هل الحرب الروسية على اوكرانيا وجودية؟ من يطيل امد الحرب؟

هل الحرب الروسية على اوكرانيا وجودية؟

من يطيل امد الحرب؟
عبد الرحمن الشامي

6/9/2023

منذ بدء “العملية العسكرية الروسية” في أوكرانيا كما يسميها بوتن، والحرب المفتوحة على أوكرانيا كما يسميها الأوكران، والغموض يلف اهداف هذه الحرب! مرة يتحدث بوتن عن انهاء النازية المزعومة في أوكرانيا ونزع سلاحها! مرة يتحدث عن حياديتها عسكريا! مرة يتحدث عن اعتراف أوكرانيا بالواقع الجغرافي الجديد (بمعنى اعتراف أوكرانيا بالمناطق التي احتلتها روسيا من الأراضي الأوكرانية).
في نفس الوقت التي يتحدث الروس عن اهداف مبهمة في هذه المحرقة البشرية حرفياً نجد ان الصراع مستمر رغم عدم وضوح الأهداف الحقيقية!
يتحدث الاعلام بشكل عام على ان الحرب وجودية بالنسبة للطرفين وان روسيا لو خسرت فإنها ستخسر كدولة ولربما حتى تتفكك لدويلات، ثم من ناحية اخرى لطالما سمعنا في الاعلام ان الحرب الأوكرانية مصيدة من الغرب وان الغرب وخاصة أمريكا مستفيدة من استمرار الحرب وان أمريكا فعليا ليس لديها مشكلة ان “تحارب حتى اخر جندي اوكراني”.
ما لا يريد الاعلام ان يفهمه ان الحرب الروسية على اوكرانيا مفروضة على جميع الاطراف الا طرف واحد! هناك طرف واحد فقط يستطيع ايقاف الحرب اليوم! باقي الاطراف على عكس ما يقول الاعلام تسعى لإيقاف الحرب وليس صحيحا انها تستثمر في طولها!

بالنسبة للطرف الاوكراني هي حرب حياة او موت ليس فقط لان اوكرانيا تدافع عن اراضيها المحتلة وشعبها المختطف! بل لان الروس في حال ايقاف الحرب ولو جزئيا باي نتيجة فأن الروس سوف يعيدون رص الصفوف لاحتلال اوكرانيا كاملة! روسيا اعلنتها صراحة ان اوكرانيا دولة غير موجودة في الفكر الروسي! بمعنى ان حرب الروس على أوكرانيا بالنسبة للأوكران حرفيا هي حرب وجود

بالنسبة للأوربيين هي حرب فرضت عليهم! العقلية الاوربية السياسية هي عقلية رأسمالية تهتم بالاستثمار وليس الحروب وقد خفض الاوربيون قبل تلك الحروب من انفاقهم في مجال الدفاع! الامر اختلف عندما علموا ان هناك جار مختل عقليا ممكن في أي لحظة ان يباشر بالهجوم العسكري على أراضيهم
هل تستفيد أمريكا حقيقة باستنزاف الروس؟
على عكس الصورة النمطية وعلى الرغم من استفادة امريكا من كثير من اوجه هذا الحرب “بسبب سياستهم الادارية المتفوقة التي تحول المخاطر الى فرص” لكن الامريكان ليسوا سعداء بإطالة أمد الحرب! السردية الاعلامية هي أن امريكا سعيدة لاستنزاف روسيا! لكن هذه سردية ساذجة والسبب الاول ان امريكا لم تكن تعد روسيا خطرا عليها. الصين هي الخطر الاساسي على امريكا سواء اقتصاديا او عسكريا بسبب قرب امريكا من الصين وتايوان وكوريا الجنوبية والفلبين وصولا حتى لأستراليا.
المنطقة المذكورة أعلاه هي منطقة مهمة جدا للتأثير الأمريكي وهي بدون شك اهم بكثير من المنطقة الاوربية من حيث العقلية الأمنية الامريكية! استنزاف طاقات الصين هو الاهم لأمريكا! وجود روسيا كنظام وظيفي يتعامل مع امريكا “كما كان الحال قبل اعلان بوتن الحرب على اوكرانيا” هو الخيار الافضل لأمريكا لان الامريكان كانوا يريدون روسيا نقطة ضغط ومنافس للنظام الصيني وليس كما هو الواقع الان.

استنزاف روسيا لن يعود بفوائد حقيقية على امريكا بالعكس سيقوي الصين لان استنزاف روسيا يصب مباشرة في مصلحة الصين ويسهل لها الحصول على الثروات الباطنية التي تفتقدها بأقل الأسعار وبالتالي ان أدى الى ضعف الروس فهو بالضرورة يؤدي الى تقوية النظام الأخطر على أمريكا أي النظام الصيني.

استزاف روسيا لن يؤدي الى فوائد للولايات المتحدة الامريكية

النقطة الثانية هي ان في الدول الديمقراطية يكره الناخب الحروب ويطالب دائما مرشحيه بالإفصاح عن سبب الاستثمار في الحروب! لذلك الامريكان غير قادرين على الاستثمار في دعم اوكرانيا الى ما لا نهاية! على عكس روسيا التي رغم ان اقتصادها لا يقارن بالاقتصاد الأمريكي الا ان الناخب الروسي لا حول له ولا قوة ولا تأثير والقول والحل دائما بيد الدكتاتور هو من يقرر اين ولماذا يصرف المال الروسي.

اذاً على عكس ما يقول اعلام الأنظمة العربية الدكتاتورية والحليفة لروسيا ليس من مصلحة الامريكان إطالة امد الحرب! السبب الأساسي للاستثمار في هذه الحرب هو لأنهم يعلمون ان لو خسر الأوكران سيضطر الامريكان لإرسال جنودهم للدفاع عن بولندا والبلطيق! الاستثمار في الجيش الاوكراني يحمي حياة الجنود الامريكان بشكل مباشر! انتصار اوكرانيا ينهي الخطر المحتمل على حياة الجنود الأمريكيين.
العامل الاخر هو الخلاف بين الديمقراطيين والجمهوريين وتحديدا جناح واحد معين في الحزب الجمهوري وهم مؤيدي الرئيس السابق ترامب والذين توعدوا بأنهم في حال وصلوا للسلطة سوف ينهون التأييد الأمريكي للحرب! هذا أيضا سبب مهم يضغط على الديمقراطيين لأنهاء الحرب في اسرع وقت ممكن ولكن بالنتيجة المطلوبة كي لا يخسر الديمقراطيين الانتخابات الرئاسية بسبب الحرب في أوكرانيا من ناحية و أيضا لكي لا يفشل ترامب مثلا كل المجهود والاستثمارات التي وضعت لمساعدة أوكرانيا على النصر في حال وصل ترامب قبل نهاية الحرب وفي حال كانت سياسته متساهلة مع الروس وغير حاسمة بشكل كافي يمنع الروس من تكرار اعتدائهم على الأوكران وربما في ما بعد بولندا او البلطيق بل ويفتح الباب امام الصين للتفكير جدا بضم تايوان وهي الحرب الأهم لأمريكا.

الجيش الاوكراني يحمي حياة المدنيين الاوكرانيين

من يستطيع انهاء هذه الحرب؟
من القادر إذاً على انهاء الحرب؟ ان كانت الحرب بالفعل حرب وجودية للأوكران والغرب وامريكا لا يريدون استمرار الصراع الا الما لا نهاية لماذا إذاً لا تنتهي الحرب في أوكرانيا؟

الحقيقة هي أن الطرف الوحيد القادر على انهاء الحرب اليوم هو بوتن! لا يوجد اي خطر حقيقي او استراتيجي على روسيا في حالة خسارة الحرب الاوكرانية! لقد خسر الامريكان حرب فيتنام وخسروا حرب افغانستان! لم يؤثر ذلك لا على حياة المواطن الامريكي ولا على موقع أمريكا عالمياً! الكلام ان هذه الحرب “مصيرية” لروسيا هو مجرد اجترار لما يردده اعلام الدكتاتور بوتن ومجنونه المفضل ميدفيدف لإيهام الشعب الروسي ان هذه الحرب تستحق الموت من اجلها! المتضرر في حالة خسارة روسيا الحرب هو كبرياء بوتن وانفضاح عورته! لذلك فأن بوتن مستعد ان يضحي بالاقتصاد الروسي وبحياة الشعب الروسي وتجويع العالم على ان ينفضح كغبي دخل حربا لم تجر على الجميع الا الدمار ولم تصنع منه قيصراً كما كان يريد!
هل هناك افق على الأقل بتسوية سياسية حقيقية؟
المشكلة في النزاعات من هذا النوع ان العامل الذي يضغط على أطراف الحرب هو مدى خسائرها البشرية من ناحية ومدى أهمية تلك الخسائر وتأثيرها في اتخاذ قرار وقف إطلاق النار!
لو قارنا هذه الحرب مثلاً بالصراع العربي الإسرائيلي فأننا سنشاهد بوضوح ان كل تصعيد عسكري غالبا ينتهي في حدود الشهر والسبب حقيقة هو عدم تحمل الطرفين للخسائر البشرية! لا الفدائيين الفلسطينيين مستعدين لان يدفعوا ثمنا مؤلما من الخسائر البشرية ببساطة لانهم يدافعون عن أهلهم وكل خسارة بشرية هي في منتهى الألم لهم ولا الطرف الإسرائيلي قادر على تحمل ادنى الخسائر البشرية لان إسرائيل دولة وهمية قائمة على الترويج لمستوى الحياة العالي على الأراضي المحتلة وهم بالكاد يدفعون المتجنسين للانخراط في صفوف جيش الاحتلال بالتالي كل اسير او قتيل في صفوف الجيش الإسرائيلي او من سكان المغتصبات يؤثر بشكل كبير جدا على صورة إسرائيل نفسها.
النتيجة هي ان طور تصعيد عسكري غالبا ما يشهد تهدئة بعده لان الطرفين يتألمان بشكل كبير من الخسائر البشرية!
لو قارنا هذا مع الحرب الروسية على أوكرانيا فأن الطرف الاوكراني بالفعل يتألم وبشدة من الخسائر البشرية، وهذا كان سبب موافقة الأوكران على اتفاقية مينسك المجحفة على الرغم ان الروس لم يكن يملكون الحق في ان يتدخلوا بأوكرانيا أصلا، هذا أيضا كان سبب انتخاب الأوكران لزيلنسكي تحديدا لأنه كان يحمل اجندة تهدئة عسكرية في الدونباس بدل من حسم الحرب وقد حصل! في اخر عامين قبيل الهجوم الروسي البربري على أوكرانيا كانت الخسائر البشرية في الدونباس وبتهدئة عسكرية من طرف واحد هو الطرف الاوكراني في حدودها الدنيا.

محطة كاخوفكا لتوليد الطاقة بعد تفجيرها من قبل القوات الروسية

إذاً الطرف الاوكراني يتألم بالفعل من الخسائر البشرية، لكنه اليوم أدرك انه وقع في هذا الفخ مراراً وتكراراً مع الروس وان أي تهدئة مع الروس اليوم تعني حرباً اسوء، وخسائر أكبر مع الروس، وان الحل الوحيد لإيقاف النزيف البشري هو انهاء هذه الحرب الان وعدم تأجيلها لحد ما يصبح الروس اقوى وأقدر على القتل بعدد أكبر وبنسب مضاعفة!
على الطرف الاخر، ولو اخذنا السجل العسكري لروسيا في حروبها في أفغانستان والشيشان الأولى والثانية وجورجيا وسوريا وحتى أوكرانيا مرتين من الواضح ان الروس ببساطة لا يهتمون للخسائر البشرية! بل ان هذه النقطة تحديدا هي لربما اقوى ميزة يتمتع بها الجيش الروسي! هي ميزة ان القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة مستعد لان يضحي بحياة نصف الجيش او أكثر في سبيل أي هدف عسكري او سياسي تافه! هذا هو الامر الأساسي ربما الذي يجعل من الجيش الروسي قوة مخيفة! لان أي طرف يحارب الروس يعلم ان لا سبيل لهزيمة الروس عن طريق قتل الجنود الروس! أي حرب روسية لا تنتهي الا بهزيمة القيادة الروسية واجبارها على التراجع! مما يعني ان الاستراتيجية الأفضل هي استهداف الكبرياء الروسي ومحاولة اذلال الدولة الروسية بأكبر قدر ممكن حتى يصل النظام الدكتاتوري الحاكم هو او المستفيدين منه الا قناعة ان الحرب أصبحت مذلة للنظام وخطر على بقائه! هنا فقط ممكن ان يبدأ الروس في التراجع
مما سبق أعلاه يمكن الوصول الى سبب طول الحرب وسبب عدم تراجع بوتن عن حربه حتى لو كانت أهدافه غير واضحة والكلفة البشرية بالنسبة له عالية جداً فالدكتاتور الروسي لا يريد بمظهر الفاشل بين اقرانه! لكن هل إطالة امد الحرب من مصلحة بوتن نفسه؟ في الحقيقة لا ابداَ! بوتن أصبح يعيش على وهم التخلي الأوربي او الأمريكي يوما ما على أوكرانيا واستنزاف موارد أوكرانيا لتحقيق ولو انتصار بسيط كي يكتب التاريخ الروسي ان بوتن أضاف لروسيا مدينة او مقاطعة! دون ان يهتم “القيصر الروسي” الى تكلفة هذا الامر! فالهدف النهائي هو المجد الشخصي! لكنه يدرك ان الكلفة البشرية أصبحت عامل ضغط عليه لذلك يقوم بالاستثمار الإعلامي للترويج لفكرة انه اجبر على دخول هذه الحرب وإنها حرب وجودية لروسيا! وان الغرب هو من يمد امد هذه الحرب اعتمادا على مدرسة البروباغاندا الروسية التي تعمل على مبدأ” كل ما هو جيد في روسيا بفضل بوتن وكل ما هو سيء بسبب الغرب الامبريالي”.

غرق البيوت و الاراضي في خيرسون نتيجة تفجير القوات الروسية لسد محطة كاخوفكا لتوليد الطاقة الكهرومائية

اذا بالنهاية بينما يملك الروس رفاهية  خيار التراجع عن الخطأ كما فعل الامريكان في فيتنام وأفغانستان وهذا هو السيناريو الأفضل للعالم الذي بات يعاني من حرب بوتن المسعورة على أوكرانيا بداية من سعر القمح ونهاية الى كساد تلى كساد الكورونا، لكن على الطرف الاخر لا تملك أوكرانيا خيار التخلي عن امنها بل ووجودها كدولة ولا يملك العقلاء في الغرب خيار التساهل مع الغزو الروسي الذي تكرر للمرة الثالثة في قلب أوربا في اخر 15 سنة فقط! مما يشكل مؤشر واضح على ان عدم الردع سيؤدي بالضرورة للتكرار.
كذلك فأن العقلاء في القيادة الامريكية يدركون انهم ان رخوا الحبل للروس فان أمريكا بعد ان غيرت استراتيجيتها بعد حقبة الارعن جورج بوش الابن من حروب حول العالم الى استراتيجية مبنية على التدخل غير المباشر والتقليل من الوجود العسكري خارج الولايات المتحدة فأنها لو رخت الحرب لبوتن ستصبح مضطرة ربما لأن تحارب غدا في بولندا وبعد الغد في تايوان.
في عالم افتراضي موازي كان من الممكن ان نتخيل ان تنتهي الحرب غدا بخطاب من بوتن يعلن فيه ولو شكليا انه حرصا على دم العرق السلافي هو مستعد لإيقاف الحرب وسحب قواته من طرف واحد والتفاوض الطويل الأمد على الأراضي التي احتلها بان تحصل على حكم خاص ذاتي داخل السيادة الأوكرانية لإجبار الأوكران على التفاوض ولو فعلها لكان سياسي محنك يفهم ان في عالم اليوم يمكن من خلال التدخل الغير مباشر واللوبيات ان تحقق ما لا يمكن تحقيقه من خلال السلاح لكن للأسف بوتن الذي صعد سلطانه في حقبة التسعينيات ضمن مافيا سانت بطرسبرغ لا يفهم الا عقلية الابتزاز العسكري مما يعني صراحة اننا امام حرب طويلة ومرهقة للعالم كله.
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *