غزة والدور المصري المأمول

غزة والدور المصري المأمول

عمر مراد

9/1/2024

شَيَّدَت مصر بسواعد أَبنائها الأهرامات والمعابد والقصور والمتاحف والسدود وعنابر التخزين وسواقي المياه فازدهرت فيها الصناعة والزراعة والتجارة والسياحة، فكانت المقصد الاقتصادي والحضاري والثقافي ومنارة للإنتاج الفكري والأدبي ومختلف الفنون ، وشقَّت بسواعد عمالها قناة السويس وبنت السد العالي، وطردت بقايا الاستعمار من البلاد وتصدت للعدوان الثلاثي عام 1956م والعدوان الإسرائيلي عام 1967م، وقامت بحرب الاستنزاف بين عامي 1968-1970، وصنعت إنجاز أكتوبر والعبور المجيد 1973م، وقاتلت في فلسطين ودافعت عنها، ترافق ذلك مع دعم غير محدود لحركات التحرر العربية والعالمية، وباتت سنداً لكل المظلومين والمضطهدين ،وهكذا استحقت بجدارة لقب أم الدنيا وريادة الأمة العربية.
لازالت مصر بتاريخها وعراقة حضارتها وأصالة شعبها وهويتها أمام تحديات كبرى داخلية وإقليمية ودولية، وهي مستهدفة بوحدتها ومناعتها وبسيادتها واقتصادها ومياهها، والعدو واحد وإستهدافاته واضحة، وهي استمرار السيطرة والهيمنة على المنطقة وفرض التبعية والتخلف والتدمير المنهجي للمجتمعات العربية اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، ومحاولة اختراقها وإثارة الفتن والنعرات الطائفية والمذهبية والإثنية فيها، ودعم أدواته من جماعات التطرف والإرهاب، فهو العقبة الرئيسية أمام تطورها، وما الكيان الصهيوني إلا أداة مسلحة قاتلة متقدمة للاستعمار والغرب الإمبريالي وعلى رأسه أمريكا، هذا هو المعسكر الذي يهدد الأمن القومي العربي والمصري وكل المنطقة.
إن وجود الكيان الصهيوني بحد ذاته هو الخطر الأول على مستقبل الأمة العربية من المحيط إلى الخليج. فالاتفاقيات والمعاهدات الموقعة معه بأبعادها المختلفة المتعلقة “بالسلام” أو “التطبيع” أو أي شكل من أشكال التعاون معه لن يقي بلدان وشعوب المنطقة شر أعماله ومخططاته ومؤامراته.
ما يتعرض له الشعب الفلسطيني اليوم وخاصة في قطاع غزة من حرب إبادة وتطهير عرقي، ما هو إلا في إطار تصفية القضية الفلسطينية بأبعادها الوطنية والسياسية والديمغرافية، لذلك يستهدف مخطط الاقتلاع والتهجير كل الفلسطينيين في غزة والضفة والقدس وكل فلسطين . ولازال خطر تهجير سكان غزة إلى سيناء قائماً، وما حرب الإبادة المستمرة منذ تسعين يوما إلا دليل على ذلك.
نعم، أن ترفض مصر العربية تهجير الفلسطينيين إلى سيناء أو أي جزء من أراضيها لإفشال مخطط العدو من جهة ولمنع تهديد أمنها القومي من جهة أخرى هذا جيد، ولكن المشهد يشير إلى أن تهديد الأمن القومي المصري لا يبدأ بتهجير الفلسطينيين إلى سيناء، وماذا لو حصل التهجير القسري لهم رغم كل صور الثبات والصمود؟ وخاصة أنهم يتعرضون فعلاً لنكبة ثانية وأكثر بشاعة من نكبة 1948 ارتباطاً بحجم المجازر والجرائم وحرب الإبادة والتطهير العرقي والتدمير الكامل لكل مقومات الحياة، مع أن ذلك لن يقتصر على قطاع غزة بل سيطال كل الفلسطينيين في كل فلسطين.
واهم من يعتقد أن تهديد الأمن القومي المصري توقف يوماً، فهو لازال له الأولوية في تهديد الأمن القومي العربي.
وتتجلى مظاهر تهديد الأمن القومي المصري في العديد من القضايا الداخلية والخارجية منها زعزعة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية بوسائل مختلفة؛ إثارة النعرات الطائفية والمذهبية وتسعير أنشطة عصابات الإرهاب المختلفة والمتنوعة، وإغراق وتكبيل مصر بالديون بهدف إفقار المواطنين وجعلها أسيرة القروض المشروطة والهبات والمساعدات الموجهة لضمان تبعيتها ومنع تطورها سعياً لتهشيم المجتمع وتفككه فيها، وصولاً لتنفيذ أخطر المخططات الصهيوأمريكية، كتلك التي تتم في السودان أو في أكثر من بلد عربي .
وما “سد النهضة” إلا لمزيد من الضغط والإبتزاز وإحكام الخناق على مصر، وأخطاره استراتيجية وبعيدة المدى، خاصة وأن نهر النيل هو “هبة مصر”، كما يقال، وشريان الحياة ونبضها في مصر، فالحد من منسوبه والتحكم بحجم تدفق المياه فيه ما هو إلا تهديد وقتل للحياة واحتجاز للتطور. كل ذلك من أجل أن تبقى مصر العربية والعظيمة منشغلة لأذنيها بنفسها وذاتها ومشاكلها، وحتى لا تقوم بأي دور فاعل وحيوي ومؤثر على مستوى الوطن العربي والمنطقة والعالم لإفشال مخططات المتربصين والمتآمرين على بلادنا ومستقبل أمتنا.
فهذه غزة، بل قطاع غزة يتعرض يوميا للذبح والتدمير والتجويع والطحن، يستغيث ويستنجد بالعرب وكل الأحرار، ويستجير بمصر المشهود لها عبر التاريخ بدعم كل المظلومين والمضطهدين في العالم العربي وكل العالم.
هل يعقل أن تمر جيرة الفلسطينيين ونجدتهم بل وحمايتهم عبر الوساطة مع القاتل والمجرم الفاشي العنصري الصهيوني وسيده الأمريكي، وهل تقبل مصر العظيمة ألا تمر مساعدات الإغاثة من الغذاء والماء والدواء والوقود وآليات الإسعاف والإنقاذ للمصابين ولمن هم تحت الأنقاض إلا بموافقة الكيان الصهيوني، وهل تقبل مصر الحبيبة ألا تتم معالجة الجرحى ومن هم بحاجة للعلاج في الخارج إلا بموافقة النازيين الصهاينة، وإلى متى ستبقى مصر العروبة مكتوفة الأيدي وتراهن بأن مساعيها وعبر التزامها بالمعاهدات والاتفاقيات تستطيع مساعدة الفلسطينيين ووقف جرائم العدو ومنع اجتثاث أبناء شعبنا من أرضهم في غزة أو كل فلسطين .
لازال الأمل بأن تكون مصر للفلسطينيين وكل العرب تماماً كما هي للمصريين، هذه هي قيم الكرامة الوطنية والقومية وهذه هي شيم المصريين وجيش العبور.
لا يخفى على مصر أنها تستطيع القيام بكل ما يلزم من أجل ذلك، ليس بالضرورة عبر الحروب، فهي تمتلك مفاتيح قوية وخيارات عديدة، أقلها التهديد والتهديد بالتنفيذ وثم التنفيذ وهي قادرة على وقف أو تعليق العمل باتفاقيات كامب ديفيد، وكل ما يترتب على مصر من التزامات وقطع كل أشكال العلاقات السياسية والأمنية والاقتصادية وغيرها مع هذا الكيان الصهيوني الفاشي، ووقف كل أنواع الاتصالات معه.
وعندها سترى مصر كيف سيعيد الغرب كله، وأمريكا أولاً، وأيضاً قادة العدو الصهيوني كل حساباتهم، وكيف سيتم وقف عدوانهم ومخططاتهم التآمرية والتصفوية في فلسطين وكل المنطقة، وكيف ستشكل مصر حينها الموقف الفصل في قضايا الأمة وحريتها، وكيف ستغدو مرة أخرى رافعة ومرجعية حقيقية للنضال والقضايا العربية وفي القلب منها فلسطين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *