السجنية باتت حقيقية وواقعية، وذلك من خلال تحطيم المنظومة التي أوجدتها، وهي المنظومة الاستعمارية القمعية التي تشكل “السجون” إحدى أدواتها. وهذا كله سيتم عن طريق إلغاء أسباب القمع والاضطهاد كلها وإزالتها، ليس في فلسطين المستعمرة استيطانياً فحسب، بل في دول العالم الرأسمالي الاستعماري الذكوري والوحشي أيضاً. فتحطيم العبودية الاستعمارية الاستيطانية مرحلة مهمة للإنسانية وللمضطهدين والمقموعين في العالم الذين عانوا منذ عقود جرّاء آثارها، ولا يزالون يرفضونها ويقاومونها.

 

المصادر:

[1] “كلنا فلسطينيون: رسالة نقابة أساتذة وموظفي جامعة بيرزيت، فلسطين المحتلة“، 11/ 11 / 2023، موقع “ملتقى فلسطين”.

[2] “تقرير حصاد عام 2022 صادر عن مؤسسات الأسرى خلال عام 2022: الاحتلال اعتقل 7000 فلسطيني“، “مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان”، 1 / 1 / 2023.

[3] “السنوار: نمهل الاحتلال وقتاً محدوداً لإتمام صفقة تبادل الأسرى وإلّا سنغلقها للأبد“، قناة “الجزيرة”، في موقع “يوتيوب”، 12 / 12 / 2022.

[4] “كلمة الناطق باسم كتائب القسّام، أبو عبيدة“، موقع “يوتيوب”، 28 / 10 / 2023.

[5] “يحيى السنوار: جاهزون لصفقة للإفراج عن جميع أسرانا لدى الاحتلال مقابل جميع الأسرى لدينا“، تغطية قناة “الجزيرة” لكلمة السنوار بشأن تبادل الأسرى، في موقع “يوتيوب”، 29 / 10 / 2023.

[6] شريف كناعنة، “دراسات في الثقافة والتراث والهوية” (رام الله: المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية / مواطن، 2011).

[7] صفحة “مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان” في موقع “فيسبوك”، 3 / 11 / 2023.

[8] “هيئة الأسرى ونادي الأسير يؤكدان نبأ استشهاد الأسير ماجد أحمد زقول من غزة في سجن عوفر“، صفحة “هيئة شؤون الأسرى والمحررين” في موقع “فيسبوك”.

[9] صفحة المحامي حسن عبادي في موقع “فيسبوك”، 21 / 10 / 2023.

[10] المصدر نفسه، 6 / 11 / 2023.

[11] انظر: “ما التهديدات التي وحّهها الاحتلال الإسرائيلي للأسيرة المحررة لمى خاطر؟“، بثّ مباشر مع الأسيرة في قناة “الجزيرة”، في موقع “يوتيوب”.

[12] “عدد من المعتقلين السياسيين الباسكيين يقررون الإضراب عن الطعام تضامناً مع فلسطين“، “مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان”، 25 / 10 / 2023.

[13] من موقع “يوتيوب”، ندوة بعنوان “الخلاص والتحرير لفلسطين” (Abolition and Liberation of Palestine)، 2 / 11 / 2023.

 

*تم النشر بالتنسيق غير المباشر مع الكاتبة نقلا عن نقلا عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *