تأملات في التحولات الأميريكية من اسرائيل

تأملات في التحولات الأميريكية من اسرائيل

فراس بورزان

28/1/2024

استضاف فريد زكريا، مؤخراً، في برنامجه على محطة الـCNN ريتشارد هاس، الذي رأس مجلس الشؤون الخارجية لمدة عقد من الزمان، وهو شخصية معروفة وتحظى بالتقدير في واشنطن، كما يمكن اعتباره ممثل تيار التقليد المؤسسي للسياسة الخارجية الأمريكية.

‏زكريا اقترح على ضيفه تصنيف لمواقف الأمريكيين من إسرائيل بحسب الأجيال:

  • جيل بايدن، الذي ينظر إلى إسرائيل بمثابة رد على المحرقة (الهولوكست)، بالنسبة لهذا الجيل إسرائيل هي دواد في مواجهة جالوت الذي يمثل العالم العربي، لذلك فهم مؤيدون لإسرائيل بالفطرة؛
  • الجيل الأصغر سناً في أواخر الثلاثينيات وحتى الخمسينيات من أعمارهم، أولئك ينظرون إلى إسرائيل على أنها جالوت ويتخذون موقفاً أكثر توازناً تجاهها؛
  • جيل ثالث في العشرينيات وأوائل الثلاثينيات من العمر ناقد بشدة لإسرائيل ويعتبرها قوة كولونيالية تضطهد الفلسطينيين.

‏هذا التصنيف أثار قلق ضيفه هاس بشأن مستقبل نظرة الأمريكيين لإسرائيل.

هاس حمّل مسؤولية الفشل بالحفاظ على صورة إيجابية لإسرائيل لدى الجمهور الأمريكي للمؤسسات اليهودية الأميركية لسببين، الأول تلك المؤسسات تجاهلت مخاطبة الجمهور الامريكي وصرفت تركيزها ومواردها على الانخراط مع المستويات السياسية العليا للمؤسسة الرسمية ممثلة بالكونجرس والادارة، والسبب الثاني أنهم لم يمارسوا أي ضغط على إسرائيل، وسمح دعمهم غير المشروط لبيبي نتنياهو وغيره من السياسيين الإسرائيليين بإتباع أسوأ غرائزهم وتحويلها إلى سياسات أدت إلى نفور العديد من الأميركيين بشدة.

‏يسمح التأمل في الأسباب التي ذكرها هاس بالاستطراد في نقطتين مرتبطتين ببعضهما في مكان ما:

النقطة الأولى: تحولات العقد الأخير

‏شهد العقد الأخير بشكل ملحوظ تآكل السردية الإسرائيلية التقليدية القائمة على تعليل أخلاقي واستراتيجي للعلاقة الخاصة بين إسرائيل والولايات المتحدة بشكل قوض إلى حد بعيد أسس التعاطف لدى شرائح واسعة من الجمهور الأمريكي، حتى نجوم هوليود من أصول يهودية الذين اعتادوا التعبير بصوت عالي وفخر عن دعمهم لإسرائيل، كان معظمهم صامتاً هذه المرة، واحتاج شخصية معروفة بحماسها لإسرائيل مثل سبيلبرغ إلى شهرين ليخرج في بيان مقتضب يعبر فيه عن تعاطفه.

‏بالإضافة إلى ما ذكره هاس عن انفصال المؤسسات اليهودية الأمريكية عن الجمهور الأمريكي ودعمها الغير مشروط لإسرائيل، ينبغي التأكيد أيضاً على أن غطرسة اسرائيل الهائلة التي تجلت في ممارساتها العنيفة بشكل دموي وغير مسبوق، وسيل تصريحات مسؤوليها المثقلة بعنصرية فاضحة قد كشفت وجه الاحتلال وعرته تماماً أمام عالم مفتوح ومتصل تنتعش فيه مصادر الإعلام البديلة، وأصبح من المستحيل على وسائل الإعلام التقليدية الكبرى إخفاء حقيقة ما يحصل في غزة وفي فلسطين عموماً، بل يمكن ملاحظة تراجع اندفاعها لتبني قصص إسرائيل كما حدث في الأيام الأولى التي أعقبت 7 أكتوبر، عندما نشرت الصحف الكبرى أخبار تزعم قطع رؤوس الأطفال الإسرائيليين.

غير أن ‏تأكل السردية الإسرائيلية لم يؤثر على أتباع التيار الإنجيلي اليميني المتشدد الذي تنبع حماسته لدعم إسرائيل من ذاتيته الغير متصلة تماماً بالسردية التقليدية لإسرائيل، هكذا استثنائية تنقل بدورها إسرائيل من موقع قضية تحظى بإجماع مستقر إلى ورقة تداول سياسي في مناخ غارق في الاستقطاب، وتدريجياً يقود ذلك إلى تراجع الإيمان العريض بحقيقة القيمة الاستراتيجية لإسرائيل، وربما تتقلص مع الوقت إلى أولوية حزبية.

‏كما يسهم صعود السياسات المتطرفة في إسرائيل واستمرار انفجار الأوضاع في المنطقة بتحويلها إلى عبء استراتيجي مع الوقت، بالإضافة إلى التوتر الذي يخلفه تزايد نفوذ الصهيونية الدينية التي لا يعتقد أتباعها بأن إسرائيل ليست مجرد نجمة أخرى في العلم الأمريكي.

النقطة الثانية: معاداة النخب والتشكيك في خياراتها

إن حالة الاستياء والسخط المتفشية بين شرائح واسعة من الجمهور ينتمي للأجيال الأصغر سناً تجاه النخب السياسية والاقتصادية الأمريكية التقليدية، وتحميلها لتلك النخب مسؤولية عدم المساواة وركود الأجور واتساع الفجوة في توزيع الثروة وتراجع الحراك الاجتماعي، وهذا تعكسه مؤشرات تدهور ثقة الجمهور بالمؤسسة الرسمية والنخب السياسية الأمريكية. بحسب مركز pew الأمريكي فإن أقل من اثنين من كل عشرة أمريكيين يثقون في الحكومة في واشنطن على القيام بما هو مطلوب، ويعد مستوى الثقة هذا من بين أدنى مستويات الثقة منذ ما يقرب من سبعة عقود من الاستطلاعات، تدفع الثقة المتدنية بأن تصبح الخيارات السياسية لدى النخب التقليدية موضع تشكيك ورفض من قبل الجمهور الساخط والخيارات المعاكسة هي موضع احتفاء وترحيب.

في الخلاصة، القضية الفلسطينية وسائر القضايا السياسية المرتبطة بمنطقتنا هي في النهاية قضايا أصحابها وهم المعنيون بها قبل غيرهم.

‏بحكم الاتصال الوثيق للعالم ببعضه تصبح تلك القضايا إطارا لنضالات شعوب أخرى، لكن هناك خط فاصل، حيث أن تلك النضالات قد تتطابق أو تختلف في تطلعاتها مع تطلعاتنا كأصحاب القضية.

‏هذا الخط الفاصل ينبغي الالتفات إليه والوعي به وتحديد مواطن القوة التي يمكن توظيفها لصالح قضايانا، في النهاية خلاصنا نصنعه بأيدينا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *